الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 663 ] وأما الرجل إذا أسلم ، وامتنعت المشركة أن تسلم ، فإمساكه لها يضر بها ، ولا مصلحة لها فيه ، فإنه إذا لم يقم لها بما تستحقه كان ظالما ، فلهذا قال تعالى : ( ولا تمسكوا بعصم الكوافر ) ، فنهى الرجال أن يستديموا نكاح الكافرة ، فإذا أسلم الرجل أمرت امرأته بالإسلام ، فإن لم تسلم فرق بينهما .

                          [ ص: 664 ] قال شيخنا : " وقد يقال : بل هذا النهي للرجال ثابت في حق النساء ، ويقال : إن قضية زينب منسوخة ، فإنها كانت قبل نزول آية التحريم لنكاح المشركات ، وهذا مما قاله طائفة : منهم محمد بن الحسن " .

                          قلت : وهذا قاله غير واحد من العلماء .

                          قال أبو محمد بن حزم : أما خبر زينب فصحيح ، ولا حجة فيه ؛ لأن إسلام أبي العاص كان قبل الحديبية ، ولم يكن نزل بعد تحريم المسلمة على المشرك ، وكذلك قال البيهقي .

                          قال شيخنا : " لكن يقال : فهذه الآية كانت قبل فتح مكة بعد الحديبية ، ثم لما فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة رد نساء كثيرا على أزواجهن بالنكاح الأول ، لم يحدث نكاحا ، وقد احتبس أزواجهن عليهن ، ولم يأمر رجلا واحدا بتجديد النكاح ألبتة ولو وقع ذلك لنقل ولما أهملت الأمة نقله .

                          قلت : وبهذا يعلم بطلان ما قاله أبو محمد بن حزم فإنه قال : " ولا سبيل إلى خبر صحيح بأن إسلام رجل يقدم على إسلام امرأته ، أو يقدم إسلامها عليه ، وأقرهما على النكاح الأول ، فإذ لا سبيل إلى هذا فلا يجوز أن يطلق على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه إطلاق الكذب والقول بغير علم .

                          [ ص: 665 ] قال : فإن قيل : قد روي أن أبا سفيان أسلم قبل هند ، وامرأة صفوان أسلمت قبل صفوان ، قلنا : من أين لكم أنهما بقيا على نكاحهما فلم يجددا عقدا ؟ وهل جاء ذلك قط بإسناد صحيح متصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عرف ذلك فأقره ؟ حاش لله من هذا " انتهى كلامه .

                          وهذا من أوابده ، وإقدامه على إنكار المعلوم لأهل الحديث ، والسير بالضرورة ، بل من له إلمام بالسنة ، وأيام الإسلام ، وسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكيفية إسلام الصحابة ، ونسائهم يعلم علما ضروريا لا يشك فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعتبر في بقاء النكاح أن يتلفظ الزوجان بالإسلام تلفظا واحدا ، لا يتقدم أحدهما على الآخر بحرف ، ولا يتأخر عنه بحرف ، لا قبل الفتح ولا بعده إلى أن توفاه الله عز وجل ، ويعلم علما ضروريا أنه لم يفسخ عقد نكاح أحد سبق امرأته بالإسلام ، أو سبقته ، ثم أسلم الثاني لا في العدة ، ولا بعدها .

                          وكذلك أيضا يعلم أنه لم يجدد نكاح أحد سبقته امرأته بالإسلام ، أو سبقها ، ثم أسلم الثاني لا في العدة ، ولا بعدها .

                          وكذلك أيضا يعلم أنه لم يجدد نكاح أحد سبقته امرأته ، أو سبقها بالإسلام بحيث أحضر الولي والشهود وجدد العقد والمهر ، وتجويز وقوع مثل هذا - ولا ينقله بشر على وجه الأرض - يفتح باب تجويز المحالات ، وأنه كان لنا صلاة سادسة ، ولم ينقلها أحد وأذان زائد ، ولم ينقله أحد ، ومن هذا النمط ، وذلك من أبطل الباطل وأبين المحال ، فهذه سيرة رسول الله [ ص: 666 ] - صلى الله عليه وسلم - وأحواله وأحوال أصحابه بين أظهر الأمة تشهد ببطلان ما ذكره ، وأن إضافته إليه محض الكذب ، والقول عليه بلا علم .

                          فإن قيل : فقد روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد ابنته على أبي العاص بمهر جديد ، ونكاح جديد رواه الترمذي ، فكيف تقولون : إنه لم يجدد لأحد ممن تقدم إسلام امرأته نكاحا ؟

                          قيل : هذا الحديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قاله أئمة الحديث .

                          قال الترمذي : " في إسناده مقال " .

                          [ ص: 667 ] وقال الإمام أحمد : " هذا حديث ضعيف ، والحديث الصحيح : الذي روي أنه أقرها على النكاح الأول " هذا لفظه .

                          وقال الدارقطني : " هذا حديث لا يثبت ، والصواب حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ردها بالنكاح الأول " .

                          وقال الترمذي في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - " أنه ردها بالنكاح الأول فكان إسلامها قبل إسلامه بست سنين ، ولم يحدث نكاحا " هذا حديث حسن ليس بإسناده بأس .

                          [ ص: 668 ] فإن قيل : الكلام مع من صحح هذا الحديث ، فإنه حديث مضطرب : قد روي أنه " كان بين إسلامهما سنتان " ، وروي " ست سنين " ، ولا يصح واحد من الأمرين ، فإن زينب لم تزل مسلمة من بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأبو العاص أسلم في السنة السادسة في زمن الهدنة ، فبين إسلامه ، وإسلامها ثمان عشرة سنة ، أو ما يزيد عليها ، وكذلك رواية من روى " سنتين " هي غلط قطعا ، فإن زينب لم تبق مشركة إلى السنة الرابعة من الهجرة ، والحديث من رواية ابن إسحاق ، وكلام الأئمة فيه معروف .

                          فالجواب أن يقال : من أين لكم تقدم إسلام زينب من أول المبعث ، فإنها كانت تحت أبي العاص بن الربيع ، وهو مشرك ، وأصح ما في تقدم إسلامها حديث ابن عباس هذا ، وهو يقتضي أنها أسلمت حين هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة .

                          [ ص: 669 ] وكذلك قال ابن شهاب : أسلمت زينب ، وهاجرت بعد هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيأتي ذكر ذلك على أنه كان إسلامها من حين المبعث كما حكى فيه الإجماع أبو محمد بن حزم ، فقال : " وقد أسلمت زينب في أول مبعث أبيها - صلى الله عليه وسلم - لا خلاف في ذلك ، ثم هاجرت إلى المدينة ، وزوجها كافر ، فكان بين إسلامها وإسلامه أزيد من ثمان عشرة سنة ، وقد ولدت في خلال ذلك علي بن أبي العاص ، " وهذا الذي قاله أبو محمد هو الحق ، وأنها لم تزل مسلمة من حين بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويمكن التوقيت بالسنتين أو بالست كان بين إسلامه ، وظهور إسلامها ، وإعلانه بالهجرة ، فإن نساء المؤمنات كن يستخفين من أزواجهن بالإسلام في مكة ، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أظهر من هاجر معه منهن إسلامها ، وزينب هاجرت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعد وقعة بدر ، فكان بين ظهور إسلامها بهجرتها ، وإسلام أبي العاص سنتان .

                          وأما الست سنين فهي بين ظهور الإسلام العام بالهجرة ، وإسلام أبي العاص . [ ص: 670 ] على أن عبد الرزاق قد ذكر عن ابن جريج ، عن رجل ، عن ابن شهاب قال : [ ص: 671 ] أسلمت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهاجرت بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة الأولى ، وزوجها أبو العاص بن الربيع بمكة مشرك ، ثم شهد أبو العاص " بدرا " مشركا ، فأسر ففدي ، وكان موسرا ، ثم شهد " أحدا " مشركا ، ورجع إلى مكة ، ومكث بها ما شاء الله ، ثم خرج إلى الشام تاجرا فأسر بطريق الشام ، أسره نفر من الأنصار ، فدخلت [ ص: 672 ] زينب على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إن المسلمين يجير عليهم أدناهم ، فقال : وما ذاك يا زينب ؟ فقالت : أجرت أبا العاص . فقال : " قد أجرت جوارك " ثم لم يجر جوار امرأة بعدها ، ثم أسلما ، فكانا على نكاحهما .

