الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تلقوا الركبان للبيع ولا يبع بعضكم على بيع بعض ولا تناجشوا ولا يبع حاضر لباد ولا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر وللبيهقي في المعرفة من طريق الشافعي لا تصروا الإبل والغنم للبيع .

                                                            التالي السابق


                                                            (الحديث الثالث)

                                                            وعن الأعرج عن أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تلقوا الركبان للبيع ولا يبع بعضكم على بيع بعض ولا تناجشوا ولا يبع حاضر لباد ولا تصروا الغنم والإبل فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر ).

                                                            (فيه) فوائد:

                                                            (الأولى) أخرجه الشيخان ، وأبو داود والنسائي من هذا الوجه من طريق مالك عن أبي الزناد وليس في رواية النسائي ذكر التصرية، وأخرج البخاري حديث المصراة من رواية جعفر بن ربيعة كلاهما عن الأعرج ، وأخرج مسلم ، وأبو داود والترمذي والنسائي حديث المصراة من رواية محمد بن سيرين عن أبي هريرة بلفظ من اشترى شاة مصراة فهو بخير النظرين إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها وصاعا من تمر لا سمراء لفظ مسلم وفي لفظ له ولأبي داود والترمذي (فهو بالخيار ثلاثة أيام وفيه صاعا من طعام لا سمراء) وعند النسائي (ثلاثة أيام) وقال وصاعا من تمر لا سمراء وذكر البخاري في صحيحه الاختلاف على ابن سيرين في الطعام والتمر وذكر الثلاث، وإسقاطها، وقال والتمر أكثر ورواه البخاري ، وأبو داود من رواية ثابت بن عياض عن أبي هريرة [ ص: 64 ] بلفظ من اشترى غنما مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر ورواه مسلم والنسائي من رواية موسى بن يسار عن أبي هريرة وفيه صاع من تمر ورواه مسلم أيضا من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة وفيه بالخيار ثلاثة أيام وقال صاعا من تمر ومن رواية همام عن أبي هريرة وقال صاعا من تمر ورواه الترمذي من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة وقال صاعا من تمر وروى مسلم من رواية إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا لا يسم المسلم على سوم المسلم ومن رواية شعبة عن العلاء وسهيل عن أبويهما عن أبي هريرة ومن رواية شعبة عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يستام الرجل على سوم أخيه وفي رواية على سيمة أخيه وروى البخاري هذه الرواية الأخيرة بلفظ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التلقي، وأن يبتاع المهاجر للأعرابي، وأن يشترط للمرأة طلاق أختها، وأن يستام الرجل على سوم أخيه ونهى عن النجش وعن التصرية أورده في الشروط ورواه مسلم أيضا بهذه السياقة بمعناه.

                                                            (الثانية) فيه تحريم تلقي الركبان وفسره أصحابنا بأن يتلق طائفة يحملون طعاما إلى البلد فيشتريه منهم قبل قدومهم البلد ومعرفة سعره ومقتضى هذا التفسير أن التلقي لشراء غير الطعام ليس حكمه كذلك ولم أر هذا التقييد في كلام غيرهم ومقتضى النهي عنه تحريمه وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد والجمهور، وقال أبو حنيفة والأوزاعي يجوز التلقي إذا لم يضر بالناس فإن ضر سكره كذا حكاه النووي وقال: والصحيح الأول للنهي الصريح، والذي في كتب الحنفية الكراهة في حالتين:

                                                            (إحداهما) أن يضر بأهل البلد.

                                                            (والثانية) أن يغلي السعر على الواردين فإن [ ص: 65 ] أراد النووي ضرر أهل البلد فيرد عليه الحالة الثانية، وإن أراد مطلق الناس تناول الصورتين ثم إن الكراهة عند بعضهم للتحريم فإن أرادوا ذلك هنا كان مذهبهم موافقا لمذهب الجمهور لكن قال ابن حزم : إن أبا حنيفة كرهه إن أضر بأهل البلد دون أن يحظره قال: وما نعلم أحدا قاله قبله، وحكى ابن حزم عن مالك أنه لا يجوز فعله للتجارة ولا بأس به لابتياع القوت من الطعام والأضحية. قال: ولا نعلم عن أحد قبل مالك .

                                                            (الثالثة) شرط أصحابنا الشافعية في التحريم أن يعلم النهي عن التلقي وكذا في سائر المناهي ويوافق ذلك ما رواه سحنون عن ابن القاسم أنه يؤدب إلا أن يعذر بالجهالة وروى عيسى بن دينار عن ابن القاسم أنه يؤدب إذا كان معتادا بذلك.

                                                            (الرابعة) واختلفوا في شرط آخر، وهو أن يقصد التلقي فلو لم يقصده بل خرج لشغل فاشترى منهم ففي تحريمه خلاف عند الشافعية والمالكية والأصح عند الشافعية تحريمه ؛ لوجود المعنى وسيأتي عن الليث بن سعد اشتراط قصد التلقي .

                                                            (الخامسة) اختلف العلماء في أن البيع هل يبطل أم لا فقال الشافعي وأحمد لا يبطل فإن النهي لا يرجع إلى نفس العقد ولا يخل هذا الفعل بشيء من أركانه وشرائطه، وإنما هو لأجل الإضرار بالركبان وذلك لا يقدح في نفس البيع، وقال آخرون يبطل ؛ لأن النهي يقتضي الفساد، وحكاه الشيخ تقي الدين في شرح العمدة عن غير الشافعي من العلماء، وهذه الصيغة لا عموم فيها وليس المراد أن جميع العلماء غير الشافعي قائلون بالبطلان، وإن كانت العبارة توهم ذلك، وهذا قول في مذهب مالك حكاه سحنون عن غير ابن القاسم وقال ابن خويز منداد : البيع صحيح على قول الجميع، وإنما الخلاف في أن المشتري لا يفوز بالسلعة، ويشركه فيها أهل الأسواق ولا خيار للبائع أو أن البائع بالخيار.

                                                            وقال ابن عبد البر ما حكاه ابن خويز منداد عن الجميع في جواز البيع هو الصحيح لا ما حكاه سحنون عن غير ابن القاسم أنه يفسخ البيع. قال: وكان ابن حبيب يذهب إلى فسخ البيع في ذلك فإن لم يوجد عرضت السلعة على أهل السوق واشتركوا فيها إن أحبوا، وإن أبوها ردت على مبتاعها.

                                                            (السادسة) إذا قلنا إن البيع لا يبطل [ ص: 66 ] فهل يثبت للبائع الخيار أم لا ؟ قال الشافعية لا خيار للبائع قبل أن يقدم ويعلم السعر فإذا قدم فإن كان الشراء بأرخص من سعر البلد ثبت له الخيار سواء أخبر المتلقي بالسعر كاذبا أم لم يخبر، وإن كان الشراء بسعر البلد أو أكثر فوجهان (أصحهما) عندهم أنه لا خيار له لعدم الغبن.

                                                            (والثاني) ثبوته لإطلاق الحديث الذي رواه مسلم وغيره من رواية هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تلقوا الجلب فمن تلقى فاشترى منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار وقال الحنابلة أيضا بثبوت الخيار لكنهم قيدوه بأن يغبن بما لا يغبن به عادة واختلفوا في تقديره فقدره بعضهم بالثلث وبعضهم بالسدس واختلف المالكية القائلون بأن البيع لا يبطل على قولين.

                                                            (أحدهما): أن السلعة تعرض على أهل السلع في السوق فيشتركون فيها بذلك الثمن بلا زيادة فإن لم يوجد لها سوق عرضت على الناس في المصر فيشتركون فيها إن أحبوا فإن نقصت عن ذلك الثمن لزمت المشتري قاله ابن القاسم وأصبغ .

                                                            (والثاني) يفوز بها المشتري وقال الليث بن سعد إن كان بائعها لم يذهب ردت إليه حتى تباع في السوق، وإن كان قد ذهب ارتجعت منه وبيعت في السوق ودفع إليه ثمنها.

                                                            (السابعة) قال النووي : قال العلماء سبب التحريم إزالة الضرر عن الجالب وصيانته ممن يخدعه قال الإمام أبو عبد الله المازري : فإن قيل المنع من بيع الحاضر للبادي سببه الرفق بأهل البلد واحتمل فيه غبن البادي فالمنع من التلقي أن لا يغبن البادي ولهذا قال صلى الله عليه وسلم " فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار " . فالجواب: أن الشرع ينظر في مثل هذه المسائل إلى مصلحة الناس والمصلحة تقتضي أن ينظر للجماعة على الواحد لا للواحد على الجماعة فلما كان البادي إذا باع بنفسه انتفع جميع أهل السوق واشتروا رخيصا فانتفع به جميع سكان البلد نظر الشرع لأهل البلد على البادي.

                                                            ولما كان في التلقي إنما ينتفع المتلقي خاصة وهو واحد في مقابلة واحد لم تكن إباحة التلقي مصلحة لا سيما وينضاف إلى ذلك علة ثانية وهي لحوق الضرر بأهل السوق في انفراد المتلقي عنهم بالرخص وقطع المواد عنهم وهم أكثر من المتلقي [ ص: 67 ] فنظر الشرع لهم عليه فلا تناقض بين المسألتين بل هما متفقتان في الحكم والمصلحة. انتهى.

                                                            وذكر بعضهم أن المنع من التلقي هو لمصلحة أهل البلد أيضا فإن القوافل إذا صنع معهم مثل هذا الصنع تأذوا من ذلك وكان سببا لانقطاعهم عن البلد فيتضرر أهل البلد بانقطاع الجلب عنهم. وقال: ابن عبد البر معنى النهي عند مالك والليث الرفق بأهل الأسواق لئلا يقطع بهم عما لو جلسوا يبتغون من فضل الله فنهى الناس أن يتلقوا السلع ؛ لأن في ذلك فسادا عليهم.

                                                            ومذهب الشافعي أن النهي إنما ورد رفقا بصاحب السلعة لئلا يبخس في ثمن سلعته، وقد روي بمثل ما قاله الشافعي خبر صحيح يلزم العمل به فذكر رواية الخيار، وفيما حكاه عن الليث نظر ؛ لأنه يقول بثبوت الخيار للبائع كما يقوله الشافعي فمذهبه حينئذ النظر للبائع لا لأهل البلد، وذكر ابن حزم أن كلا القولين فاسد فرحمته بأهل الحضر والجالبين سواء ولكنها الشرائع توحى إليه فيؤديها كما أمر.

                                                            (الثامنة) شرط بعض أصحابنا للتحريم شرطا آخر وهو أن يبتدئ المتلقي القافلة بطلب الشراء منهم فلو ابتدءوه فالتمسوا منه الشراء منهم وهم عالمون بسعر البلد أو غير عالمين فجعلوه على الخلاف فيما لو بان أن الشراء بسعر البلد أو أكثر وقد عرفت أن الأصح في هذه الصورة أنه لا خيار.

                                                            (التاسعة) قوله (لا تلقوا الركبان للبيع) يتناول بيع الركبان للمتلقي وبيع المتلقي لهم وجعل أصحابنا صورة الحديث هي الأولى وحكوا في تحريم الثانية وجهين.

                                                            (العاشرة) حيث أثبتنا الخيار في هذه الصورة فاختلف أصحابنا في أنه على الفور أو يمتد ثلاثة أيام والصحيح عندهم أنه على الفور وهو ظاهر الرواية المتقدمة.

                                                            (الحادية عشرة) ظاهر الحديث أنه لا فرق في النهي عن التلقي بين أن تكون المسافة التي يتلقى إليها قريبة أو بعيدة وهو الذي يقتضيه إطلاق أصحابنا وغيرهم وقيد المالكية محل النهي بحد مخصوص واختلفوا في ذلك الحد فقال بعضهم: ميل، وقال بعضهم فرسخان وقال بعضهم يومان وهو معنى ما رواه أبو قرة عن مالك أنه قال إني لأكره تلقي السلع، وأن يبلغوا بالتلقي أربعة برد. انتهى.

                                                            فإن زادت المسافة على ذلك لم تدخل تحت النهي وقيل لمالك أرأيت إن كان ذلك على رأس [ ص: 68 ] ستة أميال فقال لا بأس بذلك، وكأن ذلك جاز على طريقته في أن النظر لأهل البلد، وإنما تتشوف أطماعهم لمن قرب منهم، وأما البعيد فلا تشوف لهم إليه ولعل النظر في تحديد القرب للعرف والله أعلم.

                                                            وحكى ابن حزم عن سفيان الثوري أنه منهي عنه إذا كان بحيث لا تقصر الصلاة إليه فإن تلقاها بحيث تقصر الصلاة فصاعدا فلا بأس بذلك.

                                                            (الثانية عشرة) بوب البخاري في صحيحه (باب منتهى التلقي) وأورد فيه حديث ابن عمر كنا نتلقى الركبان فنشتري منهم الطعام فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى نبلغ به سوق الطعام وحديثه كانوا يتبايعون في أعلى السوق فيبيعونه في مكانه فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه في مكانه حتى ينقلوه فبين بالرواية الثانية أن التلقي كان إلى أعلى السوق من غير خروج عن البلد وبين البخاري بتبويبه منتهى التلقي الجائز، وهو ما لم يخرج من البلد فإن خرج منها وقع في التلقي المنهي عنه. وكلام أصحابنا يوافق هذا حيث قالوا في تعريفه الذي قدمت ذكره (قبل قدومهم البلد) والمعنى فيه أنهم إذا قدموا البلد أمكنهم معرفة السعر وطلب الحظ ؛ لأنفسهم فإن لم يفعلوا ذلك فهو بتقصيرهم.

                                                            وأما قبل دخول البلد فإنهم لا يعرفون السعر ولو أمكنهم تعرفه فنادر لا يترتب عليه حكم.

                                                            وذكر ابن بطال أن ما كان خارجا عن السوق في الحاضرة أو قريبا منها بحيث يجد من يسأله عن سعرها أنه لا يجوز الشراء هنالك ؛ لأنه داخل في معنى التلقي، وأما الموضع البعيد الذي لا يقدر فيه على ذلك فيجوز فيه البيع وليس بتلق قال مالك ، وأكره أن يشترى في نواحي المصر حتى يهبط به السوق قال ابن المنذر وبلغني هذا القول عن أحمد وإسحاق أنهما نهيا عن التلقي خارج السوق ورخصا في ذلك في أعلى السوق إلى آخر كلامه فرد تبويب البخاري إلى مذهبه والمعنى الذي ذكره في أنه إذا وجد من يسأله عن السعر كان الشراء حراما، وإن لم يجد من يسأله عن السعر كان جائزا غير ملائم والذي يقتضيه النظر عكسه والله أعلم.

                                                            وحكى ابن عبد البر عن الليث بن سعد أنه قال أكره تلقي السلع وشراءها في الطريق أو على بابك حتى تقف السلعة في سوقها التي تباع فيها قال: وإن كان على بابه أو في طريقه فمرت به سلعة يريد صاحبها سوق تلك السلعة فلا بأس أن [ ص: 69 ] يشتريها إذا لم يقصد التلقي إنما التلقي أن يقصد لذلك.

                                                            وذكر ابن حزم أن حديث ابن عمر هذا استدل به من أجاز التلقي قال ولا حجة لهم فيه لستة أوجه:

                                                            (أحدها): أن المحتجين به هم القائلون بأن الصاحب إذا روى خبرا ثم خالفه فقوله حجة في رد الخبر، وقد صح عن ابن عمر الفتيا بترك التلقي.

                                                            (ثانيها): أنه لا كراهة عندهم في بيع الطعام حيث ابتاعه.

                                                            (ثالثها): أن معنى قوله فنهانا أن نبيعه أن نبتاعه.

                                                            (رابعها): أن هذا منسوخ بالنهي.

                                                            (خامسها): أنه محمول على أن البائعين أجازوا البيع. (سادسها): ما قدمته من أن الرواية الأخرى بينت أن التلقي كان إلى أعلى السوق من غير خروج عنه .



                                                            (الثالثة عشرة) روى أشهب عن مالك أنه كره أن يخرج الرجل من الحاضرة إلى أهل الحوائط فيشتري منهم الثمرة مكانها ورآه من التلقي وقال أشهب لا بأس بذلك وليس هذا بتلق ولكنه اشترى الشيء بموضعه، وقال ابن عبد البر لا أعلم خلافا في جواز خروج الناس إلى البلدان في الأمتعة والسلع ولا فرق بين القريب والبعيد من ذلك في النظر، وإنما التلقي تلقي من خرج بسلعته يريد بها السوق.

                                                            وأما من قصدته إلى موضعه فلم تتلقه. انتهى.

                                                            (الرابعة عشرة) قوله (لا تلقوا الركبان) خرج مخرج الغالب في أن الجالبين للمتاع يكونون جماعة ركبانا فلو كانوا مشاة أو كان الجالب للمتاع واحدا راكبا كان أو ماشيا كان الحكم كذلك، وما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له .



                                                            (الخامسة عشرة) فيه تحريم البيع على بيع أخيه وهو أن يقول لمن اشترى سلعة في زمن خيار المجلس أو الشرط افسخ لأبيعك خيرا منه أو أرخص وهو مجمع عليه .



                                                            (السادسة عشرة) وفي معناه الشراء على شراء أخيه وهو أن يقول للبائع في زمن الخيار افسخ لأشتري منك بأكثر وهو مجمع على منعه أيضا، وذهب ابن حبيب من المالكية وأبو عبيدة معمر بن المثنى وأبو عبيد القاسم بن سلام وأبو زيد الأنصاري إلى حمل البيع على بيع أخيه، والشراء على شراء أخيه ؛ لأن العرب تقول بعت بمعنى اشتريت قالوا ؛ لأنه لا يبيع أحد على بيع أحد في العادة وما أدري أي موجب لصرف اللفظ عن ظاهره والاستعمال الذي ذكروه في تسمية الشراء بيعا، وإن كان صحيحا ولكن عكسه أشهر منه. وقد [ ص: 70 ] رد ذلك ابن عبد البر وكون البيع على البيع لا يغلب وقوعه مردود وبتقدير ذلك فهذا لا يقتضي أنه لا ينهى عنه .



                                                            (السابعة عشرة) وفي معناه أيضا السوم على سوم أخيه وقد ورد النهي عنه على انفراده في الصحيحين كما تقدم وتوقف الشافعي في ثبوته فقال إن كان ثابتا ولست أحفظه ثابتا قال البيهقي قد ثبت من أوجه وبسط ذلك ثم قال وهذا حديث واحد واختلف الرواة في لفظه ؛ لأن الذي رواه على أحد هذه الألفاظ الثلاثة من البيع والسوم والاستيام لم يذكر معه شيئا من اللفظتين الأخيرتين إلا في رواية شاذة ذكرها مسلم عن عمرو الناقد عن سفيان عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة ذكر فيها لفظ البيع والسوم جميعا، وأكثر الرواة لم يذكروا عن ابن عيينة فيه لفظ السوم فأما أن يكون معنى ما رواه ابن المسيب عن أبي هريرة ما فسره غيره من السوم والاستيام، وإما أن ترجح رواية ابن المسيب على رواية غيره فإنه أحفظهم، وأفقههم ومعه من أصحاب أبي هريرة عبد الرحمن الأعرج ، وأبو سعيد مولى عامر بن كريز وعبد الرحمن بن يعقوب في بعض الروايات عن العلاء عنه وبأن روايته توافق رواية عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم . انتهى.

                                                            وهذا معنى قول الشيخ - رحمه الله - في النسخة الكبرى من الأحكام زاد مسلم في رواية ولا يسم الرجل على سوم أخيه وقال البيهقي إنها شاذة انتهى.

                                                            فيقال قد تقدم أن رواية السوم في الصحيحين فكيف عزاها لمسلم خاصة وكيف حكى عن البيهقي شذوذها مع أنه قال: إنها ثابتة ؟، وجوابه أن الذي انفرد به مسلم وقال البيهقي أنه شاذ زيادة السوم مع ذكر البيع.

                                                            وأما ذكر السوم وحده فهو الذي في الصحيحين وحكم البيهقي بثبوته، والله أعلم.

                                                            والسوم على السوم هو أن يأخذ شيئا ليشتري به فيجيء إليه غيره ويقول رده حتى أبيعك خيرا منه بهذا الثمن أو يقول لمالكه استرده لأشتريه منك بأكثر من هذا الثمن وحمل مالك - رحمه الله - النهي عن البيع على بيع أخيه على السوم وقد ظهر بذلك في تفسير البيع على بيع أخيه ثلاثة أقوال والسوم على السوم متفق على منعه إذا كان بعد استقرار الثمن وركون أحدهما إلى الآخر، وإنما يحرم ذلك إذا حصل التراضي صريحا فإن لم يصرح ولكن جرى [ ص: 71 ] ما يدل على الرضى ففي التحريم وجهان أصحهما لا يحرم فإن لم يجر شيء بل سكت فالمذهب الذي عليه الأكثرون أنه لا يحرم كما لو صرح بالرد وقيل هو على الوجهين المتقدمين.

                                                            وأما السوم في السلعة التي تباع فيمن يزيد فليس بحرام. وقال مالك والشافعي والجمهور بجواز البيع والشراء فيمن يزيد وكرهه بعض السلف ونقل ابن عبد البر الإجماع على الجواز ونقل ابن حزم اشتراط الركون في ذلك عن مالك ثم قال: وهذا تفسير لا يدل عليه لفظ الحديث.

                                                            (الثامنة عشرة) قال القاضي ابن كج من الشافعية شرط تحريم البيع على بيع أخيه أن لا يكون المشتري مغبونا غبنا مفرطا فإن كان فله أن يعرفه ويبيع على بيعه ؛ لأنه ضرب من النصيحة. وقال النووي : هذا الشرط انفرد به ابن كج وهو خلاف ظاهر إطلاق الحديث والمختار أنه ليس بشرط والله أعلم.

                                                            ووافقه ابن حزم الظاهري فقال: وأما من رأى المساوم أو البائع لا يريد الرجوع إلى القيمة لكن يريد غبن صاحبه بغير علمه فهذا فرض عليه نصيحة المسلم فقد خرج عن هذا النهي بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الدين النصيحة .

                                                            (التاسعة عشرة) محل التحريم ما لم يأذن البائع في البيع على بيعه فإن أذن في ذلك ارتفع التحريم على الصحيح عند أصحابنا وقد ورد التصريح بذلك في قوله في الحديث الصحيح إلا أن يأذن له .



                                                            (العشرون) ظاهر قوله على بيع أخيه اختصاص ذلك بالمسلم لكن الصحيح أنه لا فرق بين المسلم والذمي وقال أبو عبيدة بن حربويه يختص بالمسلم والصحيح خلافه ؛ لأن هذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له. وقال ابن عبد البر : أجمع الفقهاء على أنه لا يجوز دخول المسلم على الذمي في سومه إلا الأوزاعي وحده فإنه قال: لا بأس به.

                                                            (الحادية والعشرون) لو ارتكب المنهي في هذا وعقد فهو آثم بذلك والبيع صحيح لعدم اختلال الأركان والشروط والنهي عن سبب ذلك لأذى غيره ولا يرجع ذلك إلى العقد وبذلك قال الشافعي وأبو حنيفة والجمهور وقال داود وابن حزم الظاهريان: لا ينعقد ؛ وعن مالك روايتان كالمذهبين وجزم ابن خويز منداد وابن عبد البر عن مالك بالبطلان. وأنكر ابن الماجشون أن يكون مالك قاله في البيع. وقال إنما قاله في الخطبة وهما وجهان عند الحنابلة [ ص: 72 ]

                                                            (الثانية والعشرون) قد يدخل في السوم على سوم أخيه الإجارة أيضا فإن المنافع كالأعيان في أنها تقصد ويعقد عليها وقد تدخل أيضا في البيع على البيع تفريعا على ثبوت الخيار فيها وهو وجه عندنا، وإن كان المشهور خلافه وذلك ؛ لأن الإجارة بيع في اللغة، وإن اختصت باسم .



                                                            (الثالثة والعشرون) وكذلك السلم قد يدخل في السوم على السوم بأن يتفق شخص مع آخر على السلم له في غلة ؛ بسعر كذا وتحصل الإجابة صريحا فيقول شخص للمسلم عندي خير من هذه الغلة أو مثلها بأنقص من هذا السعر أو يقول لمسلم إليه أنا أعطيك أزيد من رأس المال الذي يدفعه المسلم وقد يقال لا يلتحق السلم في ذلك بالبيع لتعلق البيع بالأعيان.

                                                            وأما السلم لما كان بيعا في الذمة لم يكن بين العقدين تناف فقد يعقد كل منهما لكن متى تمكن المسلم إليه من عقد السلم برأس مال كثير لا يعقده برأس مال قليل في العادة فيحصل حينئذ الضرر وهذا أرجح والله أعلم .



                                                            (الرابعة والعشرون) فيه النهي عن بيع الحاضر للبادي وهو محمول على التحريم عند مالك والشافعي وأحمد والأكثرين، وحمله بعضهم على كراهة التنزيه وذهبت طائفة إلى جوازه لحديث الدين النصيحة وقالوا حديث النهي عن بيع الحاضر للبادي منسوخ وحكي ذلك عن عطاء ومجاهد وأبي حنيفة ورده الجمهور بأن النهي الذي هنا خاص فيقدم على عموم الأمر بالنصيحة ويكون هذا كالمستثنى منها قالالنووي والصحيح الأول ولا يقبل النسخ ولا كراهة تنزيه بمجرد الدعوى قال القفال من الشافعية والإثم على البلدي دون البدوي.

                                                            (الخامسة والعشرون) فسر أصحابنا بيع الحاضر للبادي بأن يقدم إلى البلد بلدي أو قروي بسلعة يريد بيعها بسعر الوقت ليرجع إلى وطنه فيأتيه بلدي فيقول ضع متاعك عندي لأبيعه على التدريج بأغلى من هذا السعر فلم يعتدوا الحكم بالبادي وجعلوه منوطا بمن ليس من أهل البلد سواء كان باديا أو حاضرا ؛ لأن المعنى في إضرار أهل البلد يتناول الصورتين وذكر البادي مثال لا قيد، وجعله مالك قيدا فحكى ابن عبد البر أنه قيل له: من أهل البادية ؟ قال أهل العمود قيل له القرى المسكونة التي لا يفارقها [ ص: 73 ] أهلها في نواحي المدينة يقدم بعضهم بالسلع فيبيعها لهم أهل المدينة قال نعم إنما معنى الحديث أهل العمود.

                                                            وحكى ابن عبد البر أيضا عن مالك أنه قال تفسير ذلك أهل البادية، وأهل القرى فأما أهل المدائن من أهل الريف فإنه ليس بالبيع لهم بأس ممن يرى أنه يعرف السوم إلا من كان منهم يشبه أهل البادية فإني لا أحب أن يبيع لهم حاضر قال وبه قال ابن حبيب قال والبادي الذي لا يبيع لهم الحاضر هم أهل العمود، وأهل البوادي والبراري مثل الأعراب. قال: وجاء النهي في ذلك إرادة أن يصيب الناس ثمرتهم ثم ذكر حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يبع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض وقد أخرجه مسلم وغيره. قال: فأما أهل القرى الذين يعرفون أثمان سلعتهم، وأسواقها فلم يعنوا بهذا الحديث وحكى ابن عبد البر أيضا عن ابن القاسم أنه قال: ثم قال يعني مالكا بعد ذلك ولا يبيع مصري لمدني ولا مدني لمصري ولكن يشير عليه، وحكى ابن الحاجب في مختصره الخلاف في ذلك عن مالك فقال: وفي الموطإ يحمله على أهل العمود لجهلهم بالأسعار وقيل بعمومه ؛ لقوله ؛ ولا يبيع مدني لمصري ولا مصري لمدني.

                                                            (السادسة والعشرون) قال أصحابنا: إنما يحرم بشروط :

                                                            (أحدها) أن يكون عالما بالنهي فيه وهذا شرط يعم جميع المناهي. .

                                                            (والثاني): أن يكون المتاع المجلوب مما تعم الحاجة إليه كالأطعمة ونحوها فأما ما لا يحتاج إليه إلا نادرا فلا يدخل في النهي.

                                                            (والثالث) أن يظهر ببيع ذلك المتاع سعة في البلد فإن لم يظهر ؛ لكبر البلد ؛ أو قلة ما معه أو ؛ لعموم وجوده ورخص السعر فوجهان أوفقهما للحديث التحريم. .

                                                            (والرابع) أن يعرض الحضري ذلك على البدوي ويدعوه إليه أما إذا التمس البدوي منه بيعه تدريجا أو قصد الإقامة في البلد لبيع ذلك فسأل البدوي تفويضه إليه فلا بأس به ؛ لأنه لم يضر بالناس ولا سبيل إلى منع المالك منه، ولو أن البدوي استشار البلدي فيما فيه حظه فهل يرشده إلى الادخار أو البيع على التدريج ؟ وجهان. حكى القاضي ابن كج عن أبي الطيب بن سلمة وأبي إسحاق المروزي أنه يجب عليه إرشاده إليه أداء للنصيحة وعن أبي حفص بن الوكيل أنه لا يرشده إليه توسيعا على الناس.

                                                            وكذا [ ص: 74 ] اعتبر الحنابلة هذه الشروط، وعبارة ابن تيمية في المحرر وبيع الحاضر للبادي منهي عنه بخمسة شروط أن يحضر البادي لبيع شيء بسعر يومه وهو جاهل بسعره وبالناس إليه حاجة ويقصده الحاضر وقال مالك في البدوي يقدم فيسأل الحاضر عن السعر أكره له أن يخبره وقال أيضا لا أرى أن يبيع مصري لمدني ولا مدني لمصري ولكن يشير عليه. وقال أيضا: لا يبيع أهل القرى لأهل البادية سلعهم قيل له فإن بعث بالسلعة إلى أخ له من أهل القرى لم يقدم معه سلعته قال لا ينبغي له ذلك حكى ذلك كله عنه ابن عبد البر ثم حكى عن ابن حبيب أنه قال لا يبعث البدوي إلى الحضري بمتاع يبيعه له ولا يشير عليه في البيع إن قدم عليه ثم حكى عن الليث بن سعد أنه قال لا يشير الحاضر على البادي ؛ لأنه إذا أشار عليه فقد باع له ؛ لأن من شأن أهل البادية أن يرخصوا إلى أهل الحضر لقلة معرفتهم بالسوق وقال الأوزاعي لا يبيع حاضر لباد ولكن لا بأس أن يخبره بالسعر.

                                                            وقال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة: واعلم أن أكثر هذه الأحكام تدور بين اتباع المعنى واتباع اللفظ ولكن ينبغي أن ينظر في المعنى إلى الظهور والخفاء فحيث يظهر ظهورا كثيرا فلا بأس باتباعه وتخصيص النص به أو تعميمه على قواعد القياس، وحيث يخفى أو لا يظهر ظهورا قويا فاتباع اللفظ أولى. وأما ما ذكر في اشتراط أن يلتمس البدوي ذلك فلا يقوى ؛ لعدم دلالة اللفظ عليه وعدم ظهور المعنى فيه فإن المذكور الذي علل به النهي لا يفترق الحال فيه بين سؤال البلدي وعدمه ظاهر أو أما اشتراط أن يكون الطعام مما تدعو الحاجة إليه فمتوسط في الظهور وعدمه لاحتمال أن يراعي مجرد ربح الناس على ما أشعر به التعليل من قوله: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض .

                                                            وأما اشتراط أن يظهر لذلك المتاع المجلوب سعة في البلد فكذلك أيضا أي إنه متوسط في الظهور ؛ لما ذكرناه من احتمال أن يكون المقصود مجرد تقريب الربح والرزق على أهل البلد.

                                                            وهذه الشروط (منها) ما يقوم الدليل الشرعي عليه كشرطنا العلم بالنهي ولا إشكال فيها. (ومنها) ما يؤخذ باستنباط المعنى فيخرج على قاعدة أصولية وهي أن النص إذا استنبط منه معنى يعود عليه بالتخصيص هل يصح أم لا انتهى.

                                                            وقال والدي - رحمه الله - في شرح الترمذي جواز الإشارة عليه هو الصواب ؛ لأنه إنما نهى [ ص: 75 ] عن البيع له ليس فيه بيع له، وقد أمر بنصحه في بعض طرق هذا الحديث وهو قوله وإذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له انتهى.

                                                            وبه قال ابن حزم (السابعة والعشرون) لو خالف الحاضر وباع للبادي حيث منعناه منه كان البيع صحيحا عند الشافعي وطائفة لجمعه الأركان والشرائط والخلل في غيره. واختلف المالكية في ذلك فقال بعضهم بالصحة وبعضهم بالبطلان ما لم يفت والقولان عن ابن القاسم وممن قال بالبطلان ابن حبيب وابن حزم الظاهري وقال سحنون وقال لي غير ابن القاسم إنه يرد البيع، وعن أحمد في ذلك روايتان ومستند البطلان اقتضاء النهي الفساد قال أصحابنا وغيرهم: ولا خيار للمشتري وروى سحنون عن ابن القاسم أنه يؤدب الحاضر إذا باع للبادي وروى عيسى عنه إن كان معتادا لذلك وروي عن ابن وهب أنه لا يؤدب سواء كان عالما بالنهي أو جاهلا .



                                                            (الثامنة والعشرون) أما شراء الحاضر للبادي فاختلف فيه قول مالك فمرة منعه ومرة قال لا بأس به وقال ابن حبيب الشراء للبادي مثل البيع ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم لا يبيع بعضكم على بيع بعض إنما هو لا يشتري أحدكم على شراء بعض، قال فلا يجوز للحضري أن يشتري للبدوي ولا أن يبيع له وبه قال ابن حزم الظاهري وقد عرفت الرد عليه في حمل البيع في ذلك الحديث على الشراء قريبا ولم يتعرض أصحابنا لمنع شراء الحاضر للبادي .



                                                            (التاسعة والعشرون) بوب البخاري في صحيحه هل يبيع الحاضر للبادي بغير أجر وهل يعينه أو ينصحه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له قال ورخص فيه عطاء ثم روى حديث جرير بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة والسمع والطاعة والنصح لكل مسلم ثم روى حديث ابن عباس لا يبيع حاضر لباد، فقيل لابن عباس ما قوله لا يبيع حاضر لباد قال لا يكون له سمسارا ثم بوب من كره أن يبيع حاضر لباد بأجر، وروى فيه حديث ابن عمر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد قال وبه قال ابن عباس ، ثم بوب لا يبيع حاضر لباد بالسمسرة قال وكره ابن سيرين وإبراهيم للبائع والمشتري وقال إبراهيم : إن العرب تقول بع لي ثوبا وهي تعني الشراء ثم روى حديث أبي هريرة لا يبيع [ ص: 76 ] حاضر لباد وقال ابن بطال أراد البخاري أن يجيز بيع الحاضر للبادي بغير أجر ويمنعه إذا كان بأجر واستدل على ذلك بقول ابن عباس لا يكون له سمسارا فكأنه أجاز ذلك لغير السمسار إذا كان من طريق النصح. قال: ولم يراع الفقهاء في السمسار أجرا ولا غيره والناس في هذا على قولين فمن كره بيع الحاضر للبادي كرهه بأجر وبغير أجر ومن أجازه أجازه بأجر وبغير أجر. انتهى.

                                                            (الثلاثون) حمل الحنفية بيع الحاضر للبادي على صورة أخرى وهي أن يبيع الحضري شيئا مما يحتاج إليه أهل الحاضرة لأهل البادية لطلب زيادة السعر فقال صاحب الهداية بعد ذكره هذا الحديث وهذا إذا كان أهل البلد في قحط وعوز وهو يبيع من أهل البدو طمعا في الثمن الغالي لما فيه من الإضرار بهم أما إذا لم يكن كذلك فلا بأس به ؛ لانعدام الضرر انتهى.

                                                            ويرد حمل الحديث على هذه الصورة قول ابن عباس رضي الله عنه لما سئل عن تفسيره لا يكون له سمسارا والحديث الذي رواه أبو داود من طريق ابن إسحاق عن سالم المكي أن أعرابيا حدثه أنه قدم بجلوبة له على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فنزل على طلحة بن عبيد الله فقال إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع حاضر لباد ولكن اذهب إلى السوق فانظر من يبايعك فشاورني حتى آمرك، وأنهاك .



                                                            (الحادية والثلاثون) قوله (ولا تصروا) هو بضم التاء وفتح الصاد ؛ ونصب (الغنم والإبل) من التصرية ، وهي الجمع يقال صرى يصري تصرية فهي مصراة كغشاها يغشيها تغشية فهي مغشاة وزكاها يزكيها تزكية فهي مزكاة ويقال أيضا صرى بالتخفيف قال القاضي عياض ورويناه من غير صحيح مسلم عن بعضهم لا تصروا بفتح التاء وضم الصاد من الصر وعن بعضهم لا تصر الإبل بضم التاء من تصر بغير واو بعد الراء وبرفع الإبل على ما لم يسم فاعله من الصر أيضا وهو ربط أخلافها. والأول هو الصواب المشهور ومعناه لا يجمع اللبن في ضرعها عند إرادة بيعها حتى يعظم ضرعها فيظن المشتري أن كثرة لبنها عادة لها مستمرة، ومنه قول العرب صريت الماء في الحوض أي جمعته وصرى الماء في ظهره أي حبسه فلم يتزوج قال الخطابي اختلف العلماء، وأهل اللغة في تفسير المصراة وفي اشتقاقها فقال [ ص: 77 ] الشافعي : التصرية أن تربط أخلاف الناقة أو الشاة ويترك حلبها اليومين والثلاثة حتى يجتمع لبنها فيزيد مشتريها في ثمنها بسبب ذلك لظنه أنه عادة لها، وقال أبو عبيد : هو من صرى اللبن في ضرعها أي حقنه فيه، وأصل التصرية حبس الماء قال أبو عبيد ولو كانت من الربط لكانت مصرورة أو مصررة قال الخطابي وقول أبي عبيد حسن وقول الشافعي صحيح. قال والعرب تصر الضروع المحلوبات واستدل لصحة قول الشافعي بقول العرب العبد لا يحسن الكر إنما يحسن الحلب والصر، وبقول مالك بن نويرة :

                                                            فقلـــت لقــومي هــذه صدقــاتكم مصــــررة أخلافهــــا لـــم تجـــرد



                                                            قال ويحتمل أن أصل المصراة مصررة أبدلت إحدى الرائين ألفا كقوله تعالى خاب من دساها أي دسستها كرهوا اجتماع ثلاثة أحرف من جنس واحد وقوله في رواية أخرى (محفلة) هو بضم الميم وفتح الحاء المهملة والفاء وتشديدها وهو بمعنى الرواية المشهورة سميت بذلك ؛ لأن اللبن حفل في ضرعها أي جمع.

                                                            (الثانية والثلاثون) فيه تحريم التصرية وظاهره أنه لا فرق بين أن يفعل ذلك للبيع أو غيره، وهو ظاهر إطلاق الرافعي والنووي وغيرهما لكنهما عللاه بما فيه من التدليس وذلك يقتضي اختصاصه بما إذا فعل ذلك لأجل البيع، وصرح المتولي في التتمة بتحريم التصرية مطلقا للبيع وغيره وعلله بما فيه من إيذاء الحيوان لكن روى المزني عن الشافعي عن سفيان ومالك كلاهما عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا لا تصروا الإبل والغنم للبيع ورواه البيهقي في المعرفة من طريقه، وهذا يقتضي اختصاص التحريم بحالة البيع فلو حفلها وجمع لبنها لولدها أو لضيف يقدم عليه لم يحرم، ويجاب عن التأذي بأنه يسير لا يحصل منه ضرر مستمر فيغتفر ؛ لأجل تحصيل المصلحة المتعلقة به كما يغتفر تأذي الدابة في الركوب والحمل حيث لا يكون فيه ضرر ومحظور.

                                                            (الثالثة والثلاثون) الظاهر أن ذكر الغنم والإبل دون غيرهما خرج مخرج الغالب فيما كانت العرب تصريه وتبيعه تدليسا وغشا فإن البقر قليل ببلادهم وغير الأنعام لا يقصد لبنها غالبا فلم يكونوا يصرون غير الإبل والغنم [ ص: 78 ] وما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له كيف وهو مفهوم لقب وليس حجة عند الجمهور وروى الترمذي من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة مرفوعا من اشترى مصراة وهو يتناول كل مصراة لكن في صحيح مسلم وغيره من رواية محمد بن سيرين عن أبي هريرة من اشترى شاة مصراة فصرح بذكر الموصوف وقد صرح أصحابنا بأن تحريم التصرية عام في كل مصراة سواء في ذلك الأنعام وغيرها مما هو مأكول اللحم، وغير مأكول اللحم مما يحل بيعه. وأما ثبوت الخيار ورد الصاع فسيأتي ذكره بعد ذلك إن شاء الله تعالى .



                                                            (الرابعة والثلاثون) وفيه أن بيع المصراة صحيح ؛ لقوله (إن رضيها أمسكها) وهو مجمع عليه، وأنه يثبت للمشتري الخيار إذا علم التصرية وبه قال الجمهور وقال أبو حنيفة لا يردها بعد أن يحلبها، وإنما يرجع بنقصان العيب.

                                                            (الخامسة والثلاثون) (إن قلت) قوله بعد أن يحلبها يقتضي أنه لا يثبت الخيار إلا بعد الحلب مع أنه ثابت قبله إذا علم التصرية (قلت) قال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة جوابه أنه يقتضي إثبات الخيار في هذين الأمرين المعينين أعني الإمساك والرد مع الصاع وهذا إنما يكون بعد الحلب لتوقف هذين المعينين على الحلب ؛ لأن الصاع عوض عن اللبن ومن ضرورة ذلك الحلب. انتهى.

                                                            (قلت) وقد يجاب عنه بأن التصرية لا تعرف غالبا إلا بالحلب ؛ لأنه إذا حلب أولا لبنا غزيرا ثم حلب ثانيا لبنا قليلا عرف حينئذ ذلك فعبر بالحلب عن معرفة التصرية ؛ لأنه ملازم له غالبا، والله أعلم.

                                                            (السادسة والثلاثون) ظاهر قوله (وإن سخطها ردها) أن الرد يكون على الفور لكن تقدم أن في بعض طرقه فهو بالخيار ثلاثة أيام، وهو مقدم على إطلاق هذه الرواية وقد اختلف أصحابنا في ذلك على وجهين:

                                                            (أحدهما) أنه على الفور كسائر العيوب صححه البغوي والرافعي والنووي . (والثاني) أنه يمتد ثلاثة أيام لتلك الرواية صوبه الشيخ تقي الدين في شرح العمدة وهو الصحيح فقد حكاه القاضي أبو الطيب عن نص الشافعي في اختلاف العراقيين وحكاه الروياني عن نصه في الإملاء وقال ابن المنذر إنه مذهب الشافعي وذهب إليه من أصحابه أبو حامد المروزي وأبو القاسم الصيمري والماوردي والغزالي والجوري والفوراني كما حكاه شيخنا [ ص: 79 ] الإمام جمال الدين الإسنوي في المهمات وهو مذهب الحنابلة .

                                                            وأجاب الأولون عن هذه الرواية بحملها على ما إذا لم يعلم أنها مصراة إلا في ثلاثة أيام ؛ لأن الغالب أنه لا يعلم فيما دون ذلك فإنه إذا نقص لبنها في اليوم الثاني عن الأول احتمل كون النقص لعارض من سوء مرعاها في ذلك اليوم أو غير ذلك فإذا استمر كذلك ثلاثة أيام علم أنها مصراة.

                                                            (السابعة والثلاثون) القائلون بامتداد الخيار ثلاثة أيام اختلفوا في ابتدائها وللشافعية في ذلك وجهان:

                                                            (أحدهما) أن ابتداءها من العقد. .

                                                            (والثاني) أنه من التفرق وشبهوا الوجهين بالوجهين في خيار الشرط، ومقتضى ذلك أن الراجح أن ابتداءها من العقد وقال الحنابلة : إن ابتداءها من حين تبينت التصرية.

                                                            (الثامنة والثلاثون) ورتب الشافعية على القول بامتداد الخيار ثلاثة أيام فروعا. (منها) لو عرف التصرية قبل ثلاثة أيام امتد الخيار إلى آخر الثلاثة فقط.

                                                            (ومنها) أنه لو عرف التصرية في آخر الثلاثة أو بعدها فلا خيار على القول بأن مدته ثلاثة أيام لامتناع مجاوزة الثلاثة.

                                                            (ومنها) أنه لو اشترى عالما بالتصرية ثبت له الخيار ثلاثة أيام.

                                                            وأما على القول بأنه على الفور فلا يختلف الحكم في الفرعين الأولين ولا خيار في الثالث كسائر العيوب وفيما ذكره أصحابنا في هذه الفروع نظر والظاهر أن الشارع إنما اعتبر المدة من حين معرفة سبب الخيار، وإلا كان يلزم أن يكون الفور متصلا بالعقد، ولو لم يعلم به لخيف أنه إذا تأخر علمه به عن العقد فات الخيار وهذا لا يمكن القول به.

                                                            ويلزم على ما ذكروه أن يكون الفور أوسع من الثلاث في الفرع الثاني وهو بعيد ويلزم عليه أيضا أن تحسب المدة قبل التمكن من الفسخ، وذلك يفوت مقصود التوسع بالمدة ويؤدي إلى نقصانها فيما إذا لم يعلم به إلا بعد مضي بعضها وهذا مما يقوي مذهب الحنابلة في ذلك وهو عندي أظهر، وأوفق للحديث وللمعنى والله أعلم.

                                                            (التاسعة والثلاثون) ظاهره أنه لا خيار فيما إذا لم يقصد البائع التصرية بل ترك الحلب ناسيا أو لشغل عرض له أو تصرت هي بنفسها ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نهي عن التصرية ؛ لأجل البيع ثم ذكر أن من اشترى ما هو بهذه الصفة تخير وهذه الصور المذكورة لم يقع فيها تصرية لأجل البيع [ ص: 80 ] وبهذا جزم الغزالي وتبعه عبد الغفار القزويني في الحاوي الصغير وحكى البغوي فيها وجهين وصح ثبوت الخيار لحصول الضرر للمشتري، وإن لم يقصد البائع التدليس .



                                                            (الأربعون) ظاهره أنه إذا تبين للمشتري التصرية لكن در اللبن على الحد الذي أشعرت به التصرية واستمر كذلك ثبت له الخيار ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أطلق ثبوت الخيار ولم يفصل لكن هذه صورة نادرة أعني تغير الحال كما كان عليه. وصيرورتها ذات لبن غزير بعد أن لم يكن كذلك قبل التصرية فيظهر أنها غير مرادة من العموم فلا خيار فيها وفي المسألة وجهان للشافعية وينبغي بناؤها على أن الفرع النادر هل يدخل في العموم أم لا، والصحيح في الأصول دخوله لكن شبه أصحابنا الوجهين بالوجهين فيما إذا لم يعرف العيب القديم إلا بعد زواله وبالقولين فيما لو عتقت الأمة تحت عبد ولم تعلم عتقها حتى عتق الزوج ومقتضى التشبيه تصحيح أنه لا خيار كما هو الصحيح في تينك الصورتين.

                                                            (الحادية والأربعون) أخذ أصحابنا من ثبوت الخيار في المصراة ثبوت الخيار في كل موضع حصل فيه تدليس وتغرير من البائع كما لو حبس ماء القناة أو الرحى ثم أرسله عند البيع أو الإجارة فظن المشتري كثرته ثم تبين له الحال أو حمر وجه الجارية أو سود شعرها أو جعده أو أرسل الزنبور على وجهها فظنها المشتري سمينة ثم بان خلافه فله الخيار في هذه الصور كلها وحكى أصحابنا خلافا فيما لو لطخ ثوب العبد بمداد أو ألبسه ثوب الكتاب أو الخبازين وخيل كونه كاتبا أو خبازا فبان خلافه، أو أكثر علف البهيمة حتى انتفخ بطنها فظنها المشتري حاملا أو أرسل الزنبور على ضرعها فانتفخ فظنها لبونا والأصح في هذه الصور أنه لا خيار لتقصير المشتري، وأثبت المالكية الخيار في تلطخ الثوب بالمداد .



                                                            (الثانية والأربعون) فيه أنه إذا علم التصرية واختار الرد بعد أن حلبها رد معها صاعا من تمر، وأنه لا فرق في ذلك بين الغنم والإبل وغيرهما مما ألحق بهما ولا بين أن يكون اللبن قليلا أو كثيرا ولا بين أن يكون التمر قوت البلد أم لا وهذا مذهب [ ص: 81 ] مالك والشافعي وأحمد والليث بن سعد وابن أبي ليلى وأبي يوسف ، وأبي ثور وفقهاء المحدثين والجمهور، وقال بعض أصحابنا الشافعية : يرد صاعا من قوت البلد، ولا يختص بالتمر والتنصيص على التمر إنما هو لكونه كان في ذلك الوقت غالب قوت أهل المدينة . وقال بعض أصحابنا: لا يتقيد ذلك بصاع بل يتقدر الواجب بقدر اللبن ويختلف بقلته وكثرته فقد يزيد الواجب على الصاع وقد ينقص وقال أبو حنيفة وطائفة من أهل العراق وبعض المالكية لا يرد صاعا من تمر وهو رواية عن مالك رواها عنه أشهب أنه سئل عن هذا الحديث فقال قد سمعت ذلك وليس بالثابت ولا الموطإ عليه وله اللبن بما علف وضمن، قيل له نراك تضعف الحديث فقال كل شيء يوضع موضعه قال ابن عبد البر هذه رواية منكرة والصحيح عن مالك ما رواه ابن القاسم أنه قال له نأخذ بهذا الحديث قال نعم أولأحد في هذا الحديث رأي ؟ وقال ابن القاسم ، وأنا آخذ به إلا أن مالكا قال لي أرى لأهل البلدان إذا نزل بهم هذا أن يعطوا الصاع من عيشهم، وأهل مصر عيشهم الحنطة.

                                                            ووافق زفر الجمهور إلا أنه خير بين رد صاع تمر ونصف صاع بر. وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف في أحد قوليهما: يرد قيمة صاع من تمر. وروى أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عمر من ابتاع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام فإن ردها رد معها مثل أو مثلي لبنها قمحا قال الخطابي : ليس إسناده بذاك. وقال البيهقي : تفرد به جميع بن عمير قال البخاري فيه نظر. وقال ابن نمير : كان من أكذب الناس كان يقول الكراكي تفرخ في السماء ولا تقع فراخها وذكره ابن حبان في الضعفاء وقال كان رافضيا يضع الحديث، وذكره في الثقات أيضا وقال ابن عدي عامة ما يرويه لا يتابع عليه. وقال أبو حاتم كوفي صالح الحديث عن عنق الشيعة.

                                                            (الثالثة والأربعون) ظاهره أنه لا فرق في رد الصاع بين أن يكون اللبن باقيا أم لا وقال أصحابنا: إن المشتري لا يكلف رده، ولو كان باقيا ؛ لأن ما حدث بعد البيع ملكه واختلط بالمبيع وتعذر التمييز، وإذا أمسكه كان كما لو تلف، وإن أراد رده فهل يجبر عليه البائع فيه وجهان:

                                                            (أحدهما) نعم ؛ لأنه أقرب من بدله، وأصحهما لا ؛ لذهاب طراوته ولا [ ص: 82 ] خلاف عندهم أنه لو حمض لم يكلف أخذه، والخلاف في إخبار البائع عليه عند الحنابلة أيضا والأصح عندهم أيضا أنه لا يجبر وزاد المالكية على ذلك فحكوا اختلافا في صحة رده باتفاقهما فقال ابن القاسم : لا يصح رده، ولو اتفقا على ذلك ؛ لأنه بيع الطعام قبل قبضه، وقال سحنون يصح وهو إقالة ؛ وجزم أصحابنا بجوازه بالتراضي وقال البغوي وغيره إنه لا خلاف في أنهما لو تراضيا بغير التمر من قوت أو غيره أو على رد اللبن المحلوب عند بقائه جاز وذكر ابن كج وجهين في جواز إبدال التمر بالبر إذا تراضيا بذلك، ولم ير ابن حزم الظاهري أن التمر في مقابلة اللبن بل أوجب رد التمر مطلقا، وقال في اللبن الحاصل وقت البيع يرده ولو تغير فإن استهلكه رد بدله لبنا، وإن نقص رد التفاوت ولا يرد ما حدث من اللبن بعد الشراء.

                                                            (الرابعة والأربعون) الحديث ساكت عما لو عجز عن التمر، وقد قال الماوردي من أصحابنا يرد قيمته بالمدينة كذا جزم به عنه الرافعي والنووي لكنه حكى في الحاوي وجهين:

                                                            (أحدهما) هذا (والثاني) أنه يرد قيمته بأقرب بلاد التمر إليه. وقال الحنابلة في موضع العقد، وقد يقال يجب تحصيله من أقرب البلاد إليه، وقد يقال إذا قدر على التمر بعد ذلك دفعه، وأخذ القيمة التي أعطاها فينظر في ذلك.

                                                            (الخامسة والأربعون) قد عرفت أن نص هذا الحديث في الغنم والإبل وقد اتفق أصحابنا على إلحاق البقر بهما في الخيار وفي رد الصاع بل المشهور عندهم تعديه إلى سائر الحيوانات المأكولة وفي وجه شاذ يختص بالأنعام.

                                                            ولو اشترى أتانا فوجدها مصراة ففيه لأصحابنا أوجه (أصحها) أنه يردها ولا يرد للبن بدلا ؛ لأنه نجس وبه قال الحنابلة .

                                                            و (الثاني) يردها ويرد بدله صاعا من تمر قاله الإصطخري لذهابه إلى أنه طاهر مشروب. (والثالث) لا يردها أصلا لحقارة لبنها ولو اشترى جارية فوجدها مصراة ففيه أوجه (أصحها) يردها ولا يرد بدل اللبن ؛ لأنه لا يعتاض عنه غالبا وبه قال الحنابلة .

                                                            (والثاني) يردها ويرد بدله.

                                                            (والثالث) لا يرد بل يأخذ الأرش.

                                                            (السادسة والأربعون) قد يقال إن ظاهر هذه الرواية أنه لو اشترى عددا من الإبل أو الغنم أو غيرها فوجد الكل مصرا، واختار الرد رد عن المجموع صاعا من تمر سواء أكان المبيع اثنين [ ص: 83 ] أو ثلاثة أو أكثر ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام بعد أن نهى عن تصرية الإبل والغنم ذكر أن من اشتراها وسخطها رد معها صاعا من تمر. وظاهره رد الصاع مع الإبل أو الغنم لكن في الرواية الأخرى من اشترى شاة مصراة، فرتب هذا الحكم على الشاة الواحدة وقد اختلف المالكية في ذلك فقال بعضهم: يرد عن كل واحدة صاعا من تمر. وقال بعضهم بل يرد الصاع عن جميعها تعبدا ؛ لأنه ليس بثمن للبن ولا قيمة، ونقل ابن عبد البر الأول عن الأكثر من أصحابهم وغيرهم والثاني عمن استعمل ظواهر الآثار وبه قال ابن حزم الظاهري ونقل ابن بطال الثاني عن عامة الفقهاء والأول عن بعض المتأخرين قال والذي عليه الجماعة أولى بدليل هذا الحديث.

                                                            ونقل ابن قدامة الأول عن مذهبهم وعن الشافعي وقال السبكي لم أقف لأصحابنا على نقل في ذلك.

                                                            (السابعة والأربعون) الحديث إنما ورد فيما إذا ردها بسبب التصرية فلو ردها بسبب آخر وهذا يتناول صورتين (إحداهما) أن تكون مصراة ورضي بإمساكها كذلك ثم اطلع بها على عيب قديم فنص الشافعي على أنه يردها ويرد بدل اللبن صاعا من تمر وهو المذهب عند أصحابه.

                                                            (الثانية) أن لا تكون مصراة فيحلب لبنها ثم يردها بعيب. فقال البغوي في التهذيب: يرد بدل اللبن صاعا كالمصراة وحكى الشيخ أبو حامد عن نص الشافعي أنه لا يرد بدل اللبن ؛ لأنه قليل غير معتنى بجمعه بخلاف المصراة ورأى إمام الحرمين تخريج ذلك على أن اللبن هل يأخذ قسطا من الثمن أم لا فإن قلنا يأخذ وهو الأصح رد بدله، وإلا فلا وقد يقال: إن الحديث يدل على رد الصاع في الصورة الأولى ؛ لأنها مصراة وقد سخطها لكنه لم يسخطها ؛ لأجل التصرية بل لسبب آخر.

                                                            وأما الصورة الثانية فلم يتناولها الحديث والقياس في مثل هذا بعيد وفي كتاب ابن الحاجب المالكي فلو رد بعيب غيره ففي الصاع قولان فيحتمل أن يريد الصورة الأولى أو الثانية أو هما معا وكذا عبارة ابن حزم الظاهري فإن ردها بعيب غير التصرية لم يلزمه رد التمر ولا شيء غير اللبن الذي كان في ضرعها إذا اشتراها.

                                                            (الثامنة والأربعون) اعتل الحنفية ومن وافقهم في مخالفة هذا الحديث بأمرين:

                                                            (أحدهما) أنه منسوخ واختلف [ ص: 84 ] في ناسخه فقيل هو قوله تعالى وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به وجوابه أن ضمان المتلفات ليس من باب العقوبات، وأن شرط النسخ معرفة التاريخ وليس عندنا يقين بأن هذه الآية متأخرة عن حديث المصراة وبتقدير أن يكونا من باب واحد ويعرف التاريخ فالآية عامة وهذه قضية خاصة والخاص مقدم على العام وقيل: إن الناسخ له ما نسخ العقوبات في الغرامات بأكثر من المثل في مانع الزكاة ؛ لأنها تؤخذ منه مع شطر ماله، وفي سارق التمر من غير الجرين غرامة مثلية وجلدات تكال ونحو ذلك قال البيهقي وهذا يوهم، وسعر اللبن في القديم والحديث أرخص من سعر التمر، والتصرية وجدت من البائع لا من المشتري فلو كان ذلك على وجه التصرية لأشبه أن يجعله للمشتري بلا شيء أو بما ينقص عن قيمة اللبن بكل حال لا بما قد تكون قيمته مثل قيمة اللبن أو أكثر بكثير ؛ لأنه إنما يلزمه رد ما كان موجودا حال البيع دون ما حدث بعده وهلا جعله شبيها بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة عبد أو أمة حين لم يوقف على حده فقضى فيه بأمر ينتهي إليه ؛ ثم من أخبره بأن قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في المصراة كان قبل نسخ العقوبات في الأموال حتى يجعله منسوخا ، وأبو هريرة من أواخر من صحب النبي صلى الله عليه وسلم وحمل خبر التصرية عنه في آخر عمره وعبد الله بن مسعود أفتى به بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مخالف له في ذلك من الصحابة فلو صار إلى قول عبد الله ومعه ما ذكرنا من السنة الثابتة التي لا معارض لها لكان أولى به من دعوى النسخ بالتوهم. انتهى.

                                                            وقال الشيخ تقي الدين في ادعاء النسخ وهو ضعيف فإنه إثبات النسخ بالاحتمال وهو غير سائغ، وقيل نسخه حديث النهي عن بيع الكالئ ؛ لأن لبن المصراة دين في ذمة المشتري، وإذا ألزمناه في ذمته صاعا من تمر كان الطعام بالطعام نسيئة ودينا بدين قال البيهقي وهذا من الضرب الذي تغني حكايته عن جوابه أي بيع جرى بينهما على اللبن بالتمر حتى يكون ذلك بيع دين بدين ؟ ومن أتلف على غيره شيئا فالمتلف غير حاضر والذي يلزمه من الضمان غير حاضر فيجعل ذلك دينا بدين حتى لا نوجب الضمان، ونعدل عن إيجاب الضمان إلى حكم آخر، وقد يكون ما حلبه من اللبن حاضرا [ ص: 85 ] عنده في آنيته أفيجعل ذلك محل الدين بالدين أو يكون خارجا من ذلك الحديث، وذلك الحديث لو كان يصرح بنسخ حديث المصراة لم يكن فيه حجة ؛ لأنه من رواية موسى بن عبيدة الزيدي عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر وموسى هو ضعيف عند أهل العلم بالحديث كيف وليس في حديثه مما يوهم قائل هذا شيء والله المستعان. انتهى.

                                                            وقيل نسخه حديث الخراج بالضمان والمشتري ضامن لما اشتراه بخراجه له فكيف يغرم بدله للبائع ؟ وجوابه: أن ذلك الحديث ورد شيء مخصوص وبتقدير عمومه فالمشتري لم يغرم بدل ما حدث على ملكه، وإنما غرم بدل اللبن الذي ورد عليه العقد فليس هذا من ذلك الحديث في شيء.

                                                            (الأمر الثاني) قالوا إنه مخالف لقياس الأصول المعلومة من أوجه:

                                                            (أحدها) أن المعلوم من الأصول أن ضمان المثليات بالمثل وضمان المقومات بالقيمة من النقدين فإن كان اللبن مثليا فينبغي ضمان مثله لبنا، وإن كان متقوما ضمنه بقيمته من النقدين وقد ضمن هنا بالتمر، وهو خارج عن الأصلين معا.

                                                            (الثاني) أن القواعد الكلية تقتضي أن يكون الضمان بقدر التالف وهنا ضمن اللبن بمقدار واحد وهو الصاع قل اللبن أو كثر.

                                                            (الثالث) أن اللبن التالف إن كان موجودا عند العقد فقد ذهب جزء من المعقود عليه وذلك مانع من الرد كما لو ذهب بعض أعضاء المبيع ثم ظهر عيب فإنه يمنع الرد، وإن كان حادثا بعد الشراء فقد حدث على ملك المشتري فلا يضمنه، وإن كان مختلطا بما كان موجودا منه عند العقد منع الرد وما كان حادثا لم يجب ضمانه.

                                                            (الرابع) إثبات الخيار ثلاثا من غير شرط مخالف للأصول فإن الخيارات الثابتة بأصل الشرع من غير شرط لا تتقدر بالثلاث كخيار العيب وخيار الرؤية وخيار المجلس عند القائل بهما.

                                                            (الخامس) يلزم من يقول بظاهره الجمع بين الثمن والمثمن للبائع في بعض الصور، وهو ما إذا كانت قيمة الشاة صاعا من تمر فإنها ترجع إليه مع الصاع الذي هو مقدار ثمنها.

                                                            (السادس) أنه مخالف لقاعدة الربا في بعض الصور وهو ما إذا اشترى شاة بصاع فإذا استرد معها صاع تمر فقد استرجع الصاع الذي هو الثمن فيكون قد باع صاعا وشاة وذلك من الربا عندكم فإنكم تمنعون مثل ذلك.

                                                            (السابع) إذا كان اللبن باقيا لم يكلف رده عندكم فإذا أمسكه فالحكم كما لو [ ص: 86 ] تلف فيرد الصاع وفي ذلك ضمان الأعيان مع بقائها والأعيان لا تضمن بالبدل إلا مع فواتها كالمغصوب وسائر المضمونات.

                                                            (الثامن) قال بعضهم: إنه أثبت الرد من غير عيب ولا شرط ؛ لأن نقصان اللبن لو كان عيبا لثبت به الرد من غير تصرية ولا يثبت الرد في الشرع إلا بعيب أو شرط ذكر الشيخ تقي الدين في شرح العمدة هذه الأمور الثمانية، وأنهم رتبوا على ذلك أن خبر الواحد إذا خالف قياس الأصول لم يعمل به ؛ لأنه ظني، وهي قطعية ثم قال: وأجاب القائلون بظاهر الحديث بالطعن في المقامين معا أعني أنه مخالف للأصول، وأنه إذا خالف الأصول لم يجب العمل به.

                                                            (أما المقام الأول) فقد فرق بعضهم بين مخالفة الأصول ومخالفة قياس الأصول وخص الرد بخبر الواحد بمخالفة الأصول لا لمخالفة قياس الأصول وهذا الخبر إنما يخالف قياس الأصول. قال: وفي هذا نظر قال: وسلك آخرون تخريج هذه الاعتراضات. والجواب عنها أما الأول: فلا نسلم أن جميع الأصول تقتضي الضمان بأحد الأمرين على ما ذكرتموه فإن الحر يضمن بالإبل وليست بمثل له ولا قيمة والجنين يضمن بالغرة وليست بمثل له ولا قيمة، وأيضا فقد يضمن المثلي بالقيمة إذا تعذرت المماثلة كمن أتلف شاة لبونا فعليه قيمتها مع اللبن ولا يجعل بإزاء لبنها لبن آخر ؛ لتعذر المماثلة فكذلك هنا لا تتحقق مماثلة ما يرده من اللبن عوضا عن اللبن التالف في القدر فيجوز أن يكون أكثر منه أو أقل.

                                                            (قلت) ووجدنا بعض المثليات يضمن بالقيمة وبعض المتقومات يضمن بالمثل وبعض الأشياء يضمن بالمثل والقيمة معا وبعض المتقومات يضمن بأكثر من القيمة ووجدنا صورة يختلف فيها المضمون بحسب الضامن، وذلك معروف بتفاصيله في كتب الفقه. وقال النووي في شرح مسلم : أجاب الجمهور عن هذا بأن السنة إذا وردت لا يعترض عليها بالمعقول.

                                                            وأما الحكمة في تقييده بصاع التمر فلأنه كان غالب قوتهم في ذلك الوقت فاستمر حكم الشرع على ذلك وإنما لم يجب مثله ولا قيمته بل وجب صاع في القليل والكثير ؛ ليكون ذلك حدا يرجع إليه ويزول به التخاصم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على رفع الخصام والمنع من كل ما هو سبب له.

                                                            وقد يقع بيع المصراة في البوادي والقرى وفي مواضع [ ص: 87 ] لا يوجد بها من يعرف القيمة ويعتمد قوله فيها. وقد يتلف اللبن ويتنازعون في قلته وكثرته وفي عينه فجعل الشرع لهم ضابطا لا نزاع معه وهو صاع تمر ونظير هذا الدية فإنها مائة بعير ولا تختلف باختلاف حال القتيل قطعا للنزاع ومثله الغرة في الجناية على الجنين سواء كان ذكرا أو أنثى تام الخلقة أو ناقصها جميلا أو قبيحا، ومثله الجبران في الزكاة بين السنين جعله الشرع شاتين أو عشرين درهما قطعا للنزاع سواء كان التفاوت بينهما قليلا أو كثيرا وقد ذكر الخطابي وآخرون نحو هذا المعنى. انتهى.

                                                            وقال الشيخ تقي الدين (وأما الاعتراض الثاني) فقيل في جوابه: إن بعض الأصول لا يتقدر بما ذكرتموه كالموضحة فإن أرشها مقدر مع اختلافها بالكبر والصغر، والجنين مقدر ولا يختلف أرشه بالذكورة والأنوثة واختلاف الصفات، والحر ديته مقدرة، وإن اختلف بالصغر والكبر وسائر الصفات، والحكمة فيه أن ما يقع فيه التنازع والتشاجر يقصد قطع النزاع فيه بتقديره بشيء معين وتقدم هذه المصلحة في مثل هذا المكان على تلك القاعدة. قال: (وأما الاعتراض الثالث) فجوابه أن يقال: متى يمتنع الرد بالنقص إذا كان النقص لاستعلام العيب أو إذا لم يكن الأول ممنوعا والثاني مسلم.

                                                            وأما (الاعتراض الرابع) فإنما يكون الشيء مخالفا لغيره إذا كان مماثلا له وخولف في حكم وها هنا هذه الصورة انفردت عن غيرها بأن الغالب أن هذه المدة هي التي يتبين فيها لبن الحلبة المجتمع بأصل الخلقة، واللبن المجتمع بالتدليس فهي مدة يتوقف علم الغيب عليها غالبا بخلاف خيار الرؤية والعيب فإنه يحصل المقصود من غير هذه المدة وخيار المجلس ليس لاستعلام عيب. وأما (الاعتراض الخامس) فقد قيل فيه: إن الخبر وارد على العادة والعادة أن لا تباع شاة بصاع وفي هذا ضعف. وقيل: إن صاع التمر بدل عن اللبن لا عن الشاة فلا يلزم الجمع بين العوض والمعوض (قلت) هذا هو المعتمد في الجواب، والله أعلم.

                                                            قال: وأما (الاعتراض السادس) فقد قيل: إن الجواب عنه أن الربا إنما يعتبر في العقود لا في الفسوخ بدليل أنهما لو تبايعا ذهبا بفضة لم يجز أن يتفرقا قبل القبض. ولو تقابلا في هذا العقد لجاز أن يتفرقا قبل القبض. .

                                                            وأما (الاعتراض السابع) فجوابه فيما قيل إن [ ص: 88 ] اللبن الذي كان في الضرع حال العقد يتعذر رده لاختلاطه باللبن الحادث بعد العقد، وأحدهما للبائع والآخر للمشتري، وتعذر الرد لا يمنع من الضمان مع بقاء العين كما لو غصب عبدا فأبق فإنه يضمن قيمته مع بقاء عينه لتعذر الرد.

                                                            وأما (الاعتراض الثامن) فقيل فيه إن الخيار يثبت بالتدليس وهذا منه. قال: وأما (المقام الثاني) وهو النزاع في تقديم قياس الأصول على خبر الواحد فقيل فيه: إن خبر الواحد أصل بنفسه يجب اعتباره ؛ لأن الذي أوجب اعتبار الأصول نص صاحب الشرع عليها، وهو موجود في خبر الواحد. وأما تقديم القياس على الأصول باعتبار القطع وكون خبر الواحد مظنونا فيتناول الأصل لمحل خبر الواحد غير مقطوع به ؛ لجواز استثناء محل الخبر عن ذلك الأصل. قال: وعندي أن التمسك بهذا الكلام أقوى من التمسك بالاعتذارات عن المقام الأول ثم قال الشيخ تقي الدين ومنهم من قال يحمل الحديث على ما إذا اشترى شاة بشرط أنها تحلب خمسة أرطال مثلا، وشرط الخيار فالشرط فاسد فإن اتفقا على إسقاطه في مدة الخيار صح العقد، وإن لم يتفقا بطل.

                                                            وأما رد الصاع فلأنه كان قيمة اللبن في ذلك الوقت وأجيب عنه بأن الحديث يقتضي تعلق الحكم بالتصرية، وما ذكر يقتضي تعليقه بفساد الشرط سواء وجدت تصرية أم لا. انتهى.

                                                            (التاسعة والأربعون) قوله في أحد لفظي رواية محمد بن سيرين عن أبي هريرة (وصاعا من تمر لا سمراء) تنصيص على أن السمراء وهي القمح لا تجزئ في هذا، وإنما نص عليه دون غيره لفهم غيره من طريق الأولى فإنه أغلى الأقوات، وأنفسها فإذا لم يجزئ فغيره أولى بذلك وقوله في اللفظ الآخر (صاعا من طعام لا سمراء) يحتمل أن يريد بالطعام المذكور فيه التمر بدليل الرواية الأخرى وعلى هذا مشى البيهقي فقال: المراد بالطعام المذكور فيه التمر واستدل على ذلك بالرواية الأخرى، ويحتمل أن يريد مطلق الطعام ثم أخرج منه السمراء وخرج ما هو أدون منها من الأقوات والخضر للأمر في التمر كما في الرواية الأخرى وهذا الاحتمال يعود في المعنى للذي قبله لكنه يخالفه في التقدير .



                                                            (الخمسون) نقل ابن بطال عن بعضهم أنه قال في حديث المصراة دلالة على أن من اشترى نخلا وفيها ثمر [ ص: 89 ] قد أبر أو أمة حاملا فأكل الثمر أو هلك الولد ثم رد النخل أو الأمة بعيب أنه يرد قيمة التالف ؛ لأن له حصة من الثمن كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالمصراة، وهو قول ابن القاسم وخالفه أشهب في الثمرة، وقال: الثمرة للمشتري بالضمان. قال: وقول ابن القاسم يشهد له الحديث. انتهى.

                                                            ومراده في الثمر المؤبر أنه صرح بإدخاله في البيع فإنه عند الإطلاق يكون للبائع ومذهب الشافعي في ذلك أنه يمنع الرد بالقهر لما فيه من تبعيض الصفقة على البائع .




                                                            الخدمات العلمية