الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم

فائدة تكرير النداء بقوله " ربنا " إظهار الضراعة إلى الله تعالى وإظهار أن كل دعوى من هاته الدعوات مقصودة بالذات ، ولذلك لم يكرر النداء إلا عند الانتقال من دعوة إلى أخرى [ ص: 720 ] فإن الدعوة الأولى لطلب تقبل العمل والثانية لطلب الاهتداء ، فجملة النداء معترضة بين المعطوف هنا والمعطوف عليه في قوله الآتي ربنا وابعث فيهم رسولا والمراد " بمسلمين لك " المنقادان إلى الله تعالى إذ الإسلام الانقياد ، ولما كان الانقياد للخالق بحق يشمل الإيمان بوجوده وأن لا يشرك في عبادته غيره ومعرفة صفاته التي دل عليها فعله كانت حقيقة الإسلام ملازمة لحقيقة الإيمان والتوحيد ، ووجه تسمية ذلك إسلاما سيأتي عند قوله فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون وأما قوله تعالى قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا فإنه فكك بينهما لأن إسلامهم كان عن خوف لا عن اعتقاد ، فالإيمان والإسلام متغايران مفهوما وبينهما عموم وخصوص وجهي في الماصدق ، فالتوحيد في زمن الفترة إيمان لا يترقب منه انقياد إذ الانقياد إنما يحصل بالأعمال ، وانقياد المغلوب المكره إسلام لم ينشأ عن اعتقاد إيمان ، إلا أن صورتي الانفراد في الإيمان والإسلام نادرتان .

ألهم الله إبراهيم اسم الإسلام ثم ادخره بعده للدين المحمدي فنسي هذا الاسم بعد إبراهيم ولم يلقب به دين آخر لأن الله أراد أن يكون الدين المحمدي إتماما للحنيفية دين إبراهيم وسيجيء بيان لهذا عند قوله تعالى " ما كان إبراهيم يهوديا " في سورة آل عمران .

ومعنى طلب أن يجعلهما مسلمين هو طلب الزيادة في ما هما عليه من الإسلام وطلب الدوام عليه ، لأن الله قد جعلهما مسلمين من قبل كما دل عليه قوله إذ قال له ربه أسلم الآية .

وقوله ومن ذريتنا أمة مسلمة لك يتعين أن يكون ( من ذريتنا ) و ( مسلمة ) معمولين لفعل " اجعلنا " بطريق العطف ، وهذا دعاء ببقاء دينهما في ذريتهما ، و " من " في قوله من ذريتنا للتبعيض ، وإنما سألا ذلك لبعض الذرية جمعا بين الحرص على حصول الفضيلة للذرية وبين الأدب في الدعاء لأن نبوءة إبراهيم تقتضي علمه بأنه ستكون ذريته أمما كثيرة وأن حكمة الله في هذا العالم جرت على أنه لا يخلو من اشتماله على الأخيار والأشرار فدعا الله بالممكن عادة وهذا من أدب الدعاء وقد تقدم نظيره في قوله تعالى قال ومن ذريتي

ومن هنا ابتدئ التعريض بالمشركين الذين أعرضوا عن التوحيد واتبعوا الشرك ، والتمهيد لشرف الدين المحمدي .

[ ص: 721 ] والأمة اسم مشترك يطلق على معان كثيرة والمراد منها هنا الجماعة العظيمة التي يجمعها جامع له بال من نسب أو دين أو زمان ، ويقال أمة محمد مثلا للمسلمين لأنهم اجتمعوا على الإيمان بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهي بزنة فعلة وهذه الزنة تدل على المفعول مثل لقطة وضحكة وقدوة ، فالأمة بمعنى مأمومة اشتقت من الأم بفتح الهمزة وهو القصد ، لأن الأمة تقصدها الفرق العديدة التي تجمعها جامعة الأمة كلها ، مثل الأمة العربية لأنها ترجع إليها قبائل العرب ، والأمة الإسلامية لأنها ترجع إليها المذاهب الإسلامية ، وأما قوله تعالى وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم فهو في معنى التشبيه البليغ أي كأمم إذا تدبرتم في حكمة إتقان خلقهم ونظام أحوالهم وجدتموه كأمم أمثالكم لأن هذا الاعتبار كان الناس في غفلة عنه .

وقد استجيبت دعوة إبراهيم في المسلمين من العرب الذين تلاحقوا بالإسلام قبل الهجرة وبعدها حتى أسلم كل العرب إلا قبائل قليلة لا تنخرم بهم جامعة الأمة ، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى ربنا وابعث فيهم رسولا منهم وأما من أسلموا من بني إسرائيل مثل عبد الله بن سلام فلم يلتئم منهم عدد أمة .

وقوله وأرنا مناسكنا سؤال لإرشادهم لكيفية الحج الذي أمرا به من قبل أمرا مجملا ، ففعل أرنا هو من رأى العرفانية وهو استعمال ثابت لفعل الرؤية كما جزم به الراغب في المفردات والزمخشري في المفصل وتعدت بالهمز إلى مفعولين .

وحق رأى أن يتعدى إلى مفعول واحد لأن أصله هو الرؤية البصرية ثم استعمل مجازا في العلم بجعل العلم اليقيني شبيها برؤية البصر ، فإذا دخل عليه همز التعدية تعدى إلى مفعولين وأما تعدية أرى إلى ثلاثة مفاعيل فهو خلاف الأصل وهو استعمال خاص وذلك إذا أراد المتكلم الإخبار عن معرفة صفة من صفات ذات فيذكر اسم الذات أولا ويعلم أن ذلك لا يفيد مراده فيكمله بذكر حال لازمة إتماما للفائدة فيقول رأيت الهلال طالعا مثلا ثم يقول أراني فلان الهلال طالعا ، وكذلك فعل علم وأخواته من باب ظن كله ومثله باب كان وأخواتها ، ألا ترى أنك لو عدلت عن المفعول الثاني في باب ظن أو عن الخبر في باب كان إلى الإتيان بمصدر في موضع الاسم في أفعال هذين البابين لاستغنيت عن الخبر والمفعول الثاني فتقول [ ص: 722 ] كان حضور فلان أي حصل وعلمت مجيء صاحبك وظننت طلوع الشمس وقد روي قول الفند الزماني :

عسى أن يرجع الأيا م قوما كالذي كانوا وقال حطائط بن يعفر :     أريني جوادا مات هزلا لعلني
أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا فإن جملة " مات هزلا " ليست خبرا عن " جوادا " إذ المبتدأ لا يكون نكرة ، وبهذا يتبين أن الصواب أن يعد الخبر في باب كان والمفعول الثاني في باب ظن أحوالا لازمة لتمام الفائدة وأن إطلاق اسم الخبر أو المفعول على ذلك المنصوب تسامح وعبارة قديمة .

وقرأ ابن كثير ويعقوب ( وأرنا ) بسكون الراء للتخفيف وقرأه أبو عمرو باختلاس كسرة الراء تخفيفا أيضا ، وجملة إنك أنت التواب الرحيم تعليل لجمل الدعاء .

والمناسك جمع منسك وهو اسم مكان من نسك نسكا من باب نصر أي تعبد أو من نسك بضم السين نساكة بمعنى ذبح تقربا ، والأظهر هو الأول لأنه الذي يحق طلب التوفيق له وسيأتي في قوله تعالى فإذا قضيتم مناسككم

التالي السابق


الخدمات العلمية