الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5048 5049 5050 5051 ص: حدثنا يونس ، قال: ثنا سفيان ، عن يحيى بن سعيد ، سمع بشير بن يسار ، عن سهل بن أبي حثمة قال: "وجد عبد الله بن سهل قتيلا في قليب من قليب خيبر، . فجاء أخوه عبد الرحمن بن سهل وعماه حويصة 5 ومحيصة ابنا مسعود إلى رسول الله -عليه السلام- فذهب عبد الرحمن ليتكلم، فقال النبي -عليه السلام-: الكبر الكبر، فتكلم أحد عميه إما حويصة وإما محيصة، ، تكلم الكبير منهما فقال: يا رسول الله، إنا وجدنا عبد الله بن سهل قتيلا في قليب من قليب خيبر، ، وذكر عداوة يهود لهم، قال: أفتبرئكم يهود بخمسين يمينا أنهم لم يقتلوا؟ قال: قلت: وكيف نرضى بأيمانهم وهم مشركون؟! قال: فيقسم منكم خمسون أنهم قتلوه؟ قالوا: فكيف نقسم على ما لم نر؟ فوداه رسول الله -عليه السلام- من عنده".

                                                حدثنا يونس ، قال: أنا ابن وهب ، أن مالكا حدثه، عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار ، أنه أخبره: " أن عبد الله بن سهل الأنصاري 5 ومحيصة بن مسعود ، خرجا إلى خيبر ، فتفرقا في حوائجهما، فقتل عبد الله بن سهل، ، فبلغ محيصة . فأتى هو وأخوه حويصة 5 وعبد الرحمن بن سهل إلى رسول الله -عليه السلام- فذهب عبد الرحمن ليتكلم لمكانه من أخيه، فقال رسول الله -عليه السلام-: كبر كبر، فتكلم حويصة [ ص: 367 ] ومحيصة، ، فذكرا شأن عبد الله بن سهل، ، فقال لهم رسول الله -عليه السلام-: أتحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم قاتلكم أو صاحبكم؟ قالوا: يا رسول الله لم نشهد ولم نحضر، فقال رسول الله -عليه السلام-: أفتبرئكم يهود بخمسين يمينا؟ قالوا: يا رسول الله كيف نقبل أيمان قوم كفار؟! قال مالك: : قال يحيى بن سعيد: : فزعم بشير أن رسول الله -عليه السلام- وداه من عنده".

                                                حدثنا فهد ، قال: ثنا أبو نعيم ، قال: ثنا سعيد بن عبيد الطائي ، عن بشير بن يسار ، أن رجلا من الأنصار يقال له: سهل بن أبي حثمة ، أخبره: "أن نفرا من قومه انطلقوا إلى خيبر ، فتفرقوا فيها، فوجدوا أحدهم قتيلا، فقالوا للذين وجدوه عندهم: قتلتم صاحبنا، قالوا: والله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا، فانطلقوا إلى نبي الله -عليه السلام- فقالوا: يا نبي الله، انطلقنا إلى خيبر ، فوجدنا أخانا قتيلا، فقال رسول الله -عليه السلام-: الكبر الكبر، فقال لهم: تأتون بالبينة على من قتل؟ قالوا: ما لنا بينة، قال: أفيحلفون لكم؟ قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله -عليه السلام- أن يبطل دمه، فوداه بمائة من إبل الصدقة".

                                                حدثنا يونس ، قال: أنا ابن وهب ، أن مالكا حدثه، عن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن ، عن سهل بن أبي حثمة: " ، أنه أخبره رجال من كبراء قومه أن عبد الله بن سهل 5 ومحيصة ، خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم، فأتى محيصة ، فأخبر أن عبد الله بن سهل قتل وطرح في فقير أو عين، فأتى يهود فقال: أنت والله قتلتموه، فقالوا: والله ما قتلناه، فأقبل حتى قدم على قومه فذكر لهم ذلك، ثم أقبل هو وأخوه حويصة -وهو أكبر منه- وعبد الرحمن بن سهل، . فذهب محيصة ليتكلم وهو الذي كان بخيبر، ، فقال رسول الله -عليه السلام- لمحيصة: : كبر كبر يريد السن، فتكلم حويصة قيل: ثم تكلم محيصة، . فقال رسول الله -عليه السلام-: إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب، فكتب إليهم رسول الله -عليه السلام- في ذلك، فكتبوا: إنا والله ما قتلناه، فقال رسول الله -عليه السلام- لحويصة 5 ومحيصة 5 وعبد الرحمن: : أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ قالوا: لا، قال: أفتحلف لكم اليهود؟ قالوا:

                                                [ ص: 368 ] ليسوا بمسلمين، فوداه رسول الله -عليه السلام- من عنده، فبعث إليهم بمائة ناقة حتى أدخلت عليهم الدار".
                                                .

                                                التالي السابق


                                                ش: هذه أربع طرق صحاح، ورجالها كلهم رجال الصحيح ما خلا فهدا.

                                                الأول: عن يونس بن عبد الأعلى ، عن سفيان بن عيينة ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن بشير -بضم الباء الموحدة وفتح الشين المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء- بن يسار -بفتح الياء آخر الحروف والسين المهملة المخففة- الحارثي الأنصاري ، عن سهل بن أبي حثمة عبد الله الأنصاري المدني الصحابي، قال: "وجد عبد الله بن سهل بن زيد الأنصاري الحارثي -أخو عبد الرحمن بن سهل وابن أخي حويصة ومحيصة وكان قد خرج إلى خيبر في أصحاب له يمتارون تمرا فوجد في عين، قد كسرت عنقه، ثم طرح فيها فدفنوه".

                                                وعبد الرحمن بن سهل بن زيد الأنصاري شهد أحدا والخندق والمشاهد مع النبي -عليه السلام-.

                                                وحويصة -بضم الحاء- ومحيصة -بضم الميم- أخوان، ابنا مسعود بن كعب بن عامر، الصحابيان، ويقال فيهما جميعا: بتشديد الياء وتخفيفها.

                                                وهذا الحديث أخرجه الجماعة بأسانيد مختلفة وألفاظ متباينة.

                                                الثاني: عن يونس أيضا، عن عبد الله بن وهب ، عن مالك بن أنس .... إلى آخره.

                                                وأخرجه مالك في "موطئه" .

                                                [ ص: 369 ] وقال أبو عمر: لم يختلف عن مالك في إرسال هذا الحديث، وقد رواه حماد بن زيد وسفيان بن عيينة والليث بن سعد وعبد الوهاب الثقفي عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار ، عن سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج جميعا عن النبي -عليه السلام- وربما لم يذكر بعضهم رافع بن خديج، وكلهم يجعله عن سهل بن أبي حثمة مسندا.

                                                الثالث: عن فهد بن سليمان ، عن أبي نعيم الفضل بن دكين -شيخ البخاري- عن سعيد بن عبيد الطائي .... إلى آخره.

                                                وأخرجه البخاري: ثنا أبو نعيم، ثنا سعيد بن عبيد ، عن بشير بن يسار زعم أن رجلا من الأنصار يقال له: سهل بن أبي حثمة: "أخبره أن نفرا من قومه .... إلى آخره نحوه.

                                                وأخرجه مسلم: عن محمد بن عبد الله بن نمير ، عن أبيه، عن سعد بن عبيد ، عن بشير بن يسار الأنصاري ، عن سهل بن أبي حثمة الأنصاري .... إلى آخره.

                                                وأخرجه أبو داود: عن الحسن بن محمد بن الصباح ، عن أبي نعيم ، عن سعيد بن عبيد .... إلى آخره.

                                                وأخرجه النسائي: عن أحمد بن سليمان ، عن أبي نعيم .... إلى آخره.

                                                وهذا الحديث فيه حجة للحنفية في قولهم: إن الذي يبدأ أولا هو يمين المدعى عليه; لأن ظاهر الحديث يشهد بذلك، فافهم.

                                                [ ص: 370 ] الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب ، عن مالك ، عن أبي ليلى -قيل: اسمه عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل، وقيل: داود بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل، وقال فيه ابن إسحاق: أبو ليلى عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل بن أبي حثمة، وقيل: عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل .

                                                وأخرجه مالك في "موطئه" .

                                                وأخرجه البخاري: عن عبد الله بن يوسف ، وإسماعيل بن أبي أويس ، عن مالك .... إلى آخره نحوه.

                                                ومسلم: عن إسحاق بن منصور ، عن بشر بن عمر ، عن مالك .

                                                وأبو داود: عن أحمد بن عمرو بن السرح ، عن ابن وهب ، عن مالك .

                                                والنسائي كذلك: عن أحمد بن عمرو بن السرح ، عن ابن وهب ، عن مالك .

                                                وابن ماجه: عن يحيى بن حكيم ، عن بشر بن عمر ، عن مالك نحوه.

                                                قوله: "في قليب" بفتح القاف وكسر اللام وفي آخره باء موحدة، وهو البئر التي لم تطو، ويذكر ويؤنث، ويجمع على قلب بضم القاف واللام.

                                                و"خيبر" مدينة بني عنزة، من المدينة ست مراحل من ناحية الشرق.

                                                قوله: "الكبر الكبر" بضم الكاف وسكون الباء الموحدة وفتح الراء، أي: قدموا الأكبر؛ إرشادا إلى الأدب في تقديم الأسن، وفي رواية: "كبر الكبر" أي [ ص: 371 ] قدم الأكبر، وبابه من: كبر يكبر كعلم يعلم: إذا أسن، ومصدره: كبر بكسر الكاف وفتح الباء، وكذا مكبر بكسر الباء، وأما: كبر يكبر كحسن يحسن، فمعناه: عظم، وكبر الشيء بكسر الكاف وسكون الباء: معظمه، قال الله تعالى: والذي تولى كبره والكبر: التجبر أيضا، وأما الكبر بضم الكاف وسكون الباء كما هو لفظ الحديث فهو يعني الأكبر كما في حديث آخر "الولاء للكبر" وهو أن يموت الرجل ويترك ابنا وابن ابن، فالولاء للابن دون ابن الابن، وإنما كرر لفظ: "الكبر" في الحديث لأجل التأكيد، وانتصابه على المفعولية، أي: قدموا الأكبر، ويجوز الرفع بمعنى: ليبدأ الأكبر أو ليتقدم; فافهم.

                                                قوله: "تكلم الكبير منهما" كان الكبير من الأخوين هو حويصة .

                                                قوله: "أفتبرئكم" الهمزة فيه للاستفهام، وهو من الإبراء.

                                                قوله: "فوداه رسول الله -عليه السلام-" أي أدى ديته من عنده، وفي رواية أخرى: "فوداه من إبل الصدقة".

                                                فإن قلت: إبل الصدقة للفقراء والمساكين ولا تؤدى في الديات.

                                                قلت: كأن رسول الله -عليه السلام- رأى تطييب قلوب الفريقين، ووداه من عنده واستلفها من إبل الصدقة حتى يؤديها مما أفاء الله عليه من خمس المغنم؛ لأنه -عليه السلام- لم يكن يجتمع عنده من سهمه ما يبلغ مائة إبل لإعطائه إياها، ومن روى: "من إبل الصدقة" أخبر عن ظاهر الأمر، ومن روى: "من عنده" أخبر عن باطن القصة.

                                                [ ص: 372 ] قوله: "من جهد" بالفتح: الشدة وضيق العيش، وبضم الجيم: الوسع والطاقة، وقيل: هما لغتان في الوسع والطاقة، وأما في الشدة والفاقة فبالفتح لا غير، وهاهنا بالفتح لا غير.

                                                قوله: "في فقير" بفتح الفاء وكسر القاف، قال الحافظ المنذري: الفقير: البيت، وقيل: هي البئر قليلة الماء، والفقير أيضا: فم القناة، وفقير النخلة: حفرة تحفر للفسيلة إذا خولت لتغرس فيها.

                                                قوله: "إما أن يدوا" من ودى يدي إذا أدى الدية.

                                                قوله: "وإما أن يؤذنوا بحرب" قال الخطابي: أنكر بعض الناس قوله: "وإما أن يؤذنوا بحرب" وقال: إن الأمة اجتمعت على خلاف هذا القول، فدل أن خبر القسامة غير معمول به، ووجه الكلام بين وتأويله صحيح، وذلك أنهم إذا امتنعوا عن القسامة لزمتهم الدية، فإن أبوا أن يؤدوها إلى أولياء الدم أوذنوا بالحرب، لا يؤذنون بها إلا إذا امتنعوا من أداء الدية.

                                                قلت: احتج أصحابنا بقوله: "إما أن تدوا صاحبكم وإما أن تؤذنوا بحرب" وقالوا: ومعلوم أن النبي -عليه السلام- لم يقل ذلك لهم إلا وقد تحقق عنده قبل ذلك وجود القتيل بخيبر، فدل ذلك على وجوب الدية على اليهود؛ لوجود القتيل بينهم، ولأنه لا يجوز أن يؤذنوا بحرب إلا بمنعهم حقا واجبا عليهم.

                                                قوله: "وتستحقون دم صاحبكم" قال أبو عمر: الظاهر أنه أراد به القود.

                                                قلت: معناه وتستحقون دية صاحبكم; لأن من استحق دية صاحبه فقد استحق دمه; لأن الدية قد تؤخذ في العمد، فيكون ذلك استحقاقا للدم. والله أعلم.

                                                ويستفاد منه أحكام:

                                                الأول: مشروعية القسامة في الدم، وهو أمر كان في الجاهلية، فأقره رسول الله -عليه السلام- في الإسلام، وتوقفت طائفة عن الحكم بالقسامة، وروي ذلك عن سالم بن عبد الله بن عمر وأبي قلابة وعمر بن عبد العزيز والحكم بن عتيبة. وإليه مال البخاري .

                                                [ ص: 373 ] الثاني: فيه بيان أن القوم إذا اشتركوا في معنى من معاني الدعوى وغيرها، كان أولاهم بأن يبدأ بالكلام أكبرهم، فإذا سمع منه، تكلم أصغرهم أيضا فسمع منه أيضا إن احتيج إلى ذلك، وهذا أدب وعلم. فإن كان في الشركاء من له بيان ولتقدمته في القول وجه لم يكن بتقدمته بأس إن شاء الله.

                                                وذكر سفيان بن عيينة قال: قدم وفد من العراق على عمر بن عبد العزيز فنظر عمر إلى شاب منهم يريد الكلام ويهش إليه، فقال عمر -رحمه الله-: كبروا كبروا -يقول: قدموا الكبار- فقال الفتى: يا أمير المؤمنين إن الأمر ليس بالسن، ولو كان الأمر كذلك لكان في المسلمين من هو أسن منك، قال: صدقت، فتكلم رحمك الله، قال: إنا وفد شكر .... وذكر الخبر.

                                                الثالث: فيه جواز الوكالة في المطالبة بالحدود.

                                                الرابع: فيه جواز وكالة الحاضر، وذلك أن ولي الدم إنما هو عبد الرحمن بن سهل أخو القتيل، وحويصة ومحيصة ابنا عمه.

                                                الخامس: فيه كيفية القسامة الواقعة. وفيه خلاف يأتي في الباب الآتي مفصلا إن شاء الله.

                                                السادس: فيه: أن القتيل إذا وجد في المحلة فالقسامة والدية على أهلها، وكذا إذا وجد في مسجد المحلة أو في طريق المحلة، فيحلف منهم خمسون، فإن لم يكمل العدد خمسين رجلا منهم تكرر عليهم الأيمان حتى تكمل خمسين يمينا، وإن كان في المحلة قبائل شتى، فإن كان فيها أهل الخطة والمشترون، فالقسامة والدية على أهل الخطة ما بقي منهم واحد في قول أبي حنيفة ومحمد .

                                                وقال أبو يوسف: وعلى المشترين جميعا. وقيل: إن أبا حنيفة بنى الجواب على ما شاهده بالكوفة، وكان تدبير أهل المحلة فيها إلى أهل الخطة، وأبو يوسف رأى التدبير إلى الأشراف من أهل المحلة، كانوا من أهل الخطة أم [ ص: 374 ] لا، فبنى الجواب على ذلك، فعلى هذا لم يكن بينهما خلاف في الحقيقة، فإن لم يكن أهل الخطة وكان في المحلة ملاك وسكان فالدية على الملاك لا على السكان عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف: عليهم جميعا، وقال: لأنه -عليه السلام- أوجب القسامة على أهل خيبر وكانوا سكانا، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد .

                                                وقال أبو حنيفة ومحمد: أهل خيبر كانوا ملاكا ولم يكونوا سكانا، فإنه روي عنه -عليه السلام- "أنه أقرهم على أملاكهم".

                                                السابع: أن القسامة خمسون يمينا على خمسين رجلا، فإن لم يكمل العدد يكرر عليهم اليمين حتى يكمل خمسين يمينا كاملة.

                                                وقال ابن حزم: اختلف الناس في هذا، فقالت طائفة: لا يحلف إلا خمسون، وإن نقص من هذا العدد واحد فأكثر بطل حكم القسامة وعاد الأمر إلى التداعي. وقال آخرون: إن نقص واحد فصاعدا ردت الأيمان عليهم حتى يبلغوا اثنين، فإن كان الأولياء اثنين فقط بطلت القسامة في العمد، وأما في الخطأ فيحلف فيه واحد خمسين. وهو قول روي عن علماء أهل المدينة المتقدمين منهم.

                                                وقال آخرون: يحلف خمسون، فإن نقص من عددهم واحد فصاعدا ردت الأيمان عليهم حتى يرجعوا إلى واحد.

                                                فإن لم يكن للمقتول إلا ولي واحد بطلت القسامة وعاد الحكم إلى التداعي. وهذا قول مالك .

                                                وقال آخرون: تردد الأيمان، وإن لم يكن إلا واحدا فإنه يحلف خمسين يمينا وحده. وهو قول الشافعي .

                                                وهكذا في أيمان المدعى عليهم أنها ترد عليهم وإن لم يبق إلا واحد، ويجبر الكسر عليهم.

                                                [ ص: 375 ] الثامن: فيه أن الواجب في القسامة الدية، وهذا باب اختلف فيه، فصح عن الحسن البصري أن لا يقاد بالقسامة، لكن يحلف المدعى عليهم بالله ما قتلنا، ويبدءون، فإن نكلوا حلف المدعون وأخذوا الدية.

                                                وصح عن شريح ترديد الأيمان، وأن القتيل إذا وجد في دار قوم فادعى أهله على غير تلك الدار فقد بطلت القسامة، ولا شيء لهم على أحد إلا ببينة.

                                                وصح عن إبراهيم النخعي إبطال القود في القسامة لكن يبدأ المدعى عليهم فيحلفون خمسين يمينا ثم يغرمون الدية مع ذلك، ورأى ترديد الأيمان.

                                                قلت: مذهب أبي حنيفة وأصحابه أيضا عدم وجوب القود، وروي عن عروة وأبي بكر بن حزم وأبان بن عثمان وجوب القود، فقالوا: إن ادعى المصاب على إنسان أنه قتله أو على جماعة فإن أولياء المدعى عليهم يبتدئون فيحلفون خمسين يمينا على واحد، ويردد عليهم الأيمان إلى أن يتموا خمسين، فإذا حلفوا دفع إليهم الواحد فقتلوه، وجلد الآخرون مائة مائة وسجنوا سنة.

                                                وصح عن سفيان الثوري أنه قال: إن وجد القتيل في دار قوم فالبينة على أولياء القتيل، فإن أتوا بها قضى لهم بالقود، وإلا حلف المدعى عليهم خمسين يمينا، وغرموا الدية مع ذلك.

                                                وقال مالك: لا تكون القسامة إلا بأن يقول المصاب: فلان قتلني عمدا، فإذا قال ذلك ثم مات قبل أن يفيق حلف خمسون من أوليائه قياما في المسجد الجامع مستقبلي القبلة: لقد قتله فلان عمدا، فإذا حلفوا على واحد فلهم القود منه، فإن حلفوا على جماعة لم يكن لهم القود إلا من واحد، ويضرب الباقون مائة مائة ويسجنون سنة.

                                                فإن شهد شاهد عدل بأن فلانا قتل فلانا كانت القسامة أيضا كما ذكرنا، وكذلك إن شهد لوث من نساء أو غير عدول، فإن لم يكونوا خمسين ردت عليهم أيمانهم حتى تتم خمسين، ولا يحلف في القسامة أقل من اثنين ولا غرامة، قال:

                                                [ ص: 376 ] فإن نكل جميع أولياء القتيل حلف المدعى عليهم خمسين يمينا، فإن لم يبلغوا خمسين ردت الأيمان عليهم، فإن لم يوجد إلا المدعى عليه وحده حلف خمسين يمينا وبرئ، فإن نكل أحد ممن له العفو من الأولياء بطلت القسامة ووجبت الأيمان على المدعى عليهم، ولا قسامة في قتيل وجد في دار قوم ولا غرامة، ولا في دعوى عبد أن فلانا قتله.

                                                وفي دعوى المريض أن فلانا قتلني خطأ روايتان:

                                                إحداهما: أن في ذلك قسامة.

                                                والأخرى: لا قسامة في ذلك ولا في كافر.

                                                وقال الشافعي: لا قسامة في دعوى إنسان أن فلانا قتلني أصلا، سواء كان عمدا أو خطأ، ولا غرامة في ذلك، وإنما القسامة في قتيل وجد بين دور قوم كلهم عدو للمقتول فادعى أولياؤه عليهم; فإن أولياء القتيل يبدءون فيحلف منهم خمسون رجلا يمينا يمينا أنهم قتلوه عمدا أو خطأ، فإن نقص عددهم ردت الأيمان، فإن لم يكن إلا واحد حلف خمسين يمينا واستحقت الدية على سكان تلك الدور، ولا يستحق بالقسامة قود أصلا، وإن شهد واحد عدل أو جماعة متواترة غير عدول أن فلانا قتل فلانا تجب القسامة كما ذكرنا والدية، أو وجد قتيل في زحام فالقسامة أيضا والدية كما ذكرنا.

                                                وقال ابن حزم: قال أصحابنا: إن وجد قتيل في دار قوم أعداء له، فادعى أولياؤه على واحد منهم، حلف خمسون منهم واستحقوا القود أو الدية، ولا قسامة إلا في حر مسلم.




                                                الخدمات العلمية