الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين بل الله مولاكم وهو خير الناصرين سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين ) . [ ص: 65 ] " كأين " كلمة يكثر بها بمعنى كم الخبرية ، وقل الاستفهام بها . والكاف للتشبيه ، دخلت على " أي " وزال معنى التشبيه ، هذا مذهب سيبويه والخليل ، والوقف على قولهما بغير تنوين . وزعم أبو الفتح : أن أيا وزنه فعل ، وهو مصدر " أوى " يأوي ، إذا انضم واجتمع ، أصله " أوى " عمل فيه ما عمل في طي مصدر طوي . وهذا كله دعوى لا يقوم دليل على شيء منها . والذي يظهر أنه اسم مبني بسيط لا تركيب فيه ، يأتي للتكثير مثل " كم " ، وفيه لغات : الأولى وهي التي تقدمت ، و " كائن " ومن ادعى أن هذه اسم فاعل من كان ، فقوله بعيد . و " كئن " على وزن كعن ، وكأين وكيين ، ويوقف عليها بالنون . وأكثر ما يجيء تمييزها مصحوبا بمن . ووهم ابن عصفور في قوله : إنه يلزمه من ، وإذا حذفت انتصب التمييز سواء أوليها أم لم يليها ، نحو قول الشاعر :


أطرد اليأس بالرجاء فكأين ألما عم يسره بعد عسر



وقول الآخر :


وكأين لنا فضلا عليكم ونعمة     قديما ولا تدرون ما من منعم



الرعب : الخوف ، رعبته فهو مرعوب . وأصله من الملئ . يقال : سيل راعب يملأ الوادي ، ورعبت الحوض : ملأته .

السلطان : الحجة والبرهان ، ومنه قيل للوالي : سلطان . وقيل : اشتقاق السلطان من السليط ، وهو ما يضيء به السراج من دهن السمسم . وقيل : السليط الحديد ، والسلاطة الحدة ، والسلاطة من التسليط وهو القهر والسلطان من ذلك ، فالنون زائدة . والسليطة : المرأة الصخابة . والسليط : الرجل الفصيح اللسان .

المثوى : مفعل من ثوى يثوي أقام . يكون للمصدر والزمان والمكان ، والثواء : الإقامة بالمكان .

الحس : القتل الذريع ، يقال : حسه يحسه . قال الشاعر :


حسسناهم بالسيف حسا فأصبحت     بقيتهم قد شردوا وتبددوا



وجراد محسوس : قتله البرد ، وسنة حسوس : أتت على كل شيء .

التنازع : الاختلاف ، وهو من النزع وهو الجذب . ونزع ينزع جذب ، وهو متعد إلى واحد . ونازع متعد إلى اثنين ، وتنازع متعد إلى واحد . قال :


فلما تنازعنا الحديث وأسمحت     هصرت بغصن ذي شماريخ ميال



( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) هذه الآية وما بعدها عتب شديد لمن وقعت منهم الهفوات يوم أحد . واستفهم على سبيل الإنكار أن يظن أحد أن يدخل الجنة وهو مخل بما افترض عليه من الجهاد والصبر عليه . والمراد بنفي العلم انتفاء متعلقه ؛ لأنه منتف بانتفائه كما قال تعالى : ( ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ) المعنى : لم يكن فيهم خير ؛ لأن ما لم يتعلق به علم الله تعالى موجودا لا يكون موجودا أبدا .

و " أم " هنا منقطعة في قول الأكثرين تتقدر ببل ، والهمزة على ما قرر في النحو . وقيل : هي بمعنى الهمزة . وقيل : " أم " متصلة . قال ابن بحر : هي عديلة همزة تتقدر من معنى ما تتقدم ، وذلك أن قوله : ( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم ) إلى آخر القصة يقتضي أن يتبع ذلك : أتعلمون أن التكليف يوجب ذلك ، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة من غير اختبار وتحمل مشقة ، [ ص: 66 ] وأن تجاهدوا فيعلم الله ذلك منكم واقعا . انتهى كلامه . وتقدم لنا إبطال مثل هذا القول . وهذا الاستفهام الذي تضمنته معناه الإنكار والإضراب الذي تضمنته أيضا هو ترك لما قبله من غير إبطال وأخذ فيما بعده .

وقال أبو مسلم الأصبهاني : " أم حسبتم " نهي وقع بلفظ الاستفهام الذي يأتي للتبكيت . وتلخيصه : لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولما يقع منكم الجهاد . لما قال : ( ولا تهنوا ولا تحزنوا ) كان في معنى : أتعلمون أن ذلك كما تؤمرون به ، أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة وصبر . وإنما استبعد هذا لأن الله تعالى أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة ، وأوجب الصبر على تحمل مشاقها ، وبين وجوه مصالحها في الدين والدنيا . فلما كان كذلك كان من البعد أن يصل الإنسان إلى السعادة والجنة مع إهمال هذه القاعدة . انتهى كلامه . وظاهره : أن " أم " متصلة ، وحسبتم هنا بمعنى ظننتم الترجيحية ، وسد مسد مفعوليها " أن " وما بعدها على مذهب سيبويه ، وسد مسد مفعول واحد والثاني محذوف على مذهب أبي الحسن .

" ولما يعلم " جملة حالية ، وهي نفي مؤكد لمعادلته للمثبت المؤكد بقد . فإذا قلت : قد قام زيد ، ففيه من التثبيت والتأكيد ما ليس في قولك : قام زيد . فإذا نفيته قلت : لما يقم زيد . وإذا قلت : قام زيد كان نفيه لم يقم زيد ، قاله سيبويه وغيره . وقال الزمخشري : ولما بمعنى لم ، إلا أن فيه ضربا من التوقع ، فدل على نفي الجهاد فيما مضى ، وعلى توقعه فيما يستقبل . وتقول : وعدني أن يفعل كذا ، ولما تريد ، ولم يفعل ، وأنا أتوقع فعله . انتهى كلامه . وهذا الذي قاله في " لما " أنها تدل على توقع الفعل المنهي بها فيما يستقبل - لا أعلم أحدا من النحويين ذكره . بل ذكروا أنك إذا قلت : لما يخرج زيد ، دل ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى متصلا نفيه إلى وقت الإخبار . أما أنها تدل على توقعه في المستقبل فلا ، لكنني وجدت في كلام الفراء شيئا يقارب ما قاله الزمخشري . قال : " لما " لتعريض الوجود بخلاف " لم " .

وقرأ الجمهور بكسر الميم ؛ لالتقاء الساكنين . وقرأ ابن وثاب والنخعي بفتحها ، وخرج على أنه إتباع لفتحة اللام وعلى إرادة النون الخفيفة وحذفها ، كما قال الشاعر :


لا تهين الفقير علك أن     تركع يوما والدهر قد رفعه



وقرأ الجمهور : " ويعلم " برفع الميم ، فقيل : هو مجزوم ، وأتبع الميم اللام في الفتح كقراءة من قرأ : " ولما يعلم " بفتح الميم على أحد التخريجين . وقيل : هو منصوب . فعلى مذهب البصريين بإضمار " أن " بعد واو مـع نحو : لا تأكل السمك وتشرب اللبن . وعلى مذهب الكوفيين بواو الصرف ، وتقرير المذهبين في علم النحو . وقرأ الحسن وابن يعمر وأبو حيوة وعمرو بن عبيد بكسر الميم عطفا على " ولما يعلم " . وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو " ويعلم " برفع الميم . قال الزمخشري : على أن الواو للحال ، كأنه قيل : ولما تجاهدوا وأنتم صابرون . انتهى . ولا يصلح ما قال ؛ لأن واو الحال لا تدخل على المضارع ، يجوز : جاء زيد ويضحك ، وأنت تريد جاء زيد يضحك ؛ لأن المضارع واقع موقع اسم الفاعل . فكما لا يجوز جاء زيد وضاحكا ، كذلك لا يجوز جاء زيد ويضحك . فإن أول على أن المضارع خبر مبتدأ محذوف أمكن ذلك ، التقدير : وهو يعلم الصابرين ، كما أولوا قوله : نجوت وأرهنهم مالكا ، أي وأنا أرهنهم . وخرج غير الزمخشري قراءة الرفع على استئناف الإخبار ، أي : وهو يعلم الصابرين .

وفي إنكار الله تعالى على من [ ص: 67 ] ظن أن دخول الجنة يكون مع انتفاء الجهاد والصبر عند لقاء العدو - دليل على فرضية الجهاد إذ ذاك والثبات للعدو ، وقد ذكر في الحديث " أن التولي عند الزحف من السبع الموبقات " .

التالي السابق


الخدمات العلمية