الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا ( 52 ) ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا ( 53 ) )

يقول عز ذكره ، ( ويوم يقول ) الله عز ذكره للمشركين به الآلهة والأنداد ( نادوا شركائي الذين زعمتم ) يقول لهم : ادعوا الذين كنتم تزعمون أنهم شركائي في العبادة لينصروكم ويمنعوكم مني ( فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ) يقول : فاستغاثوا بهم فلم يغيثوهم ( وجعلنا بينهم موبقا )

فاختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : وجعلنا بين هؤلاء المشركين وما كانوا يدعون من دون الله شركاء في الدنيا يومئذ عداوة . [ ص: 46 ]

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، عن عوف ، عن الحسن ، في قول الله : ( وجعلنا بينهم موبقا ) قال : جعل بينهم عداوة يوم القيامة .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عثمان بن عمر ، عن عوف ، عن الحسن ( وجعلنا بينهم موبقا ) قال : عداوة .

وقال آخرون : معناه : وجعلنا فعلهم ذلك لهم مهلكا .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( وجعلنا بينهم موبقا ) قال : مهلكا .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( موبقا ) قال : هلاكا .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ( وجعلنا بينهم موبقا ) قال : الموبق : المهلك ، الذي أهلك بعضهم بعضا فيه ، أوبق بعضهم بعضا ، وقرأ ( وجعلنا لمهلكهم موعدا ) . ‏

حدثت عن محمد بن يزيد ، عن جويبر ، عن الضحاك ( موبقا ) قال : هلاكا .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن عرفجة ، في قوله ( وجعلنا بينهم موبقا ) قال : مهلكا .

وقال آخرون : هو اسم واد في جهنم .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أبي أيوب ، عن عمرو البكالي : ( وجعلنا بينهم موبقا ) قال : واد عميق فصل به بين أهل الضلالة وأهل الهدى ، وأهل الجنة ، وأهل النار .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وجعلنا بينهم موبقا ) ذكر لنا أن عمر البكالي حدث عن عبد الله بن عمرو ، قال : هو واد عميق فرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة .

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عمر بن عبيد ، عن الحجاج بن أرطاة ، [ ص: 47 ] قال : قال مجاهد ( وجعلنا بينهم موبقا ) قال : واديا في النار .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى "ح" ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وجعلنا بينهم موبقا ) قال : واديا في جهنم .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني محمد بن سنان القزاز ، قال : ثنا عبد الصمد ، قال : ثنا يزيد بن درهم ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول في قول الله عز وجل ( وجعلنا بينهم موبقا ) قال : واد في جهنم من قيح ودم .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، القول الذي ذكرناه عن ابن عباس ، ومن وافقه في تأويل الموبق : أنه المهلك ، وذلك أن العرب تقول في كلامها : قد أوبقت فلانا : إذا أهلكته ، ومنه قول الله عز وجل : ( أو يوبقهن بما كسبوا ) بمعنى : يهلكهن . ويقال للمهلك نفسه : قد وبق فلان فهو يوبق وبقا . ولغة بني عامر : يابق بغير همز . وحكي عن تميم أنها تقول : ييبق . وقد حكي وبق يبق وبوقا ، حكاها الكسائي . وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول : الموبق : الوعد ، ويستشهد لقيله ذلك بقول الشاعر :


وحاد شرورى فالستار فلم يدع تعارا له والواديين بموبق



ويتأوله بموعد ، وجائز أن يكون ذلك المهلك الذي جعل الله جل ثناؤه بين هؤلاء المشركين ، هو الوادي الذي ذكر عن عبد الله بن عمرو ، وجائز أن يكون [ ص: 48 ] العداوة التي قالها الحسن .

وقوله : ( ورأى المجرمون النار ) يقول : وعاين المشركون النار يومئذ ( فظنوا أنهم مواقعوها ) يقول : فعلموا أنهم داخلوها .

كما حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( فظنوا أنهم مواقعوها ) قال : علموا .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن دراج ، عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " إن الكافر يرى جهنم فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة " .

وقوله : ( ولم يجدوا عنها مصرفا ) يقول :

ولم يجدوا عن النار التي رأوا معدلا يعدلون عنها إليه . يقول : لم يجدوا من مواقعتها بدا ، لأن الله قد حتم عليهم ذلك ، ومن المصرف بمعنى المعدل قول أبي كبير الهذلي :


أزهير هل عن شيبة من مصرف     أم لا خلود لباذل متكلف



التالي السابق


الخدمات العلمية