الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
. [ ص: 60 ] قال ( والمعاني الموجبة للغسل إنزال المني على وجه الدفق والشهوة من الرجل والمرأة حالة النوم واليقظة ) وعند الشافعي رحمه الله خروج المني كيفما كان يوجب الغسل لقوله عليه الصلاة والسلام { الماء من الماء } أي الغسل من المني ، ولنا أن الأمر بالتطهير يتناول الجنب ، والجنابة في اللغة خروج المني على وجه الشهوة ، يقال أجنب الرجل إذا [ ص: 61 ] قضى شهوته من المرأة ، والحديث محمول على خروج المني عن شهوة ، ثم المعتبر عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله انفصاله عن مكانه على وجه الشهوة وعند أبي يوسف رحمه الله ظهوره أيضا اعتبارا للخروج بالمزايلة إذ الغسل [ ص: 62 ] يتعلق بهما ولهما أنه متى وجب من وجه فالاحتياط في الإيجاب .

التالي السابق


( قوله والمعاني الموجبة للغسل ) قيل هي تنقضه فكيف توجبه . وفي مبسوط شيخ الإسلام : سبب وجوب الغسل إرادة ما لا يحل فعله بالجنابة عند عامة المشايخ .

وقيل هي موجبة للغسل بواسطة الجنابة كقولنا شراء القريب إعتاق ، والأولى أن يقال سببه وجوب ما لا يحل مع الجنابة على ما قررنا في المعاني الموجبة للوضوء . وحاصل ما يوجب الجنابة خروج المني عن شهوة والإيلاج في الآدمي الحي لا الميت والبهيمة ما لم ينزل . لكن في الفتاوى الظهيرية : بال فخرج منه مني إن كان ذكره منكسرا لا غسل عليه ، وإن كان منتشرا فعليه الغسل .

وهذا بعد ما عرف من اشتراط وجود الشهوة في الإنزال فيه نظر . بخلاف ما روي عن محمد في مستيقظ وجد ماء ولم يتذكر احتلاما ، إن كان ذكره منتشرا قبل النوم لا يجب وإلا فيجب لأنه بناه على أنه مني عن شهوة لكن ذهب عن خاطره ، ومحمل الأول أنه وجد الشهوة يدل عليه تعليله في التجنيس بقوله لأن في الوجه الأول : يعني حالة الانتشار وجد الخروج والانفصال على وجه الدفق والشهوة . واعلم أن مطلق الإيلاج في الآدمي يتناول إيلاج الذكر في القبل والدبر وإيلاج الأصبع .

وفي إدخال الأصبع الدبر خلاف في إيجاب الغسل فليعلم ذلك ( قوله ولنا أن الأمر بالتطهير يتناول الجنب ) والجنابة في اللغة إنما تقال مع الشهوة فلا يتناول من خرج منه بلا شهوة فلا يوجب فيه حكما بنفي ولا إثبات . والحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم { إنما الماء من الماء } من رواية مسلم محمول على [ ص: 61 ] الخروج عن شهوة لأن اللام للعهد الذهني : أي الماء المعهود والذي به العهد لهم هو الخارج عن شهوة كيف وربما يأتي على أكثر الناس جميع عمره ولا يرى هذا الماء مجردا عنها ، على أن كون المني عن غير شهوة ممنوع ، فإن عائشة أخذت في تفسيرها إياه الشهوة على ما قال ابن المنذر ، حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا أبو حنيفة ، حدثنا عكرمة عن عبد ربه بن موسى عن أمه أنها سألت عائشة عن المذي فقالت : إن كل فحل يمذي ، وإنه المذي والودي والمني ، فأما المذي فالرجل يلاعب امرأته فيظهر على ذكره الشيء فيغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ ولا يغتسل وأما الودي فإنه يكون بعد البول يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ ولا يغتسل ، وأما المني فإنه الماء الأعظم الذي منه الشهوة وفيه الغسل .

وروى عبد الرزاق في مصنفه عن قتادة وعكرمة نحوه فلا يتصور مني إلا من خروجه بشهوة ، وإلا يفسد الضابط الذي وضعته لتمييز المياه لتعطى أحكامها ( قوله ثم المعتبر إلخ ) لا يجب الغسل إذا انفصل عن مقره من الصلب بشهوة إلا إذا خرج على رأس الذكر بالاتفاق ، وإنما الخلاف في أنه هل تشترط مقارنة الشهوة للخروج ؟ فعند أبي يوسف نعم ، وعندهما لا ، فافهم مقصود الكتاب فإنه مزلقة .

وقد أخطأ بعض الطلبة لعدم علمه بذلك من خارج ، ولو تأمل قوله في دليل أبي يوسف إذ الغسل يتعلق بهما لزال الريب عنه ، ومن فروع تعلقه بهما لو احتلم فوجد اللذة ولم ينزل حتى توضأ وصلى ثم أنزل اغتسل ولا يعيد الصلاة ، وكذا لو احتلم في الصلاة فلم ينزل حتى أتمها فأنزل لا يعيدها ويغتسل .

وقولهما أحوط لأن الجنابة قضاء الشهوة بالإنزال ، فإذا وجدت مع [ ص: 62 ] الانفصال صدق اسمها ، وكان مقتضى هذا ثبوت حكمها وإن لم يخرج ، لكن لا خلاف في عدم ثبوت الحكم إلا بالخروج ، فيثبت بذلك الانفصال من وجه وهو أقوى مما بقي ، والاحتياط واجب وهو العمل بالأقوى من الوجهين فوجب ، وتظهر ثمرة الخلاف في صور استمنى بكفه أو جامع امرأته في غير الفرج أو احتلم ، فلما انفصل أخذ إحليله حتى سكنت فأرسل فخرج بلا شهوة يجب عندهما لا عنده .

ومنها اغتسل بعد الجماع قبل النوم أو البول أو المشي ثم خرج منه المني بلا شهوة يعيد عندهما لا عنده ، وبعد أحدها يعيد بالاتفاق ، وكذا لا يعيد الصلاة التي صلاها بعد الغسل الأول قبل خروج ما تأخر من المني اتفاقا .

قيل ومنها مستيقظ وجد بثوبه أو فخذه بللا ولم يتذكر احتلاما وشك في أنه مذي أو مني يجب عندهما لاحتمال انفصاله عن شهوة ثم نسي ورق هو بالهواء خلافا له ، وفيه نظر ، فإن هذا الاحتمال ثابت في الخروج كذلك كما هو ثابت في الانفصال كذلك فالحق أنها ليست بناء عليه بل هو يقول لا يثبت وجوب الغسل بالشك في وجود الموجب وهما احتاط لقيام ذلك الاحتمال ، وقياسا على ما لو تذكر الاحتلام ورأى ماء رقيقا حيث يجب اتفاقا حملا للرقة على ما ذكرنا . وقوله أقيس وأخذ به خلف بن أيوب وأبو الليث ، ولو تيقن أنه مذي لا يجب اتفاقا لكن التيقن متعذر مع النوم . وقولهما أحوط قال في التجنيس : لأن النوم مظنة الاحتلام فيحال به عليه ، ثم يحتمل أنه كان منيا فرق بواسطة الهواء .

وفي التجنيس : أغشي عليه فأفاق فوجد مذيا أو كان سكران فأفاق فوجد مذيا لا غسل عليه ، ذكره أبو علي الدقاق ، ولا يشبه النائم إذا استيقظ فوجد على فراشه مذيا حيث كان عليه الغسل إن تذكر الاحتلام بالإجماع ، وإن لم يتذكر فعند أبي حنيفة ومحمد يجب .

والفرق أن المني والمذي لا بد له من سبب ، وقد ظهر في النوم تذكر أو لا لأن النوم مظنة الاحتلام فيحال عليه ، ثم يحتمل أنه مني رق بالهواء ، وللغذاء فاعتبرناه منيا احتياطا ، ولا كذلك السكران والمغشي عليه لأنه لم يظهر فيهما هذا السبب ، ولو تذكر الاحتلام والشهوة ولم ير بللا لا يجب اتفاقا ، ولو وجد الزوجان بينهما ماء دون تذكر ولا مميز بأن لم يظهر غلظه ورقته ولا بياضه وصفرته يجب عليهما الغسل ، صححه في الظهيرية ولم يذكروا القيد فقالوا يجب عليهما .

وقيل إذا كان غليظا أبيض فعليه ، أو رقيقا أصفر فعليها فيفيدونه بصورة نقل الخلاف . والذي يظهر تقييد الوجوب عليهما بما ذكرنا فلا خلاف إذا . ولو احتلمت ووجدت لذة الإنزال لكن لم يخرج ماؤها إلى فرجها الظاهر لا غسل عليها في ظاهر الرواية . قال الحلواني : وبه يؤخذ . وقيل يجب بخلاف الرجل .

وجه الظاهر حديث أم سليم قالت { يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق ، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت ؟ قال : نعم إذا رأت الماء } وجه الثاني ما روي عنها { أنها سألته صلى الله عليه وسلم عن المرأة ترى [ ص: 63 ] في منامها ما يرى الرجل فقال صلى الله عليه وسلم إذا رأت ذلك فلتغتسل } والأول أصرح في تعلق الوجوب بالخروج ، ويحتمل كون المراد بما يرى الرجل الاحتلام والماء فيوافق الأول فيجب حمله عليه لأنه الغالب إذ الغالب رؤية الماء مع الاحتلام ، والحق أن الاتفاق على تعلق وجوب الغسل بوجود المني في احتلامها ، والقائل بوجوبه في هذه الخلافية إنما يوجبه بناء على وجوده وإن لم تره يدل على ذلك تعليله في التجنيس احتلمت ولم يخرج منها الماء إن وجدت شهوة الإنزال كان عليها الغسل ، وإلا لا لأن ماءها لا يكون دافقا كماء الرجل ، وإنما ينزل من صدرها ، فهذا التعليل يفهمك أن المراد بعدم الخروج في قوله ولم يخرج منها لم تره خرج .

فعلى هذا الأوجه وجوب الغسل في الخلافية ، والاحتلام يصدق برؤيتها صورة الجماع في نومها وهو يصدق بصورتي وجود لذة الإنزال وعدمه ، فلذا لما أطلقت أم سليم السؤال عن احتلام المرأة قيد صلى الله عليه وسلم جوابها بإحدى الصورتين فقال { إذا رأت الماء } ومعلوم أن المراد بالرؤية العلم مطلقا فإنها لو تيقنت الإنزال بأن استيقظت في فور الاحتلام فأحست بيدها البلل ثم نامت فما استيقظت حتى جف فلم تر بعينها شيئا لا يسع القول بأن لا غسل عليها مع أنه لا رؤية بصر بل رؤية علم ( ورأى ) يستعمل حقيقة في معنى ( علم ) باتفاق اللغة .

قال : رأيت الله أكبر كل شيء ولو جومعت فيما دون الفرج فسبق الماء إلى فرجها ، أو جومعت البكر لا غسل عليها إلا إذا ظهر الحبل لأنها لا تحبل إلا إذا أنزلت ، ولو جومعت فاغتسلت ثم خرج منها مني الرجل لا غسل عليها . امرأة قالت معي جني يأتيني في النوم مرارا وأجد ما أجد إذا جامعني زوجي لا غسل عليها ، ولا يخفى أنه مقيد بما إذا لم تر الماء ، فإن رأته صريحا وجب كأنه احتلام . .




الخدمات العلمية