الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون .

هذه الآيات هي المقصود من السورة وما قبلها مقدمات وتوطئات لها كما ذكرناه آنفا . وقد تقدم ما حكاه الكشاف من أن اليهود افتخروا على المسلمين بالسبت فشرع الله للمسلمين الجمعة . فهذا وجه اتصال هذه الآية بالآيات الأربع التي قبلها فكن لهذه الآية تمهيدا وتوطئة . واللام في قوله للصلاة لام التعليل ، أي نادى مناد لأجل الصلاة من يوم الجمعة ، فعلم أن النداء هنا هو أذان الصلاة .

والجمعة بضم الجيم وضم الميم في لغة جمهور العرب وهو لغة أهل الحجاز . وبنو عقيل بسكون الميم .

والتعريف في الصلاة تعريف العهد وهي الصلاة المعروفة الخاصة بيوم [ ص: 220 ] الجمعة . وقد ثبتت شرعا بالتواتر ثم تقررت بهذه الآية فصار دليل وجوبها في الكتاب والسنة المتواترة وإجماع الأمة .

وكانت صلاة الجمعة مشروعة من أول أيام الهجرة . روي عن ابن سيرين أن الأنصار جمعوا الجمعة قبل أن يقدم النبيء - صلى الله عليه وسلم - المدينة قالوا : إن لليهود يوما يجتمعون فيه وللنصارى يوم مثل ذلك فتعالوا فلنجتمع حتى نجعل يوما لنا نذكر الله ونصلي فيه . وقالوا : إن لليهود السبت وللنصارى الأحد فاجعلوه يوم العروبة . فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم .

وروى البيهقي عن الزهري أن مصعب بن عمير كان أول من جمع الجمعة بالمدينة قبل أن يقدمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويتعين أن يكون ذلك قد علم به النبيء - صلى الله عليه وسلم - ولعلهم بلغهم عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - حديث فضل يوم الجمعة وأنه يوم المسلمين .

فمشروعية صلاة الجمعة والتجميع فيه إجابة من الله تعالى رغبة المسلمين مثل إجابته رغبة النبيء - صلى الله عليه وسلم - استقبال الكعبة المذكورة في قوله تعالى قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام .

وأما أول جمعة جمعها النبيء - صلى الله عليه وسلم - فقال أهل السير : كانت في اليوم الخامس للهجرة لأن رسول الله قدم المدينة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول فأقام بقباء ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة فأدركه وقت الجمعة في بطن واد لبني سالم بن عوف كان لهم فيه مسجد ، فجمع بهم في ذلك المسجد ، وخطب فيه أول خطبة خطبها بالمدينة وهي طويلة ذكر نصها القرطبي في تفسيره .

وقولهم ( فأدركه وقت الجمعة ) ، يدل على أن صلاة الجمعة كانت مشروعة يومئذ وأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - كان عازما أن يصليها بالمدينة فضاق عليه الوقت فأداها في مسجد بني سالم ، ثم صلى الجمعة القابلة في مسجده بالمدينة وكانت جمعة المسجد النبوي بالمدينة الثانية بالأخبار الصحيحة .

وأول جمعة جمعت في مسجد من مساجد بلاد الإسلام بعد المدينة كانت في [ ص: 221 ] مسجد جؤاثاء من بلاد البحرين وهي مدينة الخط قرية لعبد القيس . ولما ارتدت العرب بعد وفاة النبيء - صلى الله عليه وسلم - ثبت أهل جؤاثاء على الإسلام .

وتقرر أن يوم الجمعة اليوم السابع من أيام الأسبوع في الإسلام وهو الذي كان يسمى في الجاهلية عروبة . قال بعض الأئمة : ولا تدخل عليه اللام . قال السهيلي : معنى العروبة الراحة فيما بلغني عن بعض أهل العلم اهـ . قلت : وذلك مروي عن ثعلب ، وهو قبل يوم السبت وقد كان يوم السبت عيد الأسبوع عند اليهود وهو آخر أيام الأسبوع . وقد فرضت عليهم الراحة فيه عن الشغل بنص التوراة فكانوا يبتدئون عدد أيام الأسبوع من يوم الأحد وهو الموالي للسبت وتبعهم العرب في ذلك لأسباب غير معروفة ولذلك سمى العرب القدماء يوم الأحد ( أول ) .

فأيام الأسبوع عند العرب في القديم هي : أول ، أهون جبار ، كغراب وكتاب ، دبار كذلك ، مؤيس ( مهموزا ) ، عروبة ، شيار بشين معجمة مكسورة بعدها تحتية مخففة .

ثم أحدثوا أسماء لهذه الأيام هي : الأحد ، الاثنين ، الثلاثاء بفتح المثلثة الأولى وبضمها ، الإربعاء بكسر الهمزة وكسر الموحدة ، الخميس ، عروبة أو الجمعة ( في قول بعضهم ) السبت . وأصل السبت : القطع ، سمي سبتا عند الإسرائيليين لأنهم يقطعون فيه العمل ، وشاع ذلك الاسم عند العرب .

وسموا الأيام الأربعة بعده بأسماء مشتقة عن أسماء العدد على ترتيبها وليس في التوراة ذكر أسماء للأيام . وفي سفر التكوين منها ذكرت أيام بدء الخلق بأعدادها أول وثان إلخ ، وأن الله لم يخلق شيئا في اليوم الذي بعد اليوم [ ص: 222 ] السادس . وسمته التوراة سبتا ، قال السهيلي : قيل أول من سمى يوم عروبة الجمعة كعب بن لؤي جد أبي قصي . وكان قريش يجتمعون فيه إلى كعب قال : وفي قول بعضهم . لم يسم يوم عروبة يوم الجمعة إلا مذ جاء الإسلام .

جعل الله يوم الجمعة للمسلمين عيد الأسبوع فشرع لهم اجتماع أهل البلد في المسجد وسماع الخطبة ليعلموا ما يهمهم في إقامة شئون دينهم وإصلاحهم .

قال القفال : لما جعل الله الناس أشرف العالم السفلي لم يخف عظم المنة وجلالة قدر موهبته لهم فأمرهم بالشكر على هذه الكرامة في يوم من الأيام السبعة ليكون في اجتماعهم في ذلك اليوم تنبيه على عظم ما أنعم الله به عليهم . ولكل أهل ملة معروفة يوم من الأسبوع معظم ، فلليهود يوم السبت وللنصارى الأحد وللمسلمين يوم الجمعة . وقد قال النبيء - صلى الله عليه وسلم - : نحن الآخرون ، أي آخر الدنيا السابقون يوم القيامة ، يوم القيامة يتعلق بـ ( السابقون ) . بيد أنهم أي اليهود والنصارى أوتوا الكتاب من قبلنا ثم كان هذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله إليه ، فالناس لنا فيه تبع ، اليهود غدا والنصارى بعد غد .

ولما جعل يوم الجمعة يوم شكر وتعظيم نعمة احتيج فيه إلى الاجتماع الذي تقع به شهرته فجمعت الجماعات لذلك ، واحتيج فيه إلى الخطبة تذكيرا بالنعمة وحثا على استدامتها . ولما كان مدار التعظيم إنما هو على الصلاة جعلت الصلاة لهذا اليوم وسط النهار ليتم الاجتماع ولم تجز هذه الصلاة إلا في مسجد واحد ليكون أدعى الاجتماع اهـ . كلام القفال . وقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - : والنصارى بعد غد ، إشارة إلى ما عمله النصارى بعد المسيح وبعد الحواريين من تعويض يوم السبت بيوم الأحد لأنهم زعموا أن يوم الأحد فيه قام عيسى من قبره . فعوضوا الأحد عن يوم السبت بأمر من قسطنطين سلطان الروم في سنة 321 المسيحي . وصار دينا لهم بأمر أحبارهم .

وصلاة الجمعة هي صلاة ظهر يوم الجمعة ، وليست صلاة زائدة على الصلوات الخمس فأسقط من صلاة الظهر ركعتان لأجل الخطبتين . روي عن عمر بن الخطاب أنه قال : وإنما قصرت الجمعة لأجل الخطبة .

[ ص: 223 ] وأحسب أن ذلك تخفيف على الناس إذ وجبت عليهم خطبتان مع الصلاة فكانت كل خطبة بمنزلة ركعة وهذا سبب الجلوس بين الخطبتين للإيماء إلى أنهما قائمتان مقام الركعتين ولذلك كان الجلوس خفيفا . غير أن الخطبتين لم تعطيا أحكام الركعتين فلا يضر فوات إحداهما أو فواتهما معا ولا يجب على المسبوق تعويضهما ولا سجود لنقصهما عند جمهور فقهاء الأمصار ، روي عن عطاء ومجاهد وطاوس : أن من فاتته الخطبة يوم الجمعة صلى أربعا صلاة الظهر . وعن عطاء : أن من أدرك ركعة من صلاة الجمعة أضاف إليها ثلاث ركعات وهو أراد إن فاتته الخطبة وركعة من صلاة الجمعة .

وجعلت القراءة في الصلاة جهرا مع أن شأن صلوات النهار إسرار القراءة لفائدة إسماع الناس سورا من القرآن كما أسمعوا الخطبة فكانت صلاة إرشاد لأهل البلد في يوم من كل أسبوع .

والإجماع على أن صلاة الجمعة قائمة مقام صلاة الظهر في يوم الجمعة فمن صلاها لا يصلي معها ظهرا فأما من لم يصلها لعذر أو لغيره فيجب عليه أن يصلي الظهر . ورأيت في الجامع الأموي في دمشق قام إمام يصلي بجماعة ظهرا بعد الفراغ من صلاة الجمعة وذلك بدعة .

وإنما اختلف الأيمة في أصل الفرض في وقت الظهر يوم الجمعة فقال مالك والشافعي في آخر قوليه وأحمد وزفر من أصحاب أبي حنيفة : صلاة الجمعة المعروفة فرض وقت الزوال في يوم الجمعة وصلاة الظهر في ذلك اليوم لا تكون إلا بدلا عن صلاة الجمعة ، أي لمن لم يصل الجمعة لعذر ونحوه .

وقال أبو حنيفة والشافعي في أول قوليه ( المرجوع عنه ) وأبو يوسف ومحمد في رواية : الفرض بالأصل هو الظهر وصلاة الجمعة بدل عن الظهر ، وهو الذي صححه فقهاء الحنفية .

وقال محمد في رواية عنه : الفرض إحدى الصلاتين من غير تعيين والتعيين للمكلف فأشبه الواجب المخير لأن الواجب المخير لا يأثم فيه فاعل أحد الأمرين وتارك الجمعة بدون عذر آثم .

[ ص: 224 ] قالوا : تظهر فائدة الخلاف في حر مقيم صلى الظهر في أول الوقت ; فقال أبو حنيفة وأصحابه : له صلاة الظهر مطلقا حتى لو خرج بعد أن صلى الظهر أو لم يخرج لم يبطل فرضه ، لكن عند أبي حنيفة يبطل ظهره بمجرد السعي مطلقا وعند صاحبيه لا يبطل ظهره إلا إذا أدرك الجمعة .

وقال مالك والشافعي : لا يجوز أن يصلي الظهر يوم الجمعة سواء أدرك الجمعة أم لا ، خرج إليها أم لا يعني فإن أدرك الجمعة فالأمر ظاهر وإن لم يدركها وجب عليه أن يصلي ظهرا آخر .

والنداء للصلاة : الأذان المعروف وهو أذان الظهر ورد في الصحيح عن السائب بن يزيد قال : كان النداء يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبيء - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر . قال السائب بن يزيد : فلما كان عثمان وكثر الناس بالمدينة زاد أذانا على الزوراء - ( الزوراء : موضع بسوق المدينة - ) . وربما وصف في بعض الروايات بالأذان الثاني . ومعنى كونه ثانيا أنه أذان مكرر للأذان الأصلي فهو ثان في المشروعية ولا يريد أنه يؤذن به بعد الفراغ من الأذان الذي يؤذن به وقت جلوس الإمام على المنبر ، أي يؤذن به في باب المسجد ، إذ لم يكن للناس يومئذ صومعة ، وربما وقع في بعض الروايات وصفه بالنداء الثالث وإنما يعنى بذلك أنه ثالث بضميمه الأذان الأول . ولا يراد أن الناس يؤذنون أذانين في المسجد وإنما زاده عثمان ليسمع النداء من في أطراف المدينة ، وربما سموه الأذان الأول .

والذي يظهر من تحقيق الروايات أن هذا الأذان الثاني يؤذن به عقب الأذان الأول ، لأن المقصود حضور الناس للصلاة في وقت واحد ووقع في بعض عبارات الروايات والرواة أنه كان يؤذن بأذان الزوراء أولا ثم يخرج الإمام فيؤذن بالأذان بين يديه .

قال ابن العربي في العارضة : لما كثر الناس في زمن عثمان زاد النداء على الزوراء ليشعر الناس بالوقت فيأخذوا بالإقبال إلى الجمعة ثم يخرج عثمان فإذا جلس على المنبر أذن الثاني الذي كان أولا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يخطب . ثم يؤذن الثالث يعني به الإقامة اهـ .

[ ص: 225 ] وقال في الأحكام : وسماه في الحديث أي حديث السائب بن يزيد ثالثا لأنه إضافة إلى الإقامة فجعله ثالث الإقامة ، أي لأنه أحدث بعد أن كانت الإقامة مشروعة وسمى الإقامة أذانا مشاكلة أو لأنها إيذان بالدخول في الصلاة كما قال النبيء - صلى الله عليه وسلم - : بين كل أذانين صلاة لمن شاء يعني بين الأذان والإقامة ، فتوهم الناس أنه أذان أصلي فجعلوا الأذانات ثلاثة فكان وهما . ثم جمعوهم في وقت واحد فكان وهما على وهم اهـ . فتوهم كثير من أهل الأمصار أن الأذان لصلاة الجمعة ثلاث مرات لهذا تراهم يؤذنون في جوامع تونس ثلاثة أذانات وهو بدعة .

قال ابن العربي في العارضة : فأما بالمغرب أي بلاد المغرب فيؤذن ثلاثة من المؤذنين لجهل المفتين في الرسالة : وهذا الأذان الثاني أحدثه بنو أمية فوصفه بالثاني وهو التحقيق ، ولكنه نسبه إلى بني أمية لعدم ثبوت أن الذي زاده عثمان ، ورواه البخاري وأهل السنن عن السائب بن يزيد ولم يروه مسلم ولا مالك في الموطأ .

والسبب في نسبته إلى بني أمية : أن علي بن أبي طالب لما كان بالكوفة لم يؤذن الجمعة إلا أذانا واحدا كما كان في زمن النبيء - صلى الله عليه وسلم - وألغي الأذان الذي جعله عثمان بالمدينة . فلعل الذي أرجع الأذان الثاني بعض خلفاء بني أمية قال مالك في المجموعة : إن هشام بن عبد الملك أحدث أذانا ثانيا بين يديه في المسجد .

واعلم أن النداء الذي نيط به الأمر بالسعي في هذه الآية هو النداء الأول ، وما كان النداء الثاني إلا تبليغا للأذان لمن كان بعيدا فيجب على من سمعه السعي إلى الجمعة للعلم بأنه قد نودي للجمعة .

والسعي : أصله الاشتداد في المشي . وأطلق هنا على المشي بحرص ، وتوقي التأخر مجازا .

( وذكر الله ) فسر بالصلاة وفسر بالخطبة ، بهذا فسره سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير . قال أبو بكر بن العربي والصحيح أنه الجميع أوله الخطبة .

قلت : وإيثار ( ذكر الله ) هنا دون أن يقول : إلى الصلاة ، كما قال فإذا قضيت الصلاة [ ص: 226 ] لتتأتى إرادة الأمرين الخطبة والصلاة . وفيه دليل على وجوب الخطبة في صلاة الجمعة وشرطيته على الجملة . وتفصيل أحكام التخلف عن الخطبة ليست مساوية للتخلف عن الصلاة إلا في أصل حرمة التخلف عن حضور الخطبة بغير عذر .

وفي حديث الموطأ فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر ولا شك أن الإمام إذا خرج ابتدأ بالخطبة فكانت الخطبة من الذكر وفي ذلك تفسير للفظ الذكر في هذه الآية . وإنما نهوا عن البيع لأنه الذي يشغلهم ولأن سبب نزول الآية كان لترك فريق منهم الجمعة إقبالا على عير تجارة وردت كما سيأتي في قوله تعالى وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها .

ومثل البيع كل ما يشغل عن السعي إلى الجمعة ، وبعد كون البيع وما قيس عليه منها فقد اختلف في نسخ العقود التي انعقدت وقت الجمعة . وهو مبني على الخلاف في اقتضاء النهي فساد المنهي عنه ، ومذهب مالك أن النهي يقتضي الفساد إلا لدليل . وقول مالك في المدونة : إن البيع الواقع في وقت صلاة الجمعة بين من تجب عليهم الجمعة يفسخ . وقال الشافعي : لا يفسخ . وجعله كالصلاة في الأرض المغصوبة وهو قول أبي حنيفة أيضا .

وأما النكاح المعقود في وقت الجمعة : ففي العتببة عن ابن القاسم : لا يفسخ . ولعله اقتصر على ما ورد النهي عنه في القرآن ولم ير القياس موجبا لفسخ المقيس . وكذلك قال أيمة المالكية : لا تفسخ الشركة والهبة والصدقة الواقعة في وقت الجمعة وعللوا ذلك بندرة وقوع أمثالها بخلاف البيع .

وخطاب الآية جميع المؤمنين فدل على أن الجمعة واجبة على الأعيان . وشذ قوم قالوا : إنها واجبة على الكفاية ، قال ابن الفرس : ونسب إلى بعض الشافعية وخطاب القرآن الذين آمنوا عام خصصته السنة بعدم وجوب الجمعة على النساء والعبيد والمسافر إذا حل بقرية الجمعة ، ومن لا يستطيع السعي إليها .

و ( من ) في قوله ( من يوم الجمعة ) تبعيضية فإن يوم الجمعة زمان تقع فيه أعمال : منها الصلاة المعهودة فيه ، فنزل ما يقع في الزمان بمنزلة أجزاء الشيء .

[ ص: 227 ] ويجوز كون ( من ) للظرفية مثل التي في قوله تعالى ( أروني ماذا خلقوا من الأرض ) ، أي فيها من المخلوقات الأرضية .

والإشارة بـ ( ذلكم ) إلى المذكور ، أي ما ذكر من أمر بالسعي إليها ، وأمر بترك البيع حينئذ ، أي ذلك خير لكم مما يحصل لكم من البيوعات . فلفظ ( خير ) اسم تفضيل أصله : أخير ، حذفت همزته لكثرة الاستعمال .

والمفضل عليه محذوف لدلالة الكلام عليه .

والمفضل : الصلاة ، أي ثوابها .

والمفضل عليه : منافع البيع للبائع والمشتري .

وإنما أعقب بقوله تعالى فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله تنبيها على أن لهم سعة من النهار يجعلونها للبيع ونحوه من ابتغاء أسباب المعاش فلا يأخذوا ذلك من وقت الصلاة ، وذكر الله ، والأمر في ( فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله للإباحة .

والمراد بـ ( فضل الله ) : اكتساب المال والرزق .

وأما قوله ( واذكروا الله كثيرا ) فهو احتراس من الانصباب في أشغال الدنيا انصبابا ينسي ذكر الله ، أو يشغل عن الصلوات فإن الفلاح في الإقبال على مرضاة الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية