الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا تعقلون قد يلوح في بادئ الرأي أن موقع هذه الآية كالغريب عن السياق فيظن ظان أنها كلام مستأنف انتقل به غرض الحديث عن المشركين وأحوالهم والإملاء لهم إلى التذكير بأمر عجيب من صنع الله حتى يخال أن الذي اقتضى وقوع هذه الآية في هذا الموقع أنها نزلت في تباع نزول الآيات قبلها لسبب اقتضى نزولها . فجعل كثير من المفسرين موقعها موقع الاستدلال على أن قدرة الله تعالى لا يستصعب عليها طمس أعينهم ولا مسخهم كما غير خلقة المعمرين من قوة إلى ضعف ، فيكون قياس تقريب من قبيل ما يسمى في أصول الفقه بالقياس الخفي وبالأدون ، فيكون معطوفا على علة مقدرة في الكلام كأنه قيل : لو نشاء لطمسنا إلخ لأنا قادرون على قلب الأحوال ، ألا يرون كيف نقلب خلق الإنسان فنجعله على غير ما خلقناه أولا . وبعد هذا كله فموقع واو العطف غير شديد الانتظام .

وجعلها بعض المفسرين واقعة موقع الاستدلال على المكان البعيد ، أي أن الذي قدر على تغيير خلقهم من شباب إلى هرم قادر على أن يبعثهم بعد الموت فهو أيضا قياس تقريب بالخفي وبالأدون .

ومنهم من تكلم عليها معرضا عما قبلها فتكلموا على معناها وما فيها من العبرة ولم يبينوا وجه اتصالها بما قبلها .

ومنهم من جعلها لقطع معذرة المشركين في ذلك اليوم أن يقولوا : ما لبثنا في الدنيا إلا عمرا قليلا ولو عمرنا طويلا لما كان منا تقصير ، وهو بعيد عن مقتضى قوله ننكسه في الخلق ، وكل هذه التفاسير تحوم حول جعل الخلق بالمعنى المصدري ، أي في خلقته أو في أثر خلقه .

وكل هذه التفسيرات بعيد عن نظم الكلام ، فالذي يظهر أن الذي دفع [ ص: 54 ] المفسرين إلى ذلك هو ما ألفه الناس من إطلاق التعمير على طول عمر المعمر ، فلما تأولوه بهذا المعنى ألحقوا تأويل ننكسه في الخلق على ما يناسب ذلك .

والوجه عندي أن لكون جملة ( ومن نعمره ) عطفا على جملة ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فهي جملة شرطية عطفت على جملة شرطية ، فالمعطوف عليها جملة شرط امتناعي والمعطوفة جملة شرط تعليقي ، والجملة الأولى أفادت إمهالهم والإملاء لهم ، والجملة المعطوفة أفادت إنذارهم بعاقبة غير محمودة ووعيدهم بحلولها بهم ، أي إن كنا لم نمسخهم ولم نطمس على عيونهم فقد أبقيناهم ليكونوا مغلوبين أذلة ، فمعنى " ومن نعمره " من نعمره منهم .

فالتعمير بمعنى الإبقاء ، أي من نبقيه منهم ولا نستأصله منهم ، أي من المشركين فجعله بين الأمم ذليلا ، فالتعمير المراد هنا كالتعمير الذي في قوله تعالى أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ، بأن معناها : ألم نبقكم مدة من الحياة تكفي المتأمل وهو المقدر بقوله ما يتذكر فيه من تذكر .

وليس المراد من التعمير فيها طول الحياة وإدراك الهرم كالذي في قولهم : فلان من المعمرين ، فإن ذلك لم يقع بجميع أهل النار الذين خوطبوا بقوله أولم نعمركم ، وقد طويت في الكلام جملة تقديرها : ولو نشاء لأهلكناهم ، يدل عليها قوله " من نعمره " أي نبقه حيا .

والنكس : حقيقة قلب الأعلى أسفل ، أو ما يقرب من الأسفل ، قال تعالى ناكسوا رءوسهم ، ويطلق مجازا على الرجوع من حال حسنة إلى سيئة ، ولذلك يقال : فلان نكس ، إذا كان ضعيفا لا يرجى لنجدة ، وهو فعل بمعنى مفعول كأنه منكوس في خلائق الرجولة ، فـ " ننكسه " مجاز لا محالة إلا أنا نجعله مجازا في الإذلال بعد العزة وسوء الحالة بعد زهرتها .

والخلق : مصدر خلقه ، ويطلق على المخلوق كثيرا وعلى الناس . وفي حديث عائشة عن الكنيسة التي رأتها أم سلمة وأم حبيبة بالحبشة قال النبيء - صلى الله عليه وسلم - وأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة ، أي شرار الناس .

ووقوع حرف ( في ) هنا يعين أن الخلق هنا مراد به الناس ، أي تجعله دليلا في [ ص: 55 ] الناس وهو أليق بهذا المعنى دون معنى في خلقته ؛ لأن الإنكاس لا يكون في أصل الخلقة إنما يكون في أطوارها ، وقد فسر بذلك قوله تعالى وزادكم في الخلق بسطة أي زادكم قوة وسعة في الأمم ، أي في الأمم المعاصرة لكم ، فهو وعيد لهم ووعد للمؤمنين بالنصر على المشركين ووقوعهم تحت نفوذ المسلمين ، فإن أولئك الذين كانوا رءوسا للمشركين في الجاهلية صاروا في أسر المسلمين يوم بدر وفي حكمهم يوم الفتح فكانوا يدعون الطلقاء .

وقرأ الجمهور " ننكسه " بفتح النون الأولى وسكون النون الثانية وضم الكاف مخففة ، وهو مضارع نكس المتعدي ، يقال : نكس رأسه . وقرأه عاصم وحمزة بضم النون الأولى وفتح النون الثانية وكسر الكاف مشددة مضارع نكس المضاعف .

وفرع على الجمل الشرطية الثلاث وما تفرع عليها قوله ( أفلا تعقلون ) استئنافا إنكاريا لعدم تأملهم في عظيم قدرة الله تعالى الدالة على أنه لو شاء لطمس على أعينهم ولو شاء لمسخهم على مكانتهم ، وأنه إن لم يفعل ذلك فإنهم لا يسلمون من نصره المسلمين عليهم ؛ لأنهم لو قاسوا مقدورات الله تعالى المشاهدة لهم لعلموا أن قدرته على مسخهم فما دونه من إنزال مكروه بهم أيسر من قدرته على إيجاد المخلوقات العظيمة المتقنة ، وأنه لا حائل بين تعلق قدرته بمسخهم إلا عدم إرادته ذلك لحكمة علمها فإن القدرة إنما تتعلق بالمقدورات على وفق الإرادة .

وقرأ نافع وابن ذكوان عن أبي عامر وأبو جعفر " أفلا تعقلون " بتاء الخطاب وهو خطاب للذين وجه إليهم قوله ولو نشاء لطمسنا على أعينهم الآية . وقرأ الباقون بياء الغيبة لأن تلك الجمل الشرطية لا تخلوا من مواجهة بالتعريض للمتحدث عنهم فكانوا أحرياء أن يعقلوا مغزاها ويتفهموا معناها .

التالي السابق


الخدمات العلمية