الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
( الثالث )

الرأي مصدر رأى رأيا مهموز ، والجمع آراء ، وهو التفكر في مبادئ الأمور ونظر عواقبها وعلم ما تئول إليه من الخطأ والصواب ، وأصحاب الرأي عند الفقهاء هم أهل القياس والتأويل ، كأصحاب الإمام أبي حنيفة ، وأبي الحسن الأشعري . وأصحاب الرأي ضد أصحاب الظاهر من داود وابن حزم ومن نحا نحوهم . وأصحاب التأويل ضد أصحابنا من أتباع المأثور ، والمرور كما جاء مع التفويض ، واعتقاد التنزيه بأن الله ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير .

وكان سبب انتشار البدع وظهورها ، وزيادتها ونشورها ، المأمون بن هارون الرشيد ، واسمه عبد الله ، وكنيته أبو العباس ، سابع خلفاء بني العباس ، وأمه ( أمة ) ، اسمها مراجل ، ولي الخلافة سنة مائة وسبعين ، وكان من رجال بني العباس - حزما وعزما ، وحلما وعلما ، ورأيا ودهاء ، وشجاعة وبراعة ، وفصاحة وسماحة ، إلا أنه كان رافضيا معتزليا قدريا ، فهو خبيث الاعتقاد ، كبير الفساد والعناد .

وفي سنة مائتين وإحدى عشر أمر أن ينادى : برئت الذمة ممن ذكر معاوية [ ص: 9 ] ( رضي الله عنه ) بخير ، فإن أفضل الخلفاء بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب - رضي الله عنه . وفي سنة مائتين واثنتي عشرة ، أظهر المأمون القول بخلق القرآن مضافا إلى تفضيل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - على الشيخين أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما . فاشمأزت منه النفوس ، ودعا الناس لرأيه المعكوس ، وكادت الفتن أن تقوم على ساقها . فكف عن ذلك إلى سنة ثمان عشرة ، فامتحن الناس بالقول بخلق القرآن ، فأجاب من أجاب طوعا وكرها ، وامتنع سيدنا الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - ومن امتنع معه من أئمة الحديث ، وطلب الإمام أحمد ، فهلك المأمون ولم يره الإمام أحمد ، ولله الحمد . وكان هلاك المأمون في شهر رجب سنة ثمان عشرة بعد المائتين .

قال العلماء : إن المأمون لما هادن بعض ملوك النصارى - أظنه صاحب جزيرة قبرس - طلب منه خزانة كتب اليونان ، وكانت عندهم مجموعة في بيت لا يظهر عليه أحد ، فجمع الملك خواصه من ذوي الرأي واستشارهم في ذلك ، فكلهم أشاروا بعدم تجهيزها إليه إلا مطران واحد ، فإنه قال : جهزها إليهم ، فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلا أفسدتها ، وأوقعت بين علمائها .

قال الصلاح الصفدي : حدثني من أثق به أن شيخ الإسلام ابن تيمية - روح الله روحه - كان يقول : ما أظن أن الله يغفل عن المأمون ، ولا بد أن يقابله على ما اعتمده مع هذه الأمة من إدخال هذه العلوم الفلسفية بين أهلها . قال الصلاح الصفدي : لم يبتكر المأمون النقل والتعريب ، بل فعل ذلك قبله كثير ، فإن يحيى بن خالد البرمكي عرب من كتب الفرس كليلة ودمنة ، وعرب لأجله كتاب المجسطي من كتب اليونان . والمشهور أن أول من عرب كتب اليونان خالد بن يزيد بن معاوية ، لما ولع بكتب الكيمياء .

