الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              الآية الثالثة

                                                                                                                                                                                                              قوله تعالى : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين } .

                                                                                                                                                                                                              فيها ثلاث مسائل : المسألة الأولى : في وجه نزولها :

                                                                                                                                                                                                              فيه ستة أقوال :

                                                                                                                                                                                                              الأول : { أنها نزلت مخصوصة في رجل من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح امرأة يقال لها أم مهزول ، كانت من بغايا الزانيات ، وشرطت له أن تنفق عليه ، فأنزل الله هذه الآية } ; قاله ابن عمر ومجاهد .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أنها نزلت في شأن رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد ، وكان رجلا يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة قال : وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق ، وكانت صديقة له ، وأنه كان وعد رجلا من أسارى مكة يحمله قال : فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة .

                                                                                                                                                                                                              قال : فجاءت عناق فأبصرت [ ص: 337 ] سواد ظلي بجنب الحائط ، فلما انتهت إلي عرفتني ، فقالت : مرثد ، فقلت : مرثد ، فقالت : مرحبا وأهلا . هلم ، فبت عندنا الليلة ، فقلت : يا عناق ; إن الله حرم الزنا قالت : يا أهل الخيام ; هذا الرجل يحمل أسراكم ، فتبعني ثمانية ، وسلكت الخندمة ، فانتهيت إلى غار ، فدخلت فجاءوا حتى قاموا على رأسي ، فبالوا فتطاير بولهم على رأسي ، وعماهم الله عني . قال : ثم رجعوا ، ورجعت إلى صاحبي فحملته ، وكان رجلا ثقيلا ، حتى انتهيت إلى الإذخر ، ففككت عنه كبله ، فجعلت أحمله ، ويعينني ، حتى قدمت المدينة ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، أنكح عناقا ، فأمسك رسول الله فلم يرد شيئا حتى نزلت : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { يا مرثد ، الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك إلى آخر الآية ، فلا تنكحها } .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : أنها نزلت في أهل الصفة ، وكانوا قوما من المهاجرين لم يكن لهم بالمدينة مساكن ولا عشائر ، فنزلوا صفة المسجد ، وكانوا أربعمائة رجل يلتمسون الرزق بالنهار ، ويأوون إلى الصفة بالليل ، وكان بالمدينة بغايا متعالنات بالفجور ، مخاصيب بالكسوة والطعام ، فهم أهل الصفة أن يتزوجوهن ، فيأووا إلى مساكنهن ، ويأكلوا من طعامهن وكسوتهن ، فنزلت فيهم هذه الآية ; قاله ابن أبي صالح .

                                                                                                                                                                                                              وقاله مجاهد ، وزاد : أنهن كن يدعين الجهنميات ، نسبة إلى جهنم .

                                                                                                                                                                                                              الرابع : معناه الزاني لا يزني إلا بزانية ، والزانية لا تزني إلا بزان وروي عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                              الخامس : أنها مخصوصة في الزاني لا ينكح إلا زانية محدودة ، ولا ينكح الزانية المحدودة إلا زان روي عن ابن مسعود والحسن وغيرهما .

                                                                                                                                                                                                              السادس : أنه عام في تحريم نكاح الزانية على العفيف ، والعفيف على الزانية .

                                                                                                                                                                                                              [ ص: 338 ] المسألة الثانية :

                                                                                                                                                                                                              هذه الآية من مشكلات القرآن من وجهين :

                                                                                                                                                                                                              أحدهما : أن هذه صيغة الخبر ، وهو على معناه ، كما بيناه في غير موضع وشرحناه ، ردا على من يقول : إن الخبر يرد بمعنى الأمر ; وذلك أن الله أخبر أن الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة . ونحن نرى الزاني ينكح العفيفة .

                                                                                                                                                                                                              وقال أيضا : والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ، ونحن نرى الزانية ينكحها العفيف ، فكيف يوجد خلاف ما أخبر الله به عنه ؟ وخبره صدق ، وقوله حق لا يجوز أن يوجد مخبره بخلاف خبره ; ولهذا أخذ العلماء فيها مآخذ متباينة ، ولم أسمع لمالك فيها كلاما . وقد كان ابن مسعود يرى أن الرجل إذا زنى بالمرأة ثم نكحها أنهما زانيان ، ما عاشا .

                                                                                                                                                                                                              وقال ابن عباس : " أوله سفاح وآخره نكاح " . وقال ابن عمر مثله . وقال : " هذا مثل رجل سرق ثمرة ثم اشتراها " ، وأخذ مالك بقول ابن مسعود ، فرأى أنه لا ينكحها حتى يستبرئها من مائه الفاسد .

                                                                                                                                                                                                              وروى الشافعي وأبو حنيفة أن ذلك الماء لا حرمة له ، ورأى مالك أن ماء الزنا وإن كان لا حرمة له ، فماء النكاح له حرمة ، ومن حرمته ألا يصب على ماء السفاح ، فيخلط الحرام بالحلال ، ويمزج ماء المهانة بماء العزة ; فكان نظر مالك أشد من نظر سائر فقهاء الأمصار .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثالثة : في التنقيح :

                                                                                                                                                                                                              وأما من قال : إنها نزلت في البغايا فظاهر في الرواية . وأما من قال : إن الزاني المحدود وهو الذي ثبت زناه لا ينكح إلا زانية محدودة ، فكذلك روي عن الحسن ، وأسنده قوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا معنى لا يصح نظرا كما لم يثبت نقلا . وهل يصح أن يوقف نكاح من حد من الرجال على نكاح من حد من النساء ; فبأي أثر يكون ذلك أو على أي أصل يقاس من الشريعة ؟ [ ص: 339 ] والذي عندي أن النكاح لا يخلو من أن يراد به الوطء ، كما قال ابن عباس ، أو العقد ؟ فإن أريد به الوطء فإن معناه لا يكون زنا إلا بزانية ، وذلك عبارة عن أن الوطأين من الرجل والمرأة زنا من الجهتين ، ويكون تقدير الآية وطء الزنا لا يقع إلا من زان أو مشرك ، وهذا يؤثر عن ابن عباس ; وهو معنى صحيح .

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : وأي فائدة فيه ؟ وكذلك هو .

                                                                                                                                                                                                              قلنا : علمناه كذلك من هذا القول ، فهو أحد أدلته .

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : فإذا بالغ زنى بصبية أو عاقل بمجنونة ، أو مستيقظ بنائمة ، فإن ذلك من جهة الرجل زنا ، ولا يكون ذلك من جهة المرأة زنا ، فهذا زان ينكح غير زانية ، فيخرج المراد عن بابه الذي تقدم .

                                                                                                                                                                                                              قلنا : هو زنا من كل جهة ، إلا أن أحدهما سقط فيه الحد ، والآخر ثبت فيه الحد ، وإن أردنا به العقد كان معناه أن يتزوج الزانية زان ، أو يتزوج زان الزانية ، وتزويج الزانية يكون على وجهين : أحدهما : ورحمها مشغول بالماء الفاسد .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أن تكون قد استبرئت .

                                                                                                                                                                                                              فإن كان رحمها مشغولا بالماء فلا يجوز نكاحها ، فإن فعل فهو زنا ، لكن لا حد عليه ، لاختلاف العلماء فيه . وأما إن استبرئت فذلك جائز إجماعا .

                                                                                                                                                                                                              وقد ثبت عن ابن عمر : بينما أبو بكر الصديق في المسجد إذ جاء رجل فلاث عليه لوثا من كلام وهو دهش ، فقال لعمر : " قم فانظر في شأنه ، فإن له شأنا " . فقام إليه عمر ، فقال : " إن ضيفا ضافه فزنى بابنته " فضرب عمر في صدره . وقال : " قبحك الله ، ألا سترت على ابنتك " ، فأمر بهما أبو بكر فضربا الحد ، ثم زوج أحدهما الآخر ، ثم أمر بهما أن يغربا حولا .

                                                                                                                                                                                                              وقد روى نافع أن رجلا استكره جارية فافتضها ، فجلده أبو بكر ، ولم يجلدها ، ونفاه سنة ، ثم جاء فزوجه إياها بعد ذلك ، وجلده عمر ونفى أحدهما إلى خيبر ، والآخر إلى فدك . [ ص: 340 ]

                                                                                                                                                                                                              وروى الزهري أن رجلا فجر بامرأة وهما بكران ، فجلدهما أبو بكر ، ونفاهما ، ثم زوجه إياها من بعد الحول . وهذا أقرب إلى الصواب وأشبه بالنظر ، وهو أن يكون الزواج بعد تمام التغريب وقد روى مالك عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب قال : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك . قال : نسخت هذه الآية الآية التي بعدها : { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم }

                                                                                                                                                                                                              ، وقد بينا في القسم الثاني من الناسخ والمنسوخ من علوم القرآن أن هذا ليس بنسخ ، وإنما هو تخصيص عام وبيان لمحتمل ، كما تقتضيه الألفاظ وتوجيه لأصول ، من فسر النكاح بالوطء أو بالعقد وتركيب المعنى عليه . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية