الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فلنرجع إلى الأمثلة التي ترك فيها المحكم للمتشابه ، فنقول :

[ الجهر بآمين ]

المثال السابع والخمسون : ترك السنة المحكمة الصحيحة في الجهر بآمين في الصلاة كقوله في الصحيحين : { إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه } ولولا جهره بالتأمين لما أمكن المأموم أن يؤمن معه ويوافقه في التأمين ، [ ص: 286 ] وأصرح من هذا حديث سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن حجر بن عنبس عن وائل بن حجر قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال ولا الضالين قال آمين ، ورفع بها صوته } .

وفي لفظ : { وطول بها } رواه الترمذي وغيره ، وإسناده صحيح . وقد خالف شعبة سفيان في هذا الحديث فقال : { وخفض بها صوته } وحكم أئمة الحديث وحفاظه في هذا لسفيان فقال الترمذي : سمعت محمد بن إسماعيل يقول : حديث سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل في هذا الباب أصح من حديث شعبة ، أخطأ شعبة في هذا الحديث في مواضع ، فقال : " عن حجر أبي العنبس " وإنما كنيته أبو السكن ، وزاد فيه علقمة بن وائل ، وإنما هو حجر بن عنبس عن وائل بن حجر ، ليس فيه علقمة ، وقال : { وخفض بها صوته } والصحيح أنه جهر بها .

قال الترمذي : وسألت أبا زرعة عن حديث سفيان وشعبة هذا ، فقال : حديث سفيان أصح من حديث شعبة ، وقد روى العلاء بن صالح عن سلمة بن كهيل نحو رواية سفيان ، وقال الدارقطني : كذا قال شعبة : { وأخفى بها صوته } ويقال : إنه وهم فيه ; لأن سفيان الثوري ومحمد بن سلمة بن كهيل وغيرهما رووه عن سلمة فقالوا : { ورفع صوته بآمين } وهو الصواب . وقال البيهقي : لا أعلم اختلافا بين أهل العلم بالحديث أن سفيان وشعبة إذا اختلفا فالقول قول سفيان ، وقال يحيى بن سعيد : ليس أحد أحب إلي من شعبة ، ولا يعدله عندي أحد ، وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان ، وقال شعبة : سفيان أحفظ مني ; فهذا ترجيح لرواية سفيان ، وترجيح ثان : وهو متابعة العلاء بن صالح ومحمد بن سلمة بن كهيل له ، وترجيح ثالث : وهو أن أبا الوليد الطيالسي - وحسبك به رواه عن شعبة بوفاق الثوري في متنه ، فقد اختلف على شعبة كما ترى .

قال البيهقي : فيحتمل أن يكون تنبه لذلك فعاد إلى الصواب في متنه ، وترك ذكر ذلك علقمة في إسناده ، وترجيح رابع : وهو أن الروايتين لو تقاومتا لكانت رواية الرفع متضمنة لزيادة وكانت أولى بالقبول ، وترجيح خامس : وهو موافقتها وتفسيرها لحديث أبي هريرة : { وإذا أمن الإمام فأمنوا ، فإن الإمام يقول آمين والملائكة تقول : آمين ، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له } . وترجيح سادس : وهو ما رواه الحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من قراءة أم القرآن رفع صوته بآمين } ولأبي داود بمعناه ، وزاد بيانا فقال : { قال آمين حتى يسمع من يليه من الصف الأول } وفي رواية عنه : { كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال : { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال : آمين يرفع بها صوته ، ويأمر بذلك . }

وذكر البيهقي عن علي كرم الله وجهه قال : { سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : آمين إذا قرأ : { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } } وعنه أيضا رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم : كان إذا قرأ ولا الضالين [ ص: 287 ] رفع صوته بآمين } وعند أبي داود عن { بلال أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : لا تسبقني بآمين } .

قال الربيع : سئل الشافعي عن الإمام : هل يرفع صوته بآمين ؟ قال : نعم ، ويرفع بها من خلفه أصواتهم ، فقلت : وما الحجة ؟ فقال : أنبأنا مالك ، وذكر حديث أبي هريرة المتفق على صحته ، ثم قال : ففي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا أمن الإمام فأمنوا } دلالة على أنه أمر الإمام أن يجهر بآمين ; لأن من خلفه لا يعرفون وقت تأمينه إلا بأن يسمع تأمينه ، ثم بينه ابن شهاب فقال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : آمين } ، فقلت للشافعي : فإنا نكره للإمام أن يرفع صوته بآمين ، فقال : هذا خلاف ما روى صاحبنا وصاحبكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو لم يكن عندنا وعندهم علم إلا هذا الحديث الذي ذكرناه عن مالك فينبغي أن يستدل بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بآمين ، وأنه أمر الإمام أن يجهر بها ، فكيف ولم يزل أهل العلم عليه ؟ وروى وائل بن حجر { أن النبي صلى الله عليه وسلم : كان يقول آمين يرفع بها صوته } ويحكي مده إياها .

وكان أبو هريرة يقول للإمام : لا تسبقني بآمين ، وكان يؤذن له ، أنبأنا مسلم بن خالد عن ابن جريج عن عطاء : كنت أسمع الأئمة ابن الزبير ومن بعده يقولون : آمين ومن خلفهم آمين ، حتى إن للمسجد للجة .

وقوله : { كان أبو هريرة يقول للإمام لا تسبقني بآمين } يريد ما ذكره البيهقي بإسناده عن أبي رافع أن أبا هريرة كان يؤذن لمروان بن الحكم ، فاشترط عليه أن لا يسبقه بالضالين ، حتى يعلم أنه قد وصل إلى الصف ، فكان مروان إذا قال : { ولا الضالين } قال أبو هريرة : ( آمين ) يمد بها صوته ، وقال : إذا وافق تأمين أهل الأرض تأمين أهل السماء غفر لهم . وقال عطاء : أدركت مائتين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد إذا قال الإمام : { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } سمعت لهم رجة بآمين . فرد هذا كله بقوله تعالى : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } والذي أنزلت عليه هذه الآية هو الذي رفع صوته بالتأمين ، والذين أمروا بها رفعوا به أصواتهم ، ولا معارضة بين الآية والسنة بوجه ما .

التالي السابق


الخدمات العلمية