الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
. ( والفصل الثاني ) في بيان الأفضل فعندنا الأفضل هو القران ، ثم بعده التمتع ، وعلى رواية ابن شجاع عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى الإفراد أفضل من التمتع .

وعن محمد رحمه الله تعالى قال حجة كوفية ، وعمرة كوفية أفضل عندي من القران ، وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى الإفراد أفضل من القران ، وعلى قول مالك رحمه الله تعالى التمتع أفضل من القران فالشافعي استدل بحديث جابر رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردا بالحج ، وأنا ممن كنت أفرد } ، وهكذا روت عائشة رضي الله عنها { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردا بالحج ، وإنما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة مرة فما كان يترك ما هو الأفضل فيما يؤديه مرة واحدة } ، ولأن القران رخصة كما { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها إنما أجرك على قدر تعبك ونصبك } ، وإنما القران رخصة ، والإفراد عزيمة ، والتمسك بالعزيمة خير من التمسك بالرخصة ، ولأن في الإفراد زيادة الإحرام ، والسعي والحلق فإن القارن يؤدي النسكين بسفر واحد ، ويلبي لهما تلبية واحدة ، ويحلق لهما حلقا واحدا ، ولأجل هذا النقصان يجب عليه [ ص: 26 ] الدم جبرا ، والمفرد يؤدي كل نسك بصفة الكمال ، وأداء النسك بصفة الكمال يكون أفضل من إدخال النقصان والجبر فيها ومالك رحمه الله تعالى استدل بحديث عثمان رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم تمتع بالعمرة إلى الحج } ، وعلماؤنا رحمهم الله تعالى استدلوا بحديث علي ، وابن مسعود ، وعمران بن الحصين رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين وسعى سعيين } .

وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : { كنت آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقصع بجرتها ، ولعابها يسيل على كتفي ، وهو يقول لبيك بحجة وعمرة معا } ، وأهل الحديث جمعوا رواة نسك رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا ثلاثين نفرا فعشرة منهم تروي أنه كان قارنا ، وعشرة أنه كان مفردا ، وعشرة أنه كان متمتعا فنوفق بين هذه الروايات فنقول { لبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا بالعمرة فسمعه بعض الناس ، ثم رأوه بعد ذلك حج فظنوا أنه كان متمتعا فنقلوا كما وقع عندهم ، ثم لبى بعد ذلك بالحج فسمعه قوم آخرون فظنوا أنه كان مفردا بالحج ، ثم لبى بهما فسمعه قوم آخرون فعلموا أنه كان قارنا } ، وكل نقل ما وقع عنده ، وهو نظير ما روينا من توفيق ابن عباس رضي الله عنه في اختلاف الروايات في وقت تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لما وقع الاختلاف في فعله نصير إلى قوله ، وقد { قال صلى الله عليه وسلم : وأتاني آت من ربي ، وأنا بالعقيق فقال : صل في هذا الوادي المبارك ركعتين ، وقل لبيك بحجة وعمرة معا ، وقال صلى الله عليه وسلم يا آل محمد أهلوا بحجة وعمرة معا } ، ولأن في القران معنى الوصل والتتابع في العبادة .

ومعنى الجمع بين العبادتين ، وهو أفضل من إفراد كل واحد منهما كالجمع بين الصوم والاعتكاف والجمع بين الحراسة في سبيل الله تعالى مع صلوات الليل ، ولأن في القران زيادة نسك ، وهو إراقة دم الهدي ، وقد قال صلى الله عليه وسلم { أفضل الحج العج والثج } والثج إراقة الدم . والكلام في الحقيقة ينبني على هذا الحرف فإن دم القران عنده دم جبر حتى لا يباح التناول منه ، وعندنا هو دم نسك يباح التناول منه ، والدليل على أنه دم نسك أنه يتوقف بأيام النحر كالأضحية ، ودم الجبر لا يتوقت به ، وإن سببه مباح محض ، ودم الجبر يستدعي سببا محظورا ; لأن النقصان إنما يتمكن بارتكاب ما لا يحل ، وقد تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم من هداياه على ما روي { أنه ساق مائة بدنة فنحر نيفا وستين بنفسه ، وولى الباقي عليا رضي الله عنه ، ثم أمر أن يؤخذ [ ص: 27 ] من كل واحدة قطعة فتطبخ له فأكل من لحمها ، وحسا من مرقها } ، وقد صح عندنا أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا فدل أن دم القران يباح التناول منه وإذا ثبت أنه دم نسك فما يكون فيه زيادة نسك فهو أفضل ، ولهذا جعل التمتع أفضل من الإفراد في ظاهر الرواية ; لأن فيه زيادة نسك إلا أن القران أفضل منه لما فيه من زيادة التعجيل بالإحرام بالحج ، واستدامة إحرامهما من الميقات إلى أن يفرغ منهما ، وفي حق التمتع العمرة ميقاتية ، والحجة مكية ، وعلى رواية ابن شجاع رحمه الله تعالى الإفراد أفضل من التمتع لهذا المعنى أن حجة المتمتع مكية يحرم بها من الحرم ، والمفرد يحرم بكل واحد منهما من الحل ، ولهذا جعل محمد رحمه الله تعالى الإفراد بكل واحد منهما من الكوفة أفضل ; لأنه ينشئ سفرا مقصودا لكل واحد منهما ، وقد صح أن عمر رضي الله عنه نهى الناس عن المتعة فقال : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا أنهى الناس عنهما متعة النساء ومتعة الحج ، وتأويله أنه كره أن يخلو البيت عن الزوار في غير أشهر الحج فأمرهم أن يعتمروا بسفر مقصود في غير أشهر الحج كي لا يخلو البيت من الزوار في شيء من الأوقات لا أن يكون التمتع مكروها عنده بدليل حديث الصبي بن معبد قال : كنت امرأ نصرانيا فأسلمت فوجدت الحج والعمرة واجبتين علي فقرنت بينهما فلقيت نفرا من الصحابة فيهم زيد بن صوحان ، وسلمان بن ربيعة رضي الله عنهما فقال أحدهما لصاحبه : هو أضل من بعيره فلقيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخبرته بذلك فقال : ما قالا ليس بشيء هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم .

إذا عرفنا هذا فنقول من أراد القران فتأهبه للإحرام كتأهب المفرد على ما بينا إلا أنه في دعائه بعد الفراغ من الركعتين يقول : اللهم إني أريد العمرة والحج . وكذلك يلبي بهما ويقول : لبيك بعمرة وحجة معا ، وإنما يقدم ذكر العمرة ; لأن الله تعالى قدمها في قوله تعالى { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } ولأنه في أداء الأفعال يبدأ بالعمرة فكذلك في الإحرام يبدأ في التلبية بذكر العمرة ، وإن اكتفى بالنية ، ولم يذكرهما في التلبية أجزأه على قياس الصلاة إذا نوى بقلبه الصلاة وكبر

التالي السابق


الخدمات العلمية