الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 336 ] 88 - باب

                                الخشوع في الصلاة

                                708 741 - حدثنا إسماعيل ، قال : حدثني مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( هل ترون قبلتي هاهنا ، والله ما يخفى علي ركوعكم ولا خشوعكم ، وإني لأراكم من وراء ظهري ) .

                                709 742 - حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا غندر ، ثنا شعبة ، سمعت قتادة ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( أقيموا الركوع والسجود ، فوالله إني لأراكم من بعدي - وربما قال : من بعد ظهري - إذا ركعتم وإذا سجدتم ) .

                                التالي السابق


                                قد خرج البخاري حديث أبي هريرة وحديث أنس في ( باب : عظة الإمام الناس في إتمام الصلاة وذكر القبلة ) ، وقد سبق الكلام عليهما هناك بما فيه كفاية .

                                وإنما خرجهما هاهنا ؛ لدلالتهما على الخشوع في الصلاة .

                                وفي ( صحيح مسلم ) عن عثمان بن عفان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة ، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها ، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ، ما لم تؤت كبيرة ، وذلك الدهر كله ) .

                                وقد مدح الله الخاشعين في صلاتهم ، فقال : قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون وقال : وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين

                                روي عن علي بن أبي طالب ، قال : هو الخشوع في القلب ، وأن تلين [ ص: 337 ] كنفك للمسلم ، وأن لا تلتفت في صلاتك .

                                وعنه ، قال : الخشوع خشوع القلب ، وأن لا تلتفت يمينا ولا شمالا .

                                وعن ابن عباس ، قال : خاشعون : خائفون ساكنون .

                                وعن الحسن ، قال : كان الخشوع في قلوبهم ، فغضوا له البصر ، وخفضوا له الجناح .

                                وعن مجاهد ، قال : هو الخشوع في القلب ، والسكون في الصلاة .

                                وعنه ، قال : هو خفض الجناح وغض البصر ، وكان المسلمون إذا قام أحدهم في الصلاة خاف ربه أن يلتفت عن يمينه وشماله .

                                وعنه ، قال : العلماء إذا قام أحدهم في الصلاة هاب الرحمن عز وجل أن يشذ نظره ، أو يلتفت ، أو يقلب الحصى ، أو يعبث بشيء ، أو يحدث نفسه بشيء من الدنيا ، إلا ناسيا ، ما دام في صلاته .

                                وعن الزهري ، قال : هو سكون العبد في صلاته .

                                وعن سعيد بن جبير ، قال : يعني متواضعين ، لا يعرف من عن يمينه ، ولا من عن شماله ، ولا يلتفت من الخشوع لله عز وجل .

                                وروي عن حذيفة ، أنه رأى رجلا يعبث في صلاته ، فقال : لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه .

                                وروي عن ابن المسيب .

                                [ ص: 338 ] وروي مرسلا .

                                فأصل الخشوع : هو خشوع القلب ، وهو انكساره لله ، وخضوعه وسكونه عن التفاته إلى غير من هو بين يديه ، فإذا خشع القلب خشعت الجوارح كلها تبعا لخشوعه ؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه : ( خشع لك سمعي ، وبصري ، ومخي ، وعظامي ، وما استقل به قدمي ) .

                                ومن جملة خشوع الجوارح خشوع البصر أن يلتفت عن يمينه أو يساره ، وسيأتي حديث الالتفات في الصلاة ، وأنه اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ، فيما بعد إن شاء الله تعالى .

                                وقال ابن سيرين : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتفت في الصلاة عن يمينه وعن يساره ، فأنزل الله تعالى : الذين هم في صلاتهم خاشعون فخشع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن يلتفت يمنة ولا يسرة .

                                وخرجه الطبراني من رواية ابن سيرين ، عن أبي هريرة .

                                والمرسل أصح .

                                والظاهر : أن البخاري إنما ذكر الخشوع في هذا الموضع ؛ لأن كثيرا من الفقهاء والعلماء يذكرون في أوائل الصلاة : أن المصلي لا يجاوز بصره موضع سجوده ، وذلك من جملة الخشوع في الصلاة .

                                وخرج ابن ماجه من حديث أم سلمة أم المؤمنين ، قالت : كان الناس في [ ص: 339 ] عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصره موضع قدمه ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصره موضع جبينه ، فتوفي أبو بكر فكان عمر ، فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع القبلة ، وكان عثمان بن عفان فكانت الفتنة ، فالتفت الناس يمينا وشمالا .

                                وقال ابن سيرين : كانوا يستحبون للرجل أن لا يجاوز بصره مصلاه .

                                خرجه سعيد بن منصور .

                                وقال النخعي : كان يستحب أن يقع الرجل بصره في موضع سجوده .

                                وفسر قتادة الخشوع في الصلاة بذلك ، وقال مسلم بن يسار : هو حسن .

                                وفيه حديثان مرفوعان ، من حديث أنس وابن عباس ، ولا يصح إسنادهما .

                                وأكثر العلماء على أنه يستحب للمصلي أن ينظر إلى موضع سجوده ، منهم : سليمان بن يسار وأبو حنيفة والثوري والحسن بن حي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور .

                                وقال مالك : يستحب أن يكون بصره أمام قبلته ، قال : وأكره ما يصنع الناس من النظر إلى موضع سجودهم وهم قيام .

                                وحكي عن شريك بن عبد الله ، قال : ينظر في قيامه إلى موضع قيامه ، وإذا ركع إلى قدميه ، وإذا سجد إلى أنفه ، وإذا قعد إلى حجره .

                                واستحب ذلك بعض أصحابنا وأصحاب الشافعي .

                                قال أصحابنا : ويستحب إذا جلس للتشهد أن لا يجاوز بصره أصبعه ؛ لما روى ابن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس في التشهد أشار بالسبابة ، ولم يجاوز بصره إشارته .

                                [ ص: 340 ] خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي .

                                وحكى أصحاب الثوري في كتبهم ، عن سفيان ، أنه قال : إذا قام في الصلاة فليكن بصره حيث يسجد إن استطاع ، قال : وينظر في ركوعه إلى حيث يسجد - ومنهم من قال : إلى ركبتيه - ويكون نظره في سجوده إلى طرف أنفه .

                                وبكل حال ؛ فهذا مستحب ، ولا تبطل الصلاة بالإخلال به ، ولا باستغراق القلب في الفكر في أمور الدنيا ، وقد حكى ابن حزم وغيره الإجماع على ذلك ، وقد خالف فيه بعض المتأخرين من أصحابنا والشافعية .

                                وحكى ابن المنذر عن الحكم ، قال : من تأمل من عن يمينه أو عن شماله حتى يعرفه فليس له صلاة .

                                وهذا يرجع إلى الالتفات ، ويأتي ذكره في موضعه إن شاء الله سبحانه وتعالى .

                                وحكي عن ابن حامد من أصحابنا : أن عمل القلب في الصلاة إذا طال أبطل الصلاة كعمل البدن .

                                وهذا يرده حديث تذكير الشيطان المرء في صلاته حتى يظل لا يدري كم صلى ، وأمره أن يسجد سجدتين ، ولم يأمره بالإعادة .

                                وخرج الإمام أحمد والنسائي والترمذي من حديث الفضل بن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( الصلاة مثنى مثنى ، تشهد في كل ركعتين ، وتخشع وتضرع ، [ ص: 341 ] وتمسكن ، وتقنع يديك - يقول : ترفعهما إلى ربك - مستقبلا ببطونهما وجهك ، وتقول : يا رب يا رب ، وإن لم تفعل ذلك فهو كذا وكذا ) .

                                وهذا لفظ الترمذي .

                                وللإمام أحمد : ( وتقول : يا رب ثلاثا ، فمن لم يفعل ذلك فهي خداج ) .

                                وفي إسناده اختلاف .

                                وخرجه أبو داود وابن ماجه ، وعندهما : عن المطلب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                وقد قال أبو حاتم الرازي : هو إسناد حسن .

                                وضعفه البخاري ، وقال : لا يصح .

                                وقال العقيلي : فيه نظر .

                                وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إني أراكم من وراء ظهري ) ، فليس المراد منه : أنه كان يلتفت ببصره في صلاته إلى من خلفه حتى يرى صلاتهم ، كما ظنه بعضهم ، وقد رد الإمام أحمد على من زعم ذلك ، وأثبت ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وآياته ومعجزاته ، وقد سبق ذكر كلامه في ذلك .



                                الخدمات العلمية