الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) أي : [ ص: 480 ] يقول كل منا : لعن الله الكاذب منا في أمر عيسى ، وفي هذا دليل على جواز اللعن لمن أقام على كفره ، وقد لعن - صلى الله عليه وسلم - اليهود . قال أبو بكر الرازي : وفي الآية دليل على أن الحسن والحسين ابنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم . وقال أبو أحمد بن عيلان : كانا إذ ذاك مكلفين ; لأن المباهلة عنده لا تصح إلا من مكلف . وقد طول المفسرون بما رووا في قصة المباهلة ، ومضمنها أنه دعاهم إلى المباهلة ، وخرج ب الحسن والحسين ، و فاطمة و علي ، إلى الميعاد ، وأنهم كفوا عن ذلك ، ورضوا بالإقامة على دينهم وأن يؤدوا الجزية ، وأخبرهم أحبارهم أنهم إن باهلوا عذبوا ، وأخبر هو - صلى الله عليه وسلم - أنهم إن باهلوا عذبوا ، وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بنبوته شاهد عظيم على صحة نبوته .

قال الزمخشري : فإن قلت : ما كان دعاؤه إلى المباهلة ، إلا لتبيين الكاذب منه ، ومن خصمه ، وذلك أمر يختص به ، وبمن يكاذبه ، فما معنى ضم الأبناء والنساء ؟ .

قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله ، واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض نفسه له ، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته ، هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة . وخص الأبناء والنساء ; لأنهم أعز الأهل ، وألصقهم بالقلوب . وربما فداهم الرجل بنفسه ، وحارب دونهم حتى يقتل ، ومن ثم كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ، ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق ، وقدمهم في الذكر على الأنفس ; لينبه على لطف مكانهم ، وقرب منزلتهم ، وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس يفدون بها ، وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء ، عليهم السلام ، وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم ، لأنه لم ير واحد من موافق ، ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك انتهى كلامه .

وقال ابن عطية : وما رواه الرواة من أنهم تركوا الملاعنة لعلمهم بنبوته أحج لنا على سائر الكفرة ، وأليق بحال محمد - صلى الله عليه وسلم - ودعاء النساء والأبناء للملاعنة أهز للنفوس ، وأدعى لرحمة الله أو لغضبه على المبطلين ، وظاهر الأمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءهم بما يخصه ، ولو عزموا استدعى المؤمنين بأبنائهم ، ونسائهم ، ويحتمل أنه كان يكتفي بنفسه ، وخاصته فقط انتهى .

وفي الآية دليل على المظاهرة بطريق الإعجاز على من يدعي الباطل بعد وضوح البرهان بطريق القياس ، ومن أغرب الاستدلال ما استدل به من الآية محمد بن علي الحمصي ، وكان متكلما على طريق الإثنى عشرية . على أن عليا أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد - صلى الله عليه وسلم . قال : وذلك أن قوله تعالى : ( وأنفسنا وأنفسكم ) ليس المراد نفس محمد - صلى الله عليه [ ص: 481 ] وسلم ; لأن الإنسان لا يدعو نفسه ، بل المراد غيره . وأجمعوا على أن الذي هو غيره : علي ، فدلت الآية على أن نفسه نفس الرسول ، ولا يمكن أن يكون عينها ، فالمراد مثلها ، وذلك يقتضي العموم إلا أنه ترك في حق النبوة الفضل ; لقيام الدليل ، ودل الإجماع على أنه كان - صلى الله عليه وسلم - أفضل من سائر الأنبياء ، فلزم أن يكون علي كذلك .

قال : ويؤكد ذلك الحديث المنقول عنه من الموافق والمخالف : " من أراد أن يرى آدم في علمه ، و نوحا في طاعته ، و إبراهيم في حلمه ، و موسى في قومه ، و عيسى في صفوته ، فلينظر إلى علي بن أبي طالب " . فيدل ذلك على أنه اجتمع فيه ما كان متفرقا فيهم .

قال : وذلك يدل على أنه أفضل من جميع الأنبياء والصحابة . وأجاب الرازي : بأن الإجماع منعقد على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل ممن ليس بنبي ، وعلي لم يكن نبيا ، فلزم القطع بأنه مخصوص في حق جميع الأنبياء .

وقال الرازي : استدلال الحمصي فاسد من وجوه : منها قوله : إن الإنسان لا يدعو نفسه ، بل يجوز للإنسان أن يدعو نفسه ، تقول العرب : دعوت نفسي إلى كذا فلم تجبني ، وهذا يسميه أبو علي بالتجريد .

ومنها قوله : وأجمعوا على أن الذي هو غيره هو علي ، ليس بصحيح ، بدليل الأقوال التي سيقت في المعنى بقوله : وأنفسنا .

ومنها قوله : فيكون نفسه مثل نفسه ، ولا يلزم من المماثلة أن تكون في جميع الأشياء ، بل تكفي المماثلة في شيء ما ، هذا الذي عليه أهل اللغة ، لا الذي يقوله المتكلمون : من أن المماثلة تكون في جميع صفات النفس ، هذا اصطلاح منهم لا لغة . فعلى هذا تكفي المماثلة في صفة واحدة ، وهي كونه من بني هاشم ، والعرب تقول : هذا من أنفسنا ، أي : من قبيلتنا . وأما الحديث الذي استدل به فموضوع لا أصل له . وهذه النزغة التي ذهب إليها هذا الحمصي من كون علي أفضل من الأنبياء - عليهم السلام - سوى محمد - صلى الله عليه وسلم - وتلقفها بعض من ينتحل كلام الصوفية ، ووسع المجال فيها ، فزعم أن الولي أفضل من النبي ، ولم يقصر ذلك على ولي واحد ، كما قصر ذلك الحمصي ، بل زعم أن رتبة الولاية التي لا نبوة معها أفضل من رتبة النبوة . قال : لأن الولي يأخذ عن الله بغير واسطة والنبي يأخذ عن الله بواسطة ، ومن أخذ بلا واسطة أفضل ممن أخذ بواسطة . وهذه المقالة مخالفة لمقالات أهل الإسلام . نعوذ بالله من ذلك ، ولا أحد أكذب ممن يدعي أن الولي يأخذ عن الله بغير واسطة ، لقد يقشعر المؤمن من سماع هذا الافتراء ، وحكى لي من لا أتهمه عن بعض المنتمين ، إلى أنه من أهل الصلاح ، أنه رؤي في يده كتاب ينظر فيه ، فسئل عنه . فقال : فيه ما أخذته عن رسول الله ، وفيه ما أخذته عن الله شفاها أو شافهني به ، الشك من السامع . فانظر إلى جراءة هذا الكاذب على الله حيث ادعى مقام من كلمه الله كموسى و محمد عليهما - الصلاة والسلام - وعلى سائر الأنبياء .

قيل : وفي هذه الآية ضروب من البلاغة : منها إسناد الفعل إلى غير فاعله ، وهو : ( إذ قال الله ياعيسى ) والله لم يشافهه بذلك ، بل بإخبار جبريل أو غيره من الملائكة . والاستعارة في : ( متوفيك ) وفي : ( فوق الذين كفروا ) والتفصيل لما أجمل في : ( إلي مرجعكم فأحكم ) بقوله : فأما ، وأما ، والزيادة لزيادة المعنى في ( من ناصرين ) أو : المثل في قوله ( إن مثل عيسى ) . والتجوز بوضع المضارع موضع الماضي في قوله ( نتلوه ) وفي ( فيكون ) وبالجمع بين أداتي تشبيه على قول في ( كمثل آدم ) وبالتجوز بتسمية الشيء ، باسم أصله في ( خلقه من تراب ) . وخطاب العين ، والمراد به غيره ، في ( فلا تكن من الممترين ) . والعام يراد به الخاص في ( ندع أبناءنا ) الآية ، والتجوز بإقامة ابن العم مقام النفس على أشهر الأقوال ، والحذف في مواضع كثيرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية