الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 48 ] واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا .

عطف تشريع يختص بالمعاملة مع ذوي القربى والضعفاء ، وقدم له الأمر بعبادة الله تعالى وعدم الإشراك على وجه الإدماج ، للاهتمام بهذا الأمر وأنه أحق ما يتوخاه المسلم ، تجديدا لمعنى التوحيد في نفوس المسلمين كما قدم لذلك في طالع السورة بقوله : اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة . والمناسبة هي ما أريد جمعه في هذه السورة من أحكام أواصر القرابة في النسب والدين والمخالطة .

والخطاب للمؤمنين ، ولذلك قدم الأمر بالعبادة على النهي عن الإشراك لأنهم قد تقرر نفي الشرك بينهم وأريد منهم دوام العبادة لله ، والاستزادة منها ، ونهوا عن الشرك تحذيرا مما كانوا عليه في الجاهلية ، ومجموع الجملتين في قوة صيغة حصر ; إذ مفاده : اعبدوا الله ولا تعبدوا غيره فاشتمل على معنى إثبات ونفي ، كأنه قيل : لا تعبدوا إلا الله . والعدول عن طريق القصر في مثل هذا طريقة عربية جاء عليها قول السموأل ، أو عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي :


تسيل على حد الظبات نفوسنا وليست على غير الظبات تسيل

وإنما يصار إليها عندما يكون الغرض الأول هو طرف الإثبات ، ثم يقصد بعد ذلك نفي الحكم عما عدا المثبت له ، لأنه إذا جيء بالقصر كان المقصد الأول هو نفي الحكم عما عدا المذكور وذلك غير مقتضى المقام هنا ، ولأجل ذلك لما خوطب بنو إسرائيل بنظير هذه الآية خوطبوا بطريقة القصر في قوله : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا الآية ، لأن المقصود الأول إيقاظهم إلى إبطال عبادة غير الله ، لأنهم قالوا لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ولأنهم عبدوا العجل في مدة مناجاة موسى ربه ، فأخذ عليهم الميثاق بالنهي عن عبادة غير الله .

[ ص: 49 ] وكذلك البيت فإن الغرض الأهم هو التمدح بأنهم يقتلون في الحرب ، فتزهق نفوسهم بالسيوف ، ثم بدا له فأعقبه بأن ذلك شنشنة فيهم لا تتخلف ولا مبالغة فيها .

و " شيئا " منصوب على المفعولية لـ " تشركوا " أي لا تجعلوا شريكا شيئا مما يعبد كقوله : ولن نشرك بربنا أحدا ويجوز انتصابه على المصدرية للتأكيد ، أي شيئا من الإشراك ولو ضعيفا كقوله : فلن يضروك شيئا .

وقوله : وبالوالدين إحسانا اهتمام بشأن الوالدين إذ جعل الأمر بالإحسان إليهما عقب الأمر بالعبادة ، كقوله : أن اشكر لي ولوالديك ، وقوله : يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الإنسان بوالديه ، ولذا قدم معمول " إحسانا " عليه تقديما للاهتمام إذ لا معنى للحصر هنا لأن الإحسان مكتوب على كل شيء ، ووقع المصدر موقع الفعل ، وإنما عدي الإحسان بالباء لتضمينه معنى البر . وشاعت تعديته بالباء في القرآن في مثل هذا . وعندي أن الإحسان إنما يعدى بالباء إذا أريد به الإحسان المتعلق بمعاملة الذات وتوقيرها وإكرامها ، وهو معنى البر ولذلك جاء وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن ; وإذا أريد به إيصال النفع المالي عدي بإلى ، تقول : أحسن إلى فلان ، إذا وصله بمال ونحوه .

" وذي القربى " صاحب القرابة ، والقربى فعلى ، اسم للقرب مصدر قرب كالرجعى ، والمراد بها قرابة النسب ، كما هو الغالب في هذا المركب الإضافي ، وهو قولهم : ذو القربى ، وإنما أمر بالإحسان إليه استبقاء لأواصر الود بين الأقارب ، إذ كان العرب في الجاهلية قد حرفوا حقوق القرابة فجعلوها سبب تنافس وتحاسد وتقاتل . وأقوالهم في ذلك كثيرة في شعرهم ; قال أرطاة بن سهية :


ونحن بنو عم على ذاك بيننا     زرابي فيها بغضة وتنافس

وحسبك ما كان بين بكر وتغلب في حرب البسوس ، وهما أقارب وأصهار ، وقد كان المسلمون يومها عربا قريبي عهد بالجاهلية ; فلذلك حثهم على الإحسان إلى القرابة . وكانوا يحسنون بالجار ، فإذا كان من قرابتهم لم يكترثوا بالإحسان إليه ، وأكد ذلك بإعادة حرف الجر بعد العاطف . ومن أجل ذلك لم تؤكد بالباء في حكاية وصية بني إسرائيل وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل إلى قوله ( وذي القربى ) لأن الإسلام أكد [ ص: 50 ] أواصر القرابة أكثر من غيره . وفي الأمر بالإحسان إلى الأقارب تنبيه على أن من سفالة الأخلاق أن يستخف أحد بالقريب لأنه قريبه ، وآمن من غوائله ، ويصرف بره ووده إلى الأباعد ليستكفي شرهم ، أو ليذكر في القبائل بالذكر الحسن ، فإن النفس التي يطوعها الشر ، وتدنيها الشدة ، لنفس لئيمة ، وكما ورد : شر الناس من اتقاه الناس لشره . فكذلك نقول شر الناس من عظم أحدا لشره .

وقوله " واليتامى والمساكين " هذان صنفان ضعيفان عديما النصير ، فلذلك أوصي بهما .

والجار هو النزيل بقرب منزلك ، ويطلق على النزيل بين القبيلة في جوارها ، فالمراد بـ الجار ذي القربى الجار النسيب من القبيلة ، وبـ الجار الجنب الجار الغريب الذي نزل بين القوم وليس من القبيلة ، فهو جنب ، أي بعيد ، مشتق من الجانب ، وهو وصف على وزن فعل ، كقولهم : ناقة أجد ، وقيل : هو مصدر ، ولذلك لم يطابق موصوفه ، قال بلعاء بن قيس :


لا يجتوينا مجـاور أبـدا     ذو رحم أو مجاور جنب

ويشهد لهذا المعنى قول علقمة بن عبدة في شعره الذي استشفع به عند الملك الحارث بن جبلة الغساني ، ليطلق له أخاه شاسا ، حين وقع في أسر الحارث :


فلا تحرمني نائلا عن جـنـاية     فإني امرؤ وسط القباب غريب

وفسر بعضهم الجار ذا القربى بقريب الدار ، والجنب بعيدها ، وهذا بعيد ، لأن القربى لا تعرف في القرب المكاني ، والعرب معروفون بحفظ الجوار والإحسان إلى الجار ، وأقوالهم في ذلك كثيرة ، فأكد ذلك في الإسلام لأنه من محامد العرب التي جاء الإسلام لتكميلها من مكارم الأخلاق ، ومن ذلك الإحسان إلى الجار .

وأكدت السنة الوصاية بالجار في أحاديث كثيرة : ففي البخاري عن عائشة أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - : قال : ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه . وفيه عن أبي شريح : أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - خرج وهو يقول والله لا [ ص: 51 ] يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن ، قيل : من يا رسول الله ؟ قال : من لا يأمن جاره بوائقه وفيه عن عائشة ، قلت : يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي ؟ قال إلى أقربهما منك بابا وفي صحيح مسلم : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهده جيرانك . واختلف في حد الجوار : فقال ابن شهاب ، والأوزاعي : أربعون دارا من كل ناحية ، وروي في ذلك حديث ، وليس عن مالك في ذلك حد ، والظاهر أنه موكول إلى ما تعارفه الناس .

وقوله : والصاحب بالجنب هو المصاحب الملازم للمكان ، فمنه الضيف ، ومنه الرفيق في السفر ، وكل من هو ملم بك لطلب أن تنفعه ، وقيل : أراد الزوجة .

وابن السبيل هو الغريب المجتاز بقوم غير ناو الإقامة ، لأن من أقام فهو الجار الجنب . وكلمة ( ابن ) فيه مستعملة في معنى الانتساب والاختصاص ، كقولهم : أبو الليل ، وقولهم في المثل : أبوها وكيالها . والسبيل : الطريق السابلة ، فابن السبيل هو الذي لازم الطريق سائرا ، أي مسافرا ، فإذا دخل القبيلة فهو ليس من أبنائها ، فعرفوه بأنه ابن الطريق ، رمى به الطريق إليهم ، فكأنه ولده . والوصاية به لأنه ضعيف الحيلة ، قليل النصير ، إذ لا يهتدي إلى أحوال قوم غير قومه ، وبلد غير بلده .

وكذلك ما ملكت أيمانكم لأن العبيد في ضعف الرق والحاجة وانقطاع سبل الخلاص من سادتهم ، فلذلك كانوا أحقاء بالوصاية .

وجملة إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا تذييل لجملة الأمر بالإحسان إلى من سماهم بذم موانع الإحسان إليهم الغالبة على البشر . والاختيال : التكبر ، افتعال مشتق من الخيلاء ، يقال : خال الرجل خولا وخالا . والفخور : الشديد الفخر بما فعل ، وكلا الوصفين منشأ للغلظة والجفاء ، فهما ينافيان الإحسان المأمور به ، لأن المراد الإحسان في المعاملة وترك الترفع على من يظن به سبب يمنعه من الانتقام .

ومعنى نفي محبة الله تعالى نفي رضاه وتقريبه عمن هذا وصفه ، وهذا تعريض بأخلاق أهل الشرك ، لما عرفوا به من الغلظة والجفاء ، فهو في معنى التحذير من بقايا الأخلاق التي كانوا عليها .

التالي السابق


الخدمات العلمية