                          وكان عمر خطبها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر لها النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، فقالت : أبو العاص يا رسول الله حيث علمت ، وقد كان نعم الصهر ، فإن رأيت أن تنتظره ، فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك .

                          قلت : قوله : " ثم أسلما " أي اجتمعا على الإسلام ، وإلا فزينب أسلمت [ ص: 673 ] قبله قطعا ، وهاجرت بعد " بدر " قطعا كما في " المسند " ، و " السنن " من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت : لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب في فداء أبي العاص بمال ، وبعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة أدخلتها بها على أبي العاص . قالت فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رق لها رقة شديدة ، وقال : " إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها " ، قالوا : نعم . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ عليه ، أو وعده ، أن يخلي سبيل زينب إليه ، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار ، فقال : " كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتيا بها " .

                          [ ص: 674 ] وأما تعلقكم على محمد بن إسحاق فتعلق ضعيف ، وقد صحح الأئمة حديثه هذا ، وبينوا أنه أولى بالصحة من حديث عمرو بن شعيب أنه ردها بنكاح جديد ، وأن ذلك لا يثبت ، كما تقدم حكاية كلامهم ، وثناء الأئمة على ابن إسحاق وشهادتهم له بالإمامة ، والحفظ ، والصدق أضعاف أضعاف القدح فيه .

                          [ ص: 675 ] [ ص: 676 ] وقد أجيب عن حديث زينب - رضي الله عنها - بأجوبة كلها ضعيفة أو فاسدة ، ونحن نذكرها .

                          قال أبو عمر : " إن صح حديث ابن عباس هذا ، فلا يخلو من أحد وجهين :

                          إما أنها لم تحض ثلاث حيض حتى أسلم زوجها .

                          وإما أن الأمر فيها منسوخ بقوله تعالى : ( وبعولتهن أحق بردهن في ذلك ) ، يعني في عدتهن ، وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء : أنه عنى به العدة .

                          وقال ابن شهاب في قصة زينب هذه : كان هذا قبل أن تنزل الفرائض .

                          قال قتادة : كان هذا قبل أن تنزل سورة " براءة " بقطع العهود بين المسلمين والمشركين .

                          وقد روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد ابنته إلى أبي العاص بن الربيع بنكاح جديد ، وإذا كان هذا سقط القول في قصة زينب .

                          [ ص: 677 ] وكذلك قال الشعبي - مع علمه بالمغازي - " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرد زينب إلى أبي العاص إلا بنكاح جديد " ، ولا خلاف بين العلماء في الكافرة تسلم ، ويأبى زوجها الإسلام حتى تنقضي عدتها ، أنه لا سبيل له عليها إلا بنكاح جديد .

                          وهذا كله يتبين به أن قول ابن عباس - رضي الله عنهما - : " ردها على النكاح الأول " أنه أراد به على مثل الصداق الأول إن صح ، وحديث عمرو بن شعيب عندنا صحيح " انتهى كلامه .

                          قلت : أما كونها لم تحض في تلك السنين الست إلا ثلاث حيض فهذا - مع أنه في غاية البعد وخلاف ما طبع الله عليه النساء - فمثله لو وقع لنقل ، ولم ينقل ذلك أحد ، ولم يحد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقاء النكاح بمدة العدة حتى يقال : لعل عدتها تأخرت ، فلا التحديد بالثلاث حيض ثابت ، ولا تأخرها ست سنين معتاد .

                          [ ص: 678 ] وأما ادعاء نسخ الحديث فأبعد وأبعد ، فإن شروط النسخ منتفية ، وهي وجود المعارض ، ومقاومته ، وتأخره ، فأين معكم واحد من هذه الثلاثة ؟

                          وأعجب من هذا دعوى أن يكون الناسخ قوله تعالى : ( وبعولتهن أحق بردهن في ذلك ) ، فإن هذا في المطلقات الرجعيات بنص القرآن ، واتفاق الأمة ، ولم يقل أحد : أن إسلام المرأة طلقة رجعية يكون بعلها أحق بردها في عدتها ، والذين يحكمون بالفرقة بعد انقضاء العدة لا يوقعونها من حين الإسلام ، بخلاف الطلاق فإنه ينفذ من حين التطليق ، ويكون للزوج الرجعة في زمن العدة .

                          وأما قول الزهري : " إن هذا كان قبل أن تنزل الفرائض " ، فكأنه أراد أن الحديث منسوخ ، فيقال : وأين الناسخ من كتاب الله أو سنة رسوله ؟ فإن قال : الناسخ له قوله تعالى : ( لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ) ، فيقال : هذه الآية نزلت في قصة صلح الحديبية باتفاق الناس ، ورد زينب على أبي العاص كان بعد ذلك لما قدم من الشام في زمن الهدنة ، ولهذا [ ص: 679 ] قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لزينب " أكرمي مثواه ، ولكن لا يصل إليك " ، امتثالا لقوله تعالى : ( لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ) ، ثم ذهب أبو العاص إلى مكة فرد الودائع ، والأمانات التي كانت عنده ، ثم جاء فأسلم ، فردها عليه بالنكاح الأول .

                          وقوله : " إن ذلك كان قبل أن تنزل الفرائض " لم يرد به فرائض الإسلام ، فابن شهاب أعلم وأجل من أن يريد ذلك ، والظاهر أنه إنما أراد فريضة تحريم نكاح المشرك ، والمشركة .

                          وأقصى ما يقال : إن رد زينب على أبي العاص ، ونزول آية التحريم كانا في زمن الهدنة ، فمن أين يعلم تأخر نزول الآية عن قصة الزوجين ، لتكون ناسخة لها ؟ ولا يمكن دعوى النسخ بالاحتمال .

                          وأما قول قتادة : كان هذا قبل أن تنزل سورة " براءة " بقطع العهود بين المسلمين ، والمشركين فلا ريب أنه كان قبل نزول " براءة " ولكن أين في [ ص: 680 ] سورة براءة ما يدل على إبطال ما مضت به سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حين بعث إلى أن توفاه الله تعالى من عدم التفريق بين الرجل ، والمرأة ، إذا سبق أحدهما بالإسلام ؟ والعهود التي نبذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين هي عهود الصلح التي كانت بينه وبينهم ، فهي براءة من العقد ، والعهد الذي كان بينه وبينهم ، ولا تعرض فيها للنكاح بوجه من الوجوه ، وقد أكد الله سبحانه البراءة بين المسلمين ، والكفار قبل ذلك في سورة " الممتحنة " وغيرها ، ولكن هذا لا يناقض تربص المرأة بنكاحها إسلام زوجها ، فإن أسلم كانت امرأته وإلا فهي بريئة منه .

                          [ ص: 681 ] وأما قوله : وقد روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أنه ردها بنكاح جديد ، فلو وصل إلى عمرو لكان حجة ، فإنا لا ندفع حديث عمرو بن شعيب ، ولكن دون الوصول إليه مفاوز مجدبة معطشة لا تسلك ، فلا يعارض بحديثه الحديث الذي شهد الأئمة بصحته .

                          [ ص: 682 ] وأما قول الشعبي : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يردها إلا بنكاح جديد ، فهذا إن صح عن الشعبي فإن كان قاله برأيه فلا حجة فيه ، وإن كان قاله رواية فهو منقطع لا تقوم به حجة ، فبين الشعبي وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مفازة لا يدرى حالها .

                          وأما قوله : لا خلاف بين العلماء في الكافرة تسلم ، ويأبى زوجها الإسلام حتى تنقضي عدتها ، أنه لا سبيل له عليها إلا بنكاح ، فهذا قاله أبو عمر - رحمه الله - بحسب ما بلغه ، وإلا فقد ذكرنا في المسلمة مذاهب تسعة ، وذكرنا مذهب علي ولا يحفظ اعتبار العدة عن صاحب واحد ألبتة ، وأرفع ما فيه قول الزهري الذي رواه مالك عنه في " الموطأ " ، ولفظه : " أن أم حكيم بنت الحارث بن هشام أسلمت يوم الفتح بمكة ، وهرب زوجها عكرمة بن أبي جهل من الإسلام حتى قدم اليمن ، فارتحلت أم حكيم حتى قدمت على زوجها باليمن ، ودعته إلى الإسلام فأسلم ، وقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبايعه فثبتا على نكاحهما ذلك " .

                          قال ابن شهاب : ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى الله ، وإلى رسوله ، وزوجها كافر مقيم بدار الكفر إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها ، وأنه لم يبلغنا أن امرأة فرق بينها وبين زوجها إذا قدم وهي في عدتها ، فلا يعرف في اعتبار العدة غير هذا الأثر .

                          [ ص: 683 ] وأما قوله : إنه ردها على النكاح الأول : أي على مثل الصداق الأول ، فلا يخفى ضعفه وفساده ، وأنه عكس المفهوم من لفظ الحديث ، وقوله : " لم يحدث شيئا " يأباه ونحن نذكر ألفاظ الحديث لنبين أنها لا تحتمل ذلك :

                          ففي " المسند " ، و " السنن " من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد ابنته زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول لم يحدث شيئا " .

                          وفي لفظ : " بنكاحها الأول لم يحدث صداقا " .

                          وفي لفظ : " شهادة ولا صداقا " .

                          وفي لفظ : " لم يحدث نكاحا " .

                          فهذا كله صريح في أنه أبقاهما على نفس النكاح الأول ، لا يحتمل الحديث غير ذلك .

                          وأما قوله : " فحديث عمرو بن شعيب عندنا صحيح " فنعم ، إذا وصل إليه بسند صحيح ، وهذا منتف في هذا الحديث كما تقدم .

                          [ ص: 684 ] قال الترمذي في " كتاب العلل " : سألت عنه محمد بن إسماعيل البخاري

                          [ عن هذين الحديثين ] ؟ فقال : حديث ابن عباس أصح في هذا الباب من حديث عمرو بن شعيب

                          [ عن أبيه ، عن جده ] .

                          وذكر أبو عبيد ، عن يحيى بن سعيد القطان : أن حجاج بن أرطاة - وهو راويه ، عن عمرو بن شعيب - لم يسمعه من عمرو ، وأنه من حديث محمد بن عبيد الله العرزمي ، عن عمرو .

                          قال البيهقي : " فهذا الحديث لا يعبأ به أحد يدري ما الحديث " .

                          قال : " والذي ذكره بعض الناس في الجمع بين حديث عبد الله بن عمرو ، وحديث ابن عباس ، بأن قال : علم عبد الله بن عمرو بتحريم الله سبحانه رجوع المؤمنات إلى الكفار ، فلم يكن ذلك عنده إلا بنكاح جديد " .

                          وأما ابن عباس فلم يعلم بتحريم الله عز وجل المؤمنات على الكفار حتى علم برد زينب على أبي العاص فقال : ردها بالنكاح الأول ؛ لأنه لم يكن بينهما عنده فسخ نكاح " .

                          [ ص: 685 ] قال البيهقي : " وليس هذا بجمع صحيح ، وما هو إلا سوء ظن بالصحابة ، حيث نسبهم إلى المجازفة برواية الحديث على ما وقع لهم من غير سماع ، وحديث عبد الله بن عمرو لم يثبته الحفاظ على ما قدمنا ذكره ، وابن عباس لم يقل : " ردها عليه بالنكاح الأول ، ولم يحدث شيئا " إلا بعد إحاطة العلم به بنفسه ، أو عمن يثق به ، وكيف يشتبه على مثله نزول الآية في " الممتحنة " قبل رد النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته على أبي العاص ؟ وإن اشتبه ذلك عليه في وقت نزولها لم يشتبه على مثله الخبر بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد علم منازل القرآن ، وتأويله ، هذا بعيد لا يجوز الحمل عليه " انتهى كلامه .

                          قال أصحاب هذا القول : ثم نقول : دعونا من هذا كله ، وهب أنه صح لكم جميع ما ذكرتم في قصة زينب ، فمن أين لكم أن المراعى في أمر أبي العاص ، وأمر هند ، وامرأة صفوان ، وأم حكيم ، وسائر من أسلم إنما هو العدة ؟ ومن أخبركم بهذا ، وليس في شيء من الأحاديث الصحاح ولا الحسان ذكر عدة في ذلك ، ولا دليل عليها أصلا من كتاب الله ، ولا سنة رسوله ، ولا إجماع الصحابة ؟ قالوا : ولا عدة في دين الله إلا في طلاق ، أو خلع ، أو وفاة ، أو عتق تحت عبد ، أو حر ، فمن أين جئتمونا بهذه العدة ، وجعلتموها حدا فاصلا بين الزوج المالك للعصمة ، وغيره ؟

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية