الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
و " من حيث " متعلق بـ " أفيضوا " ، و " من " لابتداء الغاية ، و " حيث " هنا على أصلها من كونها ظرف مكان ، وقال القفال : " من حيث أفاض الناس " ، عبارة عن زمان الإفاضة من عرفة ، ولا حاجة إلى إخراج حيث عن موضوعها الأصلي ، وكأنه رام أن يغاير بذلك بين الإفاضتين : لأن الأولى في المكان ، والثانية في الزمان ، ولا تغاير لأن كلا منهما يقتضي الآخر ويدل عليه ، فهما متلازمان . أعني : مكان الإفاضة من عرفات وزمانها . فلا يحصل بذلك جواب عن مجيء العطف بـ " ثم " .

و " الناس " ظاهره العموم في المفيضين ، ومعناه أنه الأمر القديم الذي عليه الناس ، كما تقول : هذا مما يفعله الناس ، أي [ ص: 100 ] عادتهم ذلك ، وقيل : الناس أهل اليمن وربيعة ، وقيل : جميع العرب دون الحمس ، وقيل : الناس إبراهيم ومن أفاض معه من أبنائه والمؤمنين به ، وقيل : إبراهيم وحده ، وقيل : آدم وحده ، وهو قول الزهري : لأنه أبو الناس وهم أولاده وأتباعه ، والعرب تخاطب الرجل العظيم الذي له أتباع مخاطبة الجمع ، وكذلك من له صفات كثيرة ، ومنه قوله :


فأنت الناس إذ فيك الذي قد حواه الناس من وصف جميل



ويؤيده قراءة ابن جبير : " من حيث أفاض الناسي " ، بالياء من قوله : ( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ) ، وإطلاق الناس على واحد من الناس هو خلاف الأصل ، وقد رجح هذا بأن قوله : ( من حيث أفاض الناس ) ، هو فعل ماض يدل على فاعل متقدم ، والإفاضة إنما صدرت من آدم وإبراهيم ، ولا يلزم هذا الترجيح : لأن " حيث " إذا أضيفت إلى جملة مصدرة بماض جاز أن يراد بالماضي حقيقته ، كقوله تعالى : ( فأتوهن من حيث أمركم الله ) . وتارة يراد به المستقبل ، كقوله تعالى : ( ومن حيث خرجت فول وجهك ) ، وهذا معروف في حيث ، فلا يلزم ما ذكره . وعلى تسليم أنه فعل ماض ، وأنه يدل على فاعل متقدم لا يلزم من ذلك أن يكون فاعله واحدا : لأنه قبل صدور هذا الأمر بالإفاضة كان إما جميع من أفاض قبل تغيير قريش ذلك ، وإما غير قريش بعد تغييرهم من سائر من حج من العرب ، فالأولى حمل الناس على جنس المفيضين العام ، أو على جنسهم الخاص . وقد رجح قول من قال بأنهم أهل اليمن وربيعة بحج أبي بكر بالناس ، حين أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وأمره أن يخرج بالناس إلى عرفات فيقف بها ، فإذا غربت الشمس أفاض بالناس حتى يأتي بهم جمعا فيبيت بها ، فتوجه أبو بكر إلى عرفات ، فمر بالحمس وهم وقوف بجمع ، فلما ذهب ليجاوزهم قالت له الحمس : يا أبا بكر ! أين تجاوزنا إلى غيرنا ؟ هذا موقف آبائك ، فمضى أبو بكر كما أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى عرفات ، وبها أهل اليمن وربيعة . وهذا تأويل قوله : ( من حيث أفاض الناس ) ، فوقف بها حتى غربت الشمس ، ثم أفاض بالناس إلى المشعر الحرام فوقف بها ، فلما كان عند طلوع الشمس أفاض منه .

وقراءة ابن جبير : " من حيث أفاض الناسي " ، بالياء ، قراءة شاذة ، وفيها تنبيه على أن الإفاضة من عرفات شرع قديم ، وفيها تذكير يذكر عهد الله وأن لا ينسى ، وقد ذكرنا أنه يؤول على أن المراد بالناسي آدم عليه السلام ، ويحتمل أن يكون الناسي في قراءة سعيد معناه التارك ، أي : للوقوف بمزدلفة أولا ، ويكون يراد به الجنس ، إذ الناسي يراد به التارك للشيء ، فكأن المعنى ، والله أعلم : أنهم أمروا بأن يفيضوا من الجهة التي يفيض منها من ترك الإفاضة من المزدلفة وأفاض من عرفات ، ويكون الناسي يراد به الجنس ، فيكون موافقا من حيث المعنى لقراءة الجمهور : لأن الناس الذين أمرنا بالإفاضة من حيث أفاضوا ، هم التاركون للوقوف بمزدلفة ، والجاعلون الإفاضة من عرفات على سنن من سن الحج ، وهو إبراهيم - عليه السلام - بخلاف قريش ، فإنهم جعلوا الإفاضة من المزدلفة ، ولم يكونوا ليقفوا بعرفات فيفيضوا منها . قال ابن عطية : ويجوز عند بعضهم حذف الياء ، فيقول الناس ، كالقاض والهاد ، قال : أما جوازه في العربية فذكره سيبويه ، وأما كون جوازه مقروءا به فلا أحفظه ، انتهى كلامه .

فقوله أما جوازه في العربية فذكره سيبويه ، ظاهر كلام ابن عطية أن ذلك جائز مطلقا ، ولم يجزه سيبويه إلا في الشعر ، وأجازه الفراء في الكلام . [ ص: 101 ] وأما قوله : وأما جوازه مقروءا به فلا أحفظه ، فكونه لا يحفظه قد حفظه غيره . قال أبو العباس المهدوي : " أفاض الناسي " بسعيد بن جبير ، وعنه أيضا : الناس بالكسر من غير ياء . انتهى قول أبي العباس المهدوي .

( واستغفروا الله ) ، أمرهم بالاستغفار في مواطن مظنة القبول ، وأماكن الرحمة ، وهو طلب الغفران من الله باللسان مع التوبة بالقلب ، إذ الاستغفار باللسان دون التوبة بالقلب غير نافع ، وأمروا بالاستغفار وإن كان فيهم من لم يذنب ، كمن بلغ قبيل الإحرام ولم يقارف ذنبا وأحرم ، فيكون الاستغفار من مثل هذا : لأجل أنه ربما صدر منه تقصير في أداء الواجبات والاحتراز من المحظورات ، وظاهر هذا الأمر أنه ليس طلب غفران من ذنب خاص ، بل طلب غفران الذنوب ، وقيل : إنه أمر بطلب غفران خاص ، والتقدير : واستغفروا الله مما كان من مخالفتكم في الوقوف والإفاضة ، فإنه غفور لكم ، رحيم فيما فرطتم فيه في حلكم وإحرامكم ، وفي سفركم ومقامكم .

وفي الأمر بالاستغفار عقب الإفاضة أو معها دليل على أن ذلك الوقت ، وذلك المكان المفاض منه ، والمذهوب إليه من أزمان الإجابة وأماكنها ، والرحمة والمغفرة .

وقد روي أنه - صلى الله عليه وسلم - خطب عشية عرفة فقال : " أيها الناس إن الله تعالى تطاول عليكم في مقامكم ، فقبل من محسنكم ووهب مسيئكم لمحسنكم ، إلا التبعات فيما بينكم ، فامضوا على اسم الله " ، فلما كان غداة جمع خطب فقال : " أيها الناس إن الله قد تطاول عليكم ، فعوض التبعات من عنده " . وأخرج أبو عمرو بن عبد البر في ( التمهيد ) ثلاثة أحاديث تدل على أن الله تعالى يباهي بحجاج بيته ملائكته ، وأنه يغفر لهم ما سلف من ذنوبهم ، وأنه ضمن عنهم التبعات .

و " استغفر " يتعدى لاثنين ، الثاني منهما بحرف الجر ، وهو من فعول ، استغفرت الله من الذنب ، وهو الأصل ، ويجوز أن تحذف من ، كما قال الشاعر :


أستغفر الله ذنبا لست محصيه     رب العباد إليه الوجه والعمل



تقديره : من ذنب ، وذهب أبو الحسن بن الطراوة إلى أن " استغفر " يتعدى بنفسها إلى مفعولين صريحين ، وأن قولهم استغفر الله من الذنب ، إنما جاء على سبيل التضمين ، كأنه قال تبت إلى الله من الذنب ، وهو محجوج بقول سيبويه ، ونقله عن العرب ، وذلك مذكور في علم النحو ، وحذف هنا المفعول الثاني للعلم به ، ولم يجئ في القرآن مثبتا ، لا مجرورا بمن ولا منصوبا ، بخلاف غفر ، فإنه تارة جاء [ ص: 102 ] في القرآن مذكورا مفعوله ، كقوله : ( ومن يغفر الذنوب إلا الله ) ، وتارة محذوفا ، كقوله تعالى : ( يغفر لمن يشاء ) ، وجاء استغفر أيضا ، معدى باللام ، كما قال تعالى : ( فاستغفروا لذنوبهم ) ، ( واستغفر لذنبك ) ، وكأن هذه اللام - والله أعلم - لام العلة ، وأن ما دخلت عليه مفعول من أجله ، واستفعل هنا للطلب ، كاستوهب واستطعم واستعان ، وهو أحد المعاني التي جاء لها استفعل ، وقد ذكرنا ذلك في قوله : ( وإياك نستعين ) .

( إن الله غفور رحيم ) ، هذا كالسبب في الأمر بالاستغفار ، وهو أنه تعالى كثير الغفران ، كثير الرحمة ، وهاتان الصفتان للمبالغة ، وأكثر بناء فعول من فعل ، نحو غفور ، وصفوح ، وصبور ، وشكور ، وضروب ، وقتول ، وتروك ، وهجوم ، وعلوك ، وأكثر بناء فعيل من فعل بكسر العين نحو رحيم ، وعليم ، وحفيظ ، وسميع ، وقد يتعارضان . قالوا : رقب فهو رقيب ، وقدر فهو قدير ، وجهل فهو جهول . وقد تقدم الكلام على نحو هذه الجمل ، أعني : أن يكون آخر الكلام ذكر اسم الله ، ثم يعاد بلفظه بعد " إن " ، والأولى أن يطلق الغفران والرحمة ، وأن ذلك من شأنه تعالى . وقيل : إن المغفرة الموعودة في الآية هي عند الدفع من عرفات ، وقيل : إنها عند الدفع من جمع إلى منى ، والأولى ما قدمناه .

( فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ) ، وسبب نزولها أنهم كانوا إذا اجتمعوا في الموسم تفاخروا بآبائهم ، فيقول أحدهم : كان يقري الضيف ، ويضرب بالسيف ، ويطعم الطعام ، وينحر الجزور ، ويفك العاني ، ويجز النواصي ، ويفعل كذا وكذا . فنزلت .

وقال الحسن : كانوا إذا حدثوا أقسموا بالآباء ، فيقولون : وأبيك ، فنزلت . وقال السدي : كانوا إذا قضوا المناسك وأقاموا بمنى يقوم الرجل ويسأل الله ، فيقول : اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة ، كثير المال فأعطني بمثل ذلك ليس يذكر الله ، إنما يذكر أباه ، ويسأل الله أن يعطيه في دنياه ، وقال معناه ، أبو وائل ، وابن زيد ، فنزلت " فإذا قضيتم " ، أي أديتم وفرغتم ، كقوله : ( فإذا قضيت الصلاة ) ، أي : أديت ، وقد يعبر بالقضاء عن ما يفعل من العبادات خارج الوقت المحدود ، والقضاء إذا علق على فعل النفس ، فالمراد منه الإتمام والفراغ ، كقوله وما فاتكم فاقضوا ، وإذا علق على فعل غيره ، فالمراد منه الإلزام ، كقوله : قضى الحاكم بينهما ، والمراد من الآية الفراغ . وقال بعض المفسرين : يحتمل أن يكون هذا الشرط والجزاء ، كقولك : إذا حججت فطف وقف بعرفة ، [ ص: 103 ] فلا نعني بالقضاء الفراغ من الحج ، بل الدخول فيه ، ونعني بالذكر ما أمروا به من الدعاء بعرفات ، والمشعر الحرام ، والطواف والسعي ، فيكون المعنى : فإذا شرعتم في قضاء المناسك ، أي : في أدائها فاذكروا . وهذا خلاف الظاهر : لأن الظاهر الفراغ من المناسك لا الشروع فيها ، ويؤيد ذلك مجيء الفاء في " فإذا " بعد الجمل السابقة .

والمناسك : هي مواضع العبادة ، فيكون هذا على حذف مضاف ، أي : أعمال مناسككم . أو العبادات نفسها المأمور بها في الحج ، قاله الحسن ، أو الذبايح وإراقة الدماء ، قاله مجاهد .

" فاذكروا الله " هذا جواب " إذا " ، والمعنى : إذا فرغتم من الوقوف بعرفة ، ونفرتم من منى ، فعظموا الله وأثنوا عليه إذ هداكم لهذه الطاعة ، وسهلها ويسرها عليكم ، حتى أديتم فرض ربكم وتخلصتم من عهدة هذا الأمر الشاق الصعب الذي لا يبلغ إلا بالتعب الكثير ، وانهماك النفس والمال ، وقيل : الذكر هنا هو ذكر الله على الذبيحة ، وقيل : هو التكبيرات بعد الصلاة في يوم النحر وأيام التشريق ، وقيل : بل المقصود تحويلهم عن ذكر آبائهم إلى ذكره تعالى " كذكركم آباءكم " تقدم . هذا هو ذكر مفاخرهم ، أو السؤال من الله أن يعطيهم مثل ما أعطى آباءهم ، أو القسم بآبائهم ، وقيل : ذكر آبائهم في حال الصغر ، ولهجه بأبيه يقول : أبة أبة ، أول ما يتكلم . وقيل : معنى الذكر هنا الغضب لله كما تغضب لوالديك إذا سبا ، قاله أبو الجوزاء ، عن ابن عباس . ونقل ابن عطية أن محمد بن كعب القرظي قرأ : " كذكركم آباؤكم " ، برفع الآباء ، ونقل غيره عن محمد بن كعب أنه قرأ : أباكم ، على الإفراد ، ووجه الرفع أنه فاعل بالمصدر ، والمصدر مضاف إلى المفعول ، التقدير : كما يذكركم آباؤكم . والمعنى : ابتهلوا بذكر الله والهجوا به كما يلهج المرء بذكر ابنه .

ووجه الإفراد أنه استغني به عن الجمع ؛ لأنه يفهم الجمع من الإضافة إلى الجمع : لأنه معلوم أن المخاطبين ليس لهم أب واحد ، بل آباء .

و " أو " هنا قيل : للتخيير ، وقيل : للإباحة ، وقيل : بمعنى بل أشد ، جوزوا في إعرابه وجوها اضطروا إليها : لاعتقادهم أن " ذكرا " بعد " أشد " تمييزا بعد أفعل التفضيل ، فلا يمكن إقراره تمييزا إلا بهذه التقادير التي قدروها ، ووجه إشكال كونه تمييزا أن أفعل التفضيل إذا انتصب ما بعده ، فإنه يكون غير الذي قبله ، تقول : زيد أحسن وجها ؛ لأن الوجه ليس زيدا ، فإذا كان من جنس ما قبله انخفض نحو