الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون .

عطف على جملة إن تبدوا الصدقات وموقعها زيادة فضل الصدقات كلها ، وأنها لما كانت منفعتها لنفس المتصدق فليختر لنفسه ما هو خير ، وعليه أن يكثر منها بنبذ كل ما يدعو لترك بعضها .

وقوله : وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله جملة حالية ، وهو خبر مستعمل في معنى الأمر أي : إنما تكون منفعة الصدقات لأنفسكم إن كنتم ما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله لا للرياء ولا لمراعاة حال مسلم وكافر ، وهذا المعنى صالح لكلا المعنيين المحتملين في الآية التي قبلها ويجوز كونها معطوفة عليها إذا كان الخبر بمعنى النهي ، أي : لا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله ، وهذا الكلام خبر مستعمل في الطلب لقصد التحقيق والتأكيد ، ولذلك خولف فيه أسلوب ما حف به من جملة : وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وجملة : وما تنفقوا من خير يوف إليكم .

وقوله : وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون عطف على التي قبلها لبيان أن جزاء النفقات بمقدارها وأن من نقص له من الأجر فهو الساعي في نقصه ، وكرر فعل ( تنفقون ) ثلاث مرات في الآية لمزيد الاهتمام بمدلوله ، وجيء به مرتين بصيغة الشرط عند قصد بيان الملازمة بين الإنفاق والثواب ، وجيء به مرة في صيغة النفي والاستثناء لأنه قصد الخبر بمعنى الإنشاء ، أي : النهي عن أن ينفقوا إلا لابتغاء وجه الله .

[ ص: 73 ] وتقدم " وأنتم " على الخبر الفعلي لمجرد التقوي وزيادة التنبيه على أنهم لا يظلمون وإنما يظلمون أنفسهم .

وإنما جعلت هاته الأحكام جملا مستقلا بعضها عن بعض ولم تجعل جملة واحدة مقيدة فائدتها بقيود جميع الجمل ، وأعيد لفظ الإنفاق في جميعها بصيغ مختلفة تكريرا للاهتمام بشأنه ، لتكون كل جملة مستقلة بمعناها قصيرة الألفاظ كثيرة المعاني ، فتجري مجرى الأمثال وتتناقلها الأجيال .

وقد أخذ من الآيات الأخيرة - على أحد التفسيرين - جواز الصدقة على الكفار ، والمراد الكفار الذين يختلطون بالمسلمين غير مؤذين لهم ، وهم أهل العهد وأهل الذمة والجيران ، واتفق فقهاء الإسلام على جواز إعطاء صدقة التطوع للكافرين ، وحكمة ذلك أن الصدقة من إغاثة الملهوف ، والكافر من عباد الله ، ونحن قد أمرنا بالإحسان إلى الحيوان ، ففي الحديث الصحيح : قالوا : يا رسول الله ، وإن لنا في البهائم لأجرا ؟ فقال : في كل ذي كبد رطبة أجر .

واتفق الفقهاء على أن الصدقة المفروضة - أعني الزكاة - لا تعطى للكفار ، وحكمة ذلك أنها إنما فرضت لإقامة أود المسلمين ومواساتهم ، فهي مال الجامعة الإسلامية يؤخذ بمقادير معينة ، ففيه غنى المسلمين بخلاف ما يعطيه المرء عن طيب نفس لأجل الرأفة والشفقة ، واختلفوا في صدقة الفطر ، فالجمهور ألحقوها بالصدقات المفروضة ، وأبو حنيفة ألحقها بصدقة التطوع فأجاز إعطاءها إلى الكفار ، ولو قيل ذلك في غير زكاة الفطر كان أشبه ، فإن العيد عيد المسلمين ، ولعله رآها صدقة شكر على القدرة على الصيام ، فكان المنظور فيها حال المتصدق لا حال المتصدق عليه ، وقول الجمهور أصح لأن مشروعيتها لكفاية فقراء المسلمين عن المسألة في يوم عيدهم ، وليكونوا في ذلك اليوم أوسع حالا منهم في سائر المدة ، وهذا القدر لا تظهر حكمته في فقراء الكافرين .

التالي السابق


الخدمات العلمية