ثم قال الصفدي : والخلاف ما زال في هذه الأمة منذ توفي - صلى الله عليه وسلم - حتى في موته ودفنه وأمر الخلافة بعده ، وأمر ميراثه ، وأمر قتال مانعي الزكاة ، إلى غير ذلك ، بل في نفس مرضه - صلى الله عليه وسلم - لما [ ص: 10 ] قال : " ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي . على ما هو مذكور في مواطنه ، وقد روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة ، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة ، وهي الجماعة " . وهو - صلى الله عليه وسلم - الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى ، قد أخبر أن هذه الأمة ستفترق ، ومتى افترقت خالف بعضها بعضا ، ومتى خالفت تمسكت بشبه وحجج ، وناظر كل فرقة من تخالفها ، فانفتح باب الجدل ، واحتاج كل أحد إلى ترجيح مذهبه وقوله بحجة عقلية أو نقلية أو مركبة منهما ، فهذا الأمر كان مأمونا قبل المأمون ، نعم زاد الشر والضرر ، وقويت به حجج المعتزلة وغيرهم ، وأخذ أصحاب الأهواء ومخالفو السنة مقدمات عقلية من الفلاسفة ، فأدخلوها في مباحثهم ، وفرجوا بها مضايق جدالهم ، وبنوا عليها قواعد بدعهم ، فاتسع الخرق على الراقع ، وكاد منار الحق الواحد يشتبه بالثلاث الأثافي والرسوم البلاقع ، على أن السنة الشريفة مرفوعة المنار ، مأمونة السرار ، خافقة الأعلام ، راسخة الأحلام ، باهرة السنا ، ساطعة الجنى .


ويزيدها مر الليالي جدة وتقادم الأيام حسن شباب

وأهل السنة قد فتح لهم السلف الصالح مغلق أبوابها ، وذللوا بالشواهد الصادقة الصادعة ما جمح من صعابها ، وأطلقوا نيرها الأعظم ، فطمس من البدع تألق شهابها ، وأجنوا من اتبع هديهم ثمر اليقين متحد النوع وإن كان متشابها ، وجاسوا خلال الحق فميزوه ، وأهل مكة أخبر بشعابها .


ومن قال إن الشهب أكبرها السها     بغير دليل كذبته الدلائل

وما ذكره الصلاح الصفدي مما يشم منه رائحة العذر للمأمون عما أدخله على الأمة فيه حق وباطل ، فأصل الخلاف كان موجودا إلا أنه في أمور يسهل بعضها بخلاف ما فشا بفتنة المأمون . قال الإمام الحافظ الذهبي في كتابه العرش : لما ولي المأمون وكان متكلما عربت له كتب الأوائل ، فدعا [ ص: 11 ] الناس إلى القول بخلق القرآن ، وتهددهم وخوفهم ، فأجابه خلق كثير رغبة ورهبة ، وامتنع من إجابته الإمام أحمد بن حنبل ، وأبو مسهر عالم دمشق ، ونعيم بن حماد عالم مصر ، والبويطي فقيه مصر ، وعفان محدث العراق ، وطائفة سواهم ، فسجنهم ثم لم ينشب أن مات بطرسوس ودفن ثم استخلف بعده أخوه المعتصم ، فامتحن الناس ونهض بأعباء المحنة قاضيه أحمد بن أبي دؤاد ، وضربوا الإمام أحمد - رضي الله عنه - ضربا مبرحا ، فلم يجبهم ، وناظروه وجرت أمور صعبة . انتهى .

وأما خالد بن يزيد ، فعربت له كتب الطب والنجوم ، وقيل : الذي عربت له كتب الطب والنجوم المنصور ، وأما خالد فإنما ولعه في صنعة الكيمياء ، وله في ذلك رسائل ، وكان قد أخذ تلك الصناعة عن رجل من الرهبان يقال لهمرياس الرومي . وأما المنصور فأول خليفة ترجمت له الكتب السريانية والأعجمية بالعربية ، مثل : كليلة ودمنة وأقليدس ، كما في تاريخ الخلفاء للحافظ جلال الدين السيوطي ، وقال : وهو أول خليفة قرب المنجمين ، وعمل بأحكام النجوم . وأما المأمون فهو أول من أدخل علم المنطق وسائر العلوم اليونانية في الملة الإسلامية ، وأحضرها من جزيرة قبرص ، وترجمت له كتب كثيرة كما في أوائل السيوطي . انتهى .

وبسبب ذلك حدثت الفتن بين المسلمين ، والبغي على أئمة الدين ، وظهر اختلاف الآراء ، والميل إلى البدع والأهواء ، وكثرت الوقائع والاختلافات ، والرجوع إلى العلماء في المهمات ، فاشتغلوا بالنظر والاستدلال ، والاجتهاد والاستنباط وتمهيد القواعد والأصول ، وترتيب الأبواب والفصول ، وتكثير المسائل بأدلتها ، وإيراد الشبه بأجوبتها ، وتعيين الأوضاع والاصطلاحات ، وتبيين المذاهب والاختلافات ، فسموا ما يفيد معرفة الأحكام العملية عن أدلتها التفصيلية بالفقه ، ومعرفة أحوال الأدلة إجمالا في إفادتها الأحكام بأصول الفقه ، ومعرفة العقائد عن أدلتها بالكلام المشتق من الكلم ، وهو الجرح ومعظم خلافياته مع الفرق الإسلامية خصوصا المعتزلة ; لأنهم أول فرقة أسسوا قواعد الخلاف لما ورد به ظاهر السنة ، وجرى عليه جماعة الصحابة [ ص: 12 ] - رضي الله عنهم - في باب العقائد .

فأول من صنف في علم الكلام والجدال والخصام مع أهل السنة والجماعة أبو حذيفة واصل بن عطاء ، وهو رئيس المعتزلة وأول من سمي معتزليا ، اعتزل مجلس الحسن البصري - رحمه الله - فسمي بذلك . كان واصل بن عطاء هذا أحد البلغاء المتكلمين في علم الكلام وغيره ، وكان يلثغ بالراء فيجعلها غينا ، وكان أحد الأعاجيب ; لأن لثغته كانت قبيحة جدا ، فكان يخلص كلامه من الراء ، ولا يفطن لذلك لاقتداره على الكلام وسهولة ألفاظه .

وذكر ابن خلكان كغيره من أهل التاريخ وأخبار الناس أن واصل بن عطاء كان يجلس إلى الحسن البصري - رحمه الله - فلما ظهر الاختلاف ، فقالت الخوارج بتكفير مرتكبي الكبيرة ، وقالت الجماعة بأنهم مؤمنون وإن فسقوا بالكبائر ، فخرج واصل بن عطاء من الفريقين ، وقال : إن الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر منزلة بين منزلتين ، فطرده الحسن عن مجلسه ، فاعتزل عنه وجلس إليه عمرو بن عبيد ، فقيل لهما ولأتباعهما معتزلون . فهذا سبب تسميتهم بالمعتزلة .

ولواصل من التصانيف كتاب المرجئة ، وكتاب التوبة ، وكتاب المنزلة بين المنزلتين ، وكتاب خطبته التي أخرج منها الراء ، وكتاب معاني القرآن ، وكتاب الخطب في العدل والتوحيد ، وكتاب ما جرى بينه وبين عمرو بن عبيد ، وكتاب السبيل إلى معرفة الحق ، وغير ذلك . وكانت ولادته سنة ثمانين من الهجرة بمدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وتوفي سنة إحدى وثلاثين ومائة ، وهو من موالي بني منبه ( ؟ ) ، وقيل من موالي بني مخزوم .

وأما عمرو بن عبيد بن باب فمن موالي بني عقيل آل غزادة بن يربوع بن مالك ، كان جده باب من سبي كابل من جبال السند ، وكان عمرو شيخ المعتزلة في وقته ، وله كتاب تفسير عن الحسن البصري ، وله كتاب الرد على القدرية ، وله كلام كثير في العدل والتوحيد على اعتقاد المعتزلة . وولد سنة ثمانين من الهجرة ، ومات سنة أربع وأربعين ومائة ، وهو [ ص: 13 ] راجع إلى ( ؟ ) مكة بموضع يقال له مران ، على ليلتين من مكة من جهة البصرة ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية