الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ ص: 296 ] سجود الشكر ]

المثال التاسع والستون : رد السنة الثابتة الصحيحة في سجود الشكر ، كحديث عبد الرحمن بن عوف { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : خرج نحو أحد فخر ساجدا فأطال السجود ، ثم قال : إن جبريل أتاني وبشرني فقال : إن الله تعالى يقول لك : من صلى عليك صليت عليه ، ومن سلم عليك سلمت عليه ، فسجدت لله تعالى شاكرا } .

وكحديث سعد بن أبي وقاص في { سجوده صلى الله عليه وسلم شاكرا لربه لما أعطاه ثلث أمته ، ثم سجد ثانية فأعطاه الثلث الآخر ثم سجد ثالثة فأعطاه الثلث الباقي } ، وكحديث أبي بكر { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان إذا جاءه أمر يسر به خر ساجدا شكرا لله تعالى ، وأتاه بشير يبشره بظفر جند له على عدوهم ، فقام وخر ساجدا } .

وسجد كعب بن مالك لما بشر بتوبة الله عليه ، وسجد أبو بكر حين جاءه قتل مسيلمة الكذاب ، وسجد علي كرم الله وجهه حين وجد ذا الثدية في الخوارج الذين قتلهم ، ولا أعلم شيئا يدفع هذه السنن والآثار مع صحتها وكثرتها غير رأي فاسد ، وهو أن نعم الله سبحانه وتعالى لا تزال واصلة إلى عبده ، فلا معنى لتخصيص بعضها بالسجود .

وهذا من أفسد رأي وأبطله ; فإن النعم نوعان : مستمرة ، ومتجددة ، فالمستمرة شكرها بالعبادات والطاعات ، والمتجددة شرع لها سجود الشكر ; شكرا لله عليها ، وخضوعا له وذلا ، في مقابلة فرحة النعم وانبساط النفس لها ، وذلك من أكبر أدوائها ; فإن الله سبحانه لا يحب الفرحين ولا الأشرين ; فكان دواء هذا الداء الخضوع والذل والانكسار لرب العالمين ، وكان في سجود الشكر من تحصيل هذا المقصود ما ليس في غيره ، ونظير هذا السجود عند الآيات التي يخوف الله بها عباده كما في الحديث : { إذا رأيتم آية فاسجدوا } .

وقد فزع النبي صلى الله عليه وسلم عند رؤية انكساف الشمس إلى الصلاة ، وأمر بالفزع إلى ذكره ، ومعلوم أن آياته تعالى لم تزل مشاهدة معلومة بالحس والعقل ، ولكن تجددها يحدث للنفس من الرهبة والفزع إلى الله ما لا تحدثه الآيات المستمرة ، فتجدد هذه النعم في اقتضائها لسجود الشكر كتجدد تلك الآيات في اقتضائها للفزع إلى السجود والصلوات .

ولهذا لما بلغ فقيه الأمة وترجمان القرآن { عبد الله بن عباس موت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم خر ساجدا ، فقيل له : أتسجد لذلك ؟ فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا رأيتم آية فاسجدوا } .

وأي آية أعظم من ذهاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا ؟ فلو لم تأت النصوص بالسجود عند تجدد النعم لكان هو محض القياس ، ومقتضى عبودية الرغبة ، كما أن السجود عند الآيات مقتضى عبودية الرهبة ، وقد أثنى الله سبحانه على الذين يسارعون في الخيرات ويدعونه رغبا ورهبا .

ولهذا فرق الفقهاء بين صلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء بأن هذه صلاة رهبة وهذه [ ص: 297 ] صلاة رغبة ، فصلوات الله وسلامه على من جاءت سنته وشريعته بأكمل ما جاءت به شرائع الرسل وسننهم وعلى آله .

التالي السابق


الخدمات العلمية