الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              فصل

              فأما صلاة الجماعة : فاتبع أهل الحديث ما دل عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة من وجوبها ، مع عدم العذر ، وسقوطها بالعذر ، وتقديم الأئمة بما قدم به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ، فإن كانوا في [ ص: 116 ] السنة سواء فأقدمهم هجرة " ، ففرق بين العلم بالكتاب والعلم بالسنة ، كما دل عليه الحديث ، وإنما يكون ترجيح بعض الأئمة على بعض إذا استووا في المعرفة بإقام الصلاة على الوجه المشروع وفعلها على السنة ، وفي دين الإمام الذي يخرج به المأموم عن نقص الصلاة خلفه ، فإذا استويا في كمال الصلاة منهما وخلفهما قدم الأقرأ ثم الأعلم بالسنة وإلا ففضل الصلاة في نفسها مقدم على صفة إمامهم ، وما يحتاج إليه من العلم والدين فيها مقدم على ما يستحب من ذلك وغيره .

              وقد يقول بعض العلماء : هي سنة مؤكدة ، وقد يقول آخرون : هي فرض على الكفاية ، ولهم في تقديم الأئمة خلاف .

              ويأمر بإقامة الصفوف فيها كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من سننها الخمس ، وهي : تقويم الصفوف ورصها وتقاربها وسد الأول فالأول وتوسيط الإمام ، حتى ينهى عما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من صلاة المنفرد خلف الصف ، ويأمره بالإعادة كما أمره بها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثين ثابتين عنه أمر فيهما المنفرد خلف الصف بالإعادة ، كما أمر المسيء في صلاته بالإعادة ، وكما أمر المسيء في وضوئه [ ص: 117 ] الذي ترك فيه موضع ظفر من قدمه لم يمسه الماء ، بالإعادة .

              فهذه المواضع دلت على اشتراط الطهارة والاصطفاف في الصلاة والإتيان بأركانها .

              والذين خالفوا حديث المنفرد خلف الصف كأبي حنيفة ومالك والشافعي ، منهم من لم يبلغه الحديث أو لم يثبت عنده ، والشافعي رآه معارضا بكون الإمام يصلي وحده وبكون مليكة جدة أنس صلت خلفهم ، وبحديث أبي بكرة لما ركع دون الصف .

              وأما أحمد فأصله في الأحاديث إذا تعارضت في قضيتين متشابهتين غير متماثلتين : أنه يستعمل كل حديث على وجهه ولا يضرب أحدهما بالآخر ، فيقول في مثل هذه المرأة : إذا كانت مع النساء صلت بينهن ، وأما إذا كانت مع الرجال لم تصل إلا خلفهم وإن كانت وحدها ؛ لأنها منهية عن مصافة الرجال ، فانفرادها عن الرجال أولى بها من مصافتهم ، كما أنها إذا صلت بالنساء صلت بينهن ؛ لأنه أستر لها ، كما يصلي إمام العراة بينهم ، وإن كانت سنة الرجل الكاسي إذا أم أن يتقدم بين يدي الصف .

              ونقول : إن الإمام لا يشبه المأموم ؛ فإن سنته التقدم لا المصافة ، وسنة المؤتمين الاصطفاف ، نعم يدل انفراد الإمام والمرأة على جواز انفراد الرجل المأموم لحاجة ، وهو ما إذا لم يحصل له مكان يصلي فيه إلا انفرادا ، فهذا قياس قول أحمد وغيره ؛ ولأن [ ص: 118 ] واجبات الصلاة وغيرها تسقط بالأعذار ، فليس الاصطفاف إلا بعض واجباتها ، فسقط بالعجز في الجماعة كما يسقط غيره فيها وفي سنن الصلاة ؛ ولهذا كان تحصيل الجماعة في صلاة الخوف والمرض ونحوهما - مع استدبار القبلة والعمل الكثير ومفارقة الإمام ، ومع ترك المريض القيام - أولى من أن يصلوا وحدانا ؛ ولهذا ذهب بعض أصحاب أحمد إلى أنه يجوز تقديم المؤتم على إمامه عند الحاجة كحال الزحام ونحوه ، وإن كان لا يجوز لغير حاجة ، وقد روي في بعض صفات صلاة الخوف ؛ ولهذا سقط عنده وعند غيره من أئمة السنة ما يعتبر للجماعة من عدل الإمام وحل البقعة ونحو ذلك للحاجة، فجوزوا - بل أوجبوا - فعل صلوات الجمعة والعيدين والخوف والمناسك ونحو ذلك خلف الأئمة الفاجرين وفي الأمكنة المغصوبة ، إذا أفضى ترك ذلك إلى ترك الجمعة والجماعة ، أو إلى فتنة في الأمة ونحو ذلك ، كما جاء في حديث جابر رضي الله عنه : " لا يؤمن فاجر مؤمنا إلا أن يقهره بسلطان يخاف سيفه أو سوطه " لأن غاية ذلك أن يكون عدل الإمام واجبا ، فيسقط بالعذر كما سقط كثير من الواجبات في جماعة الخوف بالعذر .

              ومن اهتدى لهذا الأصل - وهو أن نفس واجبات الصلاة تسقط بالعذر ، وكذلك الواجبات في الجماعات ونحوها - فقد هدي لما جاءت به السنة من التوسط بين إهمال بعض واجبات الشريعة رأسا ، كما قد يبتلى به بعضهم ، وبين الإسراف في ذلك الواجب حتى يفضي إلى ترك غيره من الواجبات التي هي أوكد منه عند العجز عنه ، وإن كان ذلك الأوكد مقدورا عليه ، كما قد [ ص: 119 ] يبتلى به آخرون ، فإن فعل المقدور عليه من ذلك دون المعجوز عنه هو الوسط بين الأمرين .

              وعلى هذا الأصل تنبني مسائل الهجرة والعزم التي هي أصل مسألة الإمامة بحيث لا يفعل [ إلا ما تسع القدرة ] .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية