الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم

انتقال من الاستدلال بخلق الأرض وما فيها - وهو مما علمه ضروري للناس - إلى الاستدلال بخلق ما هو أعظم من خلق الأرض وهو أيضا قد يغفل عن النظر في الاستدلال به على وجود الله ، وذلك خلق السماوات ، ويشبه أن يكون هذا الانتقال استطرادا لإكمال تنبيه الناس إلى عظيم القدرة .

وعطفت ثم جملة استوى على جملة خلق لكم . ولدلالة ثم على الترتيب والمهلة في عطف المفرد على المفرد كانت في عطف الجملة على الجملة للمهلة في الرتبة ، وهي مهلة تخييلية في الأصل تشير إلى أن المعطوف بثم أعرق في المعنى الذي تتضمنه الجملة المعطوف عليها حتى كأن العقل يتمهل في الوصول إليه بعد الكلام الأول فينتبه السامع لذلك كي لا يغفل عنه بما سمع من الكلام السابق ، وشاع هذا الاستعمال حتى صار كالحقيقة ، ويسمى ذلك بالترتيب الرتبي وبترتيب الإخبار - بكسر الهمزة - كقوله تعالى فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة إلى أن قال ثم كان من الذين آمنوا فإن قوله فك رقبة خبر مبتدأ محذوف ، ولما كان ذكر هاته الأمور التي يعز إيفاؤها حقها مما يغفل السامع عن أمر آخر عظيم نبه عليه بالعطف بثم للإشارة إلى أنه آكد وأهم ، ومنه قول طرفة بن العبد يصف راحلته :


جنوح دفاق عندل ثم أفرعت لها كتفاها في معالى مصعد

فإنه [ ص: 383 ] لما ذكر من محاسنها جملة نبه على وصف آخر أهم في صفات عنقها وهو طول قامتها . قال المرزوقي في شرح الحماسة في شرح قول جعفر بن علبة الحارثي :


لا يكشف الغماء إلا ابن حرة     يرى غمرات الموت ثم يزورها

إن ثم وإن كان في عطفه المفرد على المفرد يدل على التراخي فإنه في عطفه الجملة على الجملة ليس كذلك ، وذكر قوله تعالى ثم كان من الذين آمنوا اهـ .

وإفادة التراخي الرتبي هو المعتبر في عطف ثم للجمل سواء وافقت الترتيب الوجودي مع ذلك أو كان معطوفها متقدما في الوجود ، وقد جاء في الكلام الفصيح ما يدل على معنى البعدية مرادا منه البعدية في الرتبة وإن كان عكس الترتيب الوجودي فتكون البعدية مجازية مبنية على تشبيه البون المعنوي بالبعد المكاني أو الزماني ، ومنه قوله تعالى هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم فإن كونه عتلا وزنيما أسبق في الوجود من كونه همازا مشاء بنميم لأنهما صفتان ذاتيتان بخلاف هماز مشاء بنميم ، وكذلك قوله تعالى فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير فإذا تمحضت ( ثم ) للتراخي الرتبي حملت عليه ، وإن احتملته مع التراخي الزمني فظاهر قول المرزوقي فإنه في عطف الجملة ليس كذلك إنه لا يحتمل حينئذ التراخي الزمني . ولكن يظهر جواز الاحتمالين وذلك حيث يكون المعطوف بها متأخرا في الحصول على ما قبلها وهو مع ذلك كما في بيت جعفر بن علبة . قلت وهو إما مجاز مرسل أو كناية ، فإن أطلقت ثم وأريد منها لازم التراخي وهو البعد التعظيمي كما أريد التعظيم من اسم الإشارة الموضوع للبعيد ، والعلاقة وإن كانت بعيدة إلا أنها لشهرتها في كلامهم واستعمالهم ومع القرائن لم يكن هذا الاستعمال مردودا .

واعلم أني تتبعت هذا الاستعمال في مواضعه فرأيته أكثر ما يرد فيما إذا كانت الجمل إخبارا عن مخبر عنه واحد ، بخلاف ما إذا اختلف المخبر عنه فإن ثم تتعين للمهلة الزمنية كقوله تعالى وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم إلى قوله ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم [ ص: 384 ] أي بعد أن أخذنا الميثاق بأزمان صرتم تقتلون أنفسكم ، ونحو قولك : مرت كتيبة الأنصار ثم مرت كتيبة المهاجرين .

فأما هذه الآية فإنه إذا كانت السماوات متأخرا خلقها عن خلق الأرض فثم للتراخي الرتبي لا محالة مع التراخي الزمني ، وإن كان خلق السماوات سابقا فثم للترتيب الرتبي لا غير . والظاهر هو الثاني . وقد جرى اختلاف بين علماء السلف في مقتضى الأخبار الواردة في خلق السماوات والأرض فقال الجمهور منهم مجاهد والحسن ونسب إلى ابن عباس إن خلق الأرض متقدم على خلق السماء لقوله تعالى هنا ثم استوى إلى السماء وقوله في سورة حم السجدة قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين إلى أن قال ثم استوى إلى السماء وهي دخان وقال قتادة والسدي ومقاتل : إن خلق السماء متقدم واحتجوا بقوله تعالى بناها رفع سمكها فسواها إلى قوله والأرض بعد ذلك دحاها وقد أجيب بأن الأرض خلقت أولا ثم خلقت السماء ثم دحيت الأرض ، فالمتأخر عن خلق السماء هو دحو الأرض ، على ما ذهب إليه علماء طبقات الأرض من أن الأرض كانت في غاية الحرارة ثم أخذت تبرد حتى جمدت وتكونت منها قشرة جامدة ثم تشققت وتفجرت وهبطت منها أقسام وعلت أقسام بالضغط ، إلا أن علماء طبقات الأرض يقدرون لحصول ذلك أزمنة متناهية الطول ، وقدرة الله صالحة لإحداث ما يحصل به ذلك التقلب في أمد قليل بمقارنة حوادث تعجل انقلاب المخلوقات عما هي عليه .

وأرجح القولين هو أن السماء خلقت قبل الأرض لأن لفظ بعد ذلك أظهر في إفادة التأخر من قوله ثم استوى إلى السماء ولأن أنظار علماء الهيئة ترى أن الأرض كرة انفصلت عن الشمس كبقية الكواكب السيارة من النظام الشمسي ، وظاهر سفر التكوين يقتضي أن خلق السماوات متقدم على الأرض . وأحسب أن سلوك القرآن في هذه الآيات أسلوب الإجمال في هذا الغرض لقطع الخصومة بين أصحاب النظريتين .

والسماء إن أريد بها الجو المحيط بالكرة الأرضية فهو تابع لها متأخر عن خلقها . وإن أريد بها الكواكب العلوية وذلك هو المناسب لقوله فسواهن سبع سماوات فالكواكب أعظم من الأرض فتكون أسبق خلقا . وقد يكون كل من الاحتمالين ملاحظا في مواضع من القرآن غير الملاحظ فيها الاحتمال الآخر .

[ ص: 385 ] والاستواء أصله الاستقامة وعدم الاعوجاج ، يقال صراط مستو ، واستوى فلان وفلان ، واستوى الشيء مطاوع سواه ، ويطلق مجازا على القصد إلى الشيء بعزم وسرعة كأنه يسير إليه مستويا لا يلوي على شيء فيعدى بإلى فتكون إلى قرينة المجاز وهو تمثيل ، فمعنى استواء الله تعالى إلى السماء تعلق إرادته التنجيزي بإيجادها تعلقا يشبه الاستواء في التهيؤ للعمل العظيم المتقن . ووزن استوى افتعل لأن السين فيه حرف أصلي وهو افتعال مجازي وفيه إشارة إلى أنه لما ابتدأ خلق المخلوقات خلق السماوات ومن فيها ليكون توطئة لخلق الأرض ثم خلق الإنسان وهو الذي سيقت القصة لأجله .

و ( سواهن ) أي خلقهن في استقامة ، واستقامة الخلق هي انتظامه على وجه لا خلل فيه ولا ثلم . وبين استوى وسواهن الجناس المحرف . والسماء مشتقة من السمو وهو العلو ، واسم السماء يطلق على الواحد وعلى الجنس من العوالم العليا التي هي فوق العالم الأرضي والمراد به هنا الجنس بقرينة قوله فسواهن سبع سماوات إذ جعلها سبعا ، والضمير في قوله فسواهن عائد إلى السماء باعتبار إرادة الجنس لأنه في معنى الجمع . وجوز صاحب الكشاف أن يكون المراد من السماء هنا جهة العلو وهو وإن صح لكنه لا داعي إليه كما قاله التفتزاني .

وقد عد الله تعالى في هذه الآية وغيرها السماوات سبعا وهو أعلم بها وبالمراد منها إلا أن الظاهر الذي دلت عليه القواعد العلمية أن المراد من السماوات الأجرام العلوية العظيمة وهي الكواكب السيارة المنتظمة مع الأرض في النظام الشمسي ، ويدل لذلك أمور :

أحدها : أن السماوات ذكرت في غالب مواضع القرآن مع ذكر الأرض وذكر خلقها هنا مع ذكر خلق الأرض فدل على أنها عوالم كالعالم الأرضي ، وهذا ثابت للسيارات .

ثانيها : أنها ذكرت مع الأرض من حيث إنها أدلة على بديع صنع الله تعالى ، فناسب أن يكون تفسيرها تلك الأجرام المشاهدة للناس المعروفة للأمم الدال نظام سيرها وباهر نورها على عظمة خالقها . ثالثها : أنها وصفت بالسبع وقد كان علماء الهيئة يعرفون السيارات السبع من عهد الكلدان ، وتعاقب علماء الهيئة من ذلك العهد إلى العهد الذي نزل فيه القرآن فما اختلفوا في أنها سبع . رابعها : أن هاته السيارات هي الكواكب المنضبط سيرها بنظام مرتبط مع نظام سير الشمس والأرض ، ولذلك يعبر عنها علماء الهيئة المتأخرون بالنظام الشمسي ، فناسب أن تكون هي [ ص: 386 ] التي قرن خلقها بخلق الأرض . وبعضهم يفسر السماوات بالأفلاك وهو تفسير لا يصح لأن الأفلاك هي الطرق التي تسلكها الكواكب السيارة في الفضاء ، وهي خطوط فرضية لا ذوات لها في الخارج .

هذا وقد ذكر الله تعالى السماوات سبعا هنا وفي غير آية ، وقد ذكر العرش والكرسي بما يدل على أنهما محيطان بالسماوات وجعل السماوات كلها في مقابلة الأرض ، وذلك يؤيد ما ذهب إليه علماء الهيئة من عد الكواكب السيارة تسعة ، وهذه أسماؤها على الترتيب في بعدها من الأرض : نبتون ، أورانوس ، زحل ، المشتري ، المريخ ، الشمس ، الزهرة ، عطارد ، بلكان .

والأرض في اصطلاحهم كوكب سيار ، وفي اصطلاح القرآن لم تعد معها لأنها التي منها تنظر الكواكب وعد عوضا عنها القمر وهو من توابع الأرض فعده منها عوض عن عد الأرض تقريبا لأفهام السامعين . وأما الثوابت فهي عند علماء الهيئة شموس سابحة في شاسع الأبعاد عن الأرض وفي ذلك شكوك . ولعل الله لم يجعلها سماوات ذات نظام كنظام السيارات السبع فلم يعدها في السماوات أو أن الله إنما عد لنا السماوات التي هي مرتبطة بنظام أرضنا .

وقوله وهو بكل شيء عليم نتيجة لما ذكره من دلائل القدرة التي لا تصدر إلا من عليم ، فلذلك قال المتكلمون : إن القدرة يجري تعلقها على وفق الإرادة . والإرادة على وفق العلم .

وفيه تعريض بالإنكار على كفرهم والتعجيب منه ، فإن العليم بكل شيء يقبح الكفر به .

وهذه الآية دليل على عموم العلم ، وقد قال بذلك جميع المليين كما نقله المحقق السلكوتي في الرسالة الخاقانية ، وأنكر الفلاسفة علمه بالجزيئات وزعموا أن تعلق العلم بالجزيئات لا يليق بالعلم الإلهي ، وهو توهم لا داعي إليه .

[ ص: 387 ] وقرأ الجمهور هاء ( وهو ) بالضم على الأصل ، وقرأها قالون وأبو عمرو والكسائي وأبو جعفر بالسكون للتخفيف عند دخول حرف العطف عليه ، والسكون أكثر من الضم في كلامهم ، وذلك مع الواو والفاء ولام الابتداء ، ووجهه أن الحروف التي هي على حرف واحد إذا دخلت على الكلمة تنزلت منزلة الجزء منها فصارت الكلمة ثقيلة بدخول ذلك الحرف فيها فخففت بالسكون كما فعلوا ذلك في حركة لام الأمر مع الواو والفاء ، ومما يدل على أن أفصح لغات العرب إسكان الهاء من ( هو ) إذا دخل عليه حرف أنك تجده في الشعر فلا يتزن البيت إلا بقراءة الهاء ساكنة ولا تكاد تجد غير ذلك بحيث لا يمكن دعوى أنه ضرورة .

التالي السابق


الخدمات العلمية