الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              [ ص: 533 ] المسألة الحادية عشرة : قوله تعالى : { واهجروهن في المضاجع } : فيه أربعة أقوال :

                                                                                                                                                                                                              الأول : يوليها ظهره في فراشه ; قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : لا يكلمها ، وإن وطئها ; قاله عكرمة وأبو الضحى .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : لا يجمعها وإياه فراش ولا وطء حتى ترجع إلى الذي يريد ; قاله إبراهيم والشعبي وقتادة والحسن البصري ، ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك وغيرهم .

                                                                                                                                                                                                              الرابع : يكلمها ويجامعها ، ولكن بقول فيه غلظ وشدة إذا قال لها تعالي ; قاله سفيان . قال الطبري : ما ذكره من تقدم معترض ، وذكر ذلك ، واختار أن معناه يربطن بالهجار وهو الحبل في البيوت ، وهي المراد بالمضاجع ، إذ ليس لكلمة { اهجروهن } إلا أحد ثلاثة معان . فلا يصح أن يكون من الهجر الذي هو الهذيان ، فإن المرأة لا تداوى بذلك ، ولا من الهجر الذي هو مستفحش من القول ، لأن الله لا يأمر به ; فليس له وجه إلا أن تربطوهن بالهجار . قال ابن العربي : يا لها هفوة من عالم بالقرآن والسنة ، وإني لأعجبكم من ذلك ; إن الذي أجرأه على هذا التأويل ، ولم يرد أن يصرح بأنه أخذه منه ، هو حديث غريب رواه ابن وهب عن مالك أن أسماء بنت أبي بكر الصديق امرأة الزبير بن العوام كانت تخرج حتى عوتب في ذلك . قال : وعتب عليها وعلى ضرتها ، فعقد شعر واحدة بالأخرى ، وضربهما ضربا شديدا ، وكانت الضرة أحسن اتقاء ، وكانت أسماء لا تتقي ; فكان الضرب بها أكثر وآثر ; فشكته إلى أبيها أبي بكر ; فقال لها : أي بنية اصبري ; فإن الزبير رجل صالح ، ولعله أن يكون زوجك في الجنة ، ولقد بلغني أن الرجل إذا [ ص: 534 ] ابتكر بالمرأة تزوجها في الجنة .

                                                                                                                                                                                                              فرأى الربط والعقد مع احتمال اللفظ مع فعل الزبير ، فأقدم على هذا التفسير لذلك . وعجبا له مع تبحره في العلوم وفي لغة العرب كيف بعد عليه صواب القول ، وحاد عن سداد النظر ; فلم يكن بد والحالة هذه من أخذ المسألتين من طريق الاجتهاد المفضية بسالكها إلى السداد ; فنظرنا في موارد " هـ ج ر " في لسان العرب على هذا النظام فوجدناها سبعة : ضد الوصل . ما لا ينبغي من القول . مجانبة الشيء ، ومنه الهجرة . هذيان المريض . انتصاف النهار . الشاب الحسن . الحبل الذي يشد في حقو البعير ثم يشد في أحد رسغيه . ونظرنا في هذه الموارد فألفيناها تدور على حرف واحد وهو البعد عن الشيء فالهجر قد بعد عن الوصل الذي ينبغي من الألفة وجميل الصحبة ، وما لا ينبغي من القول قد بعد عن الصواب ، ومجانبة الشيء بعد منه وأخذ في جانب آخر عنه ، وهذيان المريض قد بعد عن نظام الكلام ، وانتصاف النهار قد بعد عن طرفيه المحمودين في اعتدال الهواء وإمكان التصرف . والشاب الحسن قد بعد عن العاب ، والحبل الذي يشد به البعير قد أبعده عن استرساله في تصرفه واسترسال ما ربط عن تقلقله وتحركه .

                                                                                                                                                                                                              وإذا ثبت هذا ، وكان مرجع الجميع إلى البعد فمعنى الآية : أبعدوهن في المضاجع . ولا يحتاج إلى هذا التكلف الذي ذكره العالم ، وهو لا ينبغي لمثل السدي والكلبي فكيف أن يختاره الطبري ، فالذي قال : يوليها ظهره جعل المضجع ظرفا للهجر ، وأخذ القول على أظهر الظاهر ، وهو حبر الأمة ، وهو حمل الأمر على الأقل ، وهي مسألة عظيمة من الأصول . والذي قال يهجرها في الكلام حمل الأمر على الأكثر الموفي ، فقال : لا يكلمها ولا يضاجعها ، ويكون هذا القول كما يقول : اهجره في الله ، وهذا هو أصل مالك .

                                                                                                                                                                                                              وقد روى ابن وهب عن مالك أنه قال في تفسير الآية : بلغنا أن عمر بن عبد العزيز كان له نساء فكان يغاضب بعضهن ، فإذا كانت ليلتها يفرش في حجرتها وتبيت هي في بيتها [ ص: 535 ] فقلت لمالك : وذلك له واسع ؟ قال : نعم ، وذلك في كتاب الله تعالى : { واهجروهن في المضاجع } والذي قال : لا يكلمها وإن وطئها فصرفه نظره إلى أن جعل الأقل في الكلام ، وإذا وقع الجماع فترك الكلام سخافة ، هذا وهو الراوي عن ابن عباس ما تقدم من قوله . والذي قال : يكلمها بكلام فيه غلظ إذا دعاها إلى المضجع جعله من باب ما لا ينبغي من القول . وهذا ضعيف من القول في الرأي ; فإن الله سبحانه رفع التثريب عن الأمة إذا زنت وهو العقاب بالقول ، فكيف يأمر مع ذلك بالغلظة على الحرة .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية