الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 229 ] يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا .

تذييل عقب به أمر المؤمنين بأن يكونوا قوامين بالقسط شهداء لله فأمرهم الله عقب ذلك بما هو جامع لمعاني القيام بالقسط والشهادة لله : بأن يؤمنوا بالله ورسله وكتبه ، ويدوموا على إيمانهم ، ويحذروا مسارب ما يخل بذلك .

ووصف المخاطبين بأنهم آمنوا ، وإردافه بأمرهم بأن يؤمنوا بالله ورسله إلى آخره يرشد السامع إلى تأويل الكلام تأويلا يستقيم به الجمع بين كونهم آمنوا وكونهم مأمورين بإيمان .

ويجوز في هذا التأويل خمسة مسالك : المسلك الأول : تأويل الإيمان في قوله يا أيها الذين آمنوا بأنه إيمان مختل منه بعض ما يحق الإيمان به ، فيكون فيها خطاب لنفر من اليهود آمنوا ، وهم عبد الله بن سلام ، وأسد وأسيد ابنا كعب ، وثعلبة بن قيس ، وسلام ابن أخت عبد الله بن سلام ، وسلمة ابن أخيه ، ويامين بن يامين ، سألوا النبيء صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به وبكتابه ، كما آمنوا بموسى وبالتوراة ، وأن لا يؤمنوا بالإنجيل ، كما جاء في رواية الواحدي عن الكلبي ، ورواه غيره عن ابن عباس .

المسلك الثاني : أن يكون التأويل في الإيمان المأمور به أنه إيمان كامل لا تشوبه كراهية بعض كتب الله ، تحذيرا من ذلك . فالخطاب للمسلمين لأن وصف الذين آمنوا صار كاللقب للمسلمين ، ولا شك أن المؤمنين قد آمنوا بالله وما عطف على اسمه هنا .

فالظاهر أن المقصود بأمرهم بذلك : إما زيادة تقرير ما يجب الإيمان به ، وتكرير استحضارهم إياه حتى لا يذهلوا عن شيء منه اهتماما بجميعه; وإما النهي عن إنكار الكتاب المنزل على موسى وإنكار نبوءته ، لئلا يدفعهم بغض اليهود وما بينهم وبينهم من الشنآن إلى مقابلتهم بمثل ما يصرح به اليهود من تكذيب محمد - صلى الله عليه وسلم - وإنكار نزول القرآن; وإما أريد به التعريض بالذين يزعمون أنهم يؤمنون بالله ورسله [ ص: 230 ] ثم ينكرون نبوءة محمد - صلى الله عليه وسلم - وينكرون القرآن ، حسدا من عند أنفسهم ، ويكرهون بعض الملائكة لذلك ، وهم اليهود ، والتنبيه على أن المسلمين أكمل الأمم إيمانا ، وأولى الناس برسل الله وكتبه ، فهم أحرياء بأن يسودوا غيرهم لسلامة إيمانهم من إنكار فضائل أهل الفضائل ، ويدل لذلك قوله عقبه ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ، ويزيد ذلك تأييدا أنه قال واليوم الآخر فعطفه على الأشياء التي من يكفر بها فقد ضل ، مع أنه لم يأمر المؤمنين بالإيمان باليوم الآخر فيما أمرهم به ، لأن الإيمان به يشاركهم فيه اليهود فلم يذكره فيما يجب الإيمان به ، وذكره بعد ذلك تعريضا بالمشركين .

المسلك الثالث : أن يراد بالأمر بالإيمان الدوام عليه تثبيتا لهم على ذلك ، وتحذيرا لهم من الارتداد ، فيكون هذا الأمر تمهيدا وتوطئة لقوله ومن يكفر بالله وملائكته ، ولقوله إن الذين آمنوا ثم كفروا الآية .

المسلك الرابع : أن الخطاب للمنافقين ، يعني : يا أيها الذين أظهروا الإيمان أخلصوا إيمانكم حقا .

المسلك الخامس : روي عن الحسن تأويل الأمر في قوله آمنوا بالله بأنه طلب لثباتهم على الإيمان الذي هم عليه ، واختاره الجبائي . وهو الجاري على ألسنة أهل العلم ، وبناء عليه جعلوا الآية شاهدا لاستعمال صيغة الأمر في طلب الدوام .

والمراد بالكتاب الذي أنزل من قبل الجنس ، والتعريف للاستغراق يعني : والكتب التي أنزل الله من قبل القرآن ، ويؤيده قوله بعده " وكتبه ورسله " .

وقرأ نافع ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو جعفر ، ويعقوب ، وخلف : ( نزل ) و ( أنزل ) كليهما بالبناء للفاعل وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو بالبناء للنائب .

وجاء في صلة وصف الكتاب الذي نزل على رسوله بصيغة التفعيل ، وفي صلة الكتاب الذي أنزل من قبل بصيغة الإفعال تفننا ، أو لأن القرآن حينئذ بصدد النزول نجوما ، والتوراة يومئذ قد انقضى نزولها . ومن قال : لأن القرآن أنزل منجما بخلاف غيره من الكتب فقد أخطأ إذ لا يعرف كتاب نزل دفعة واحدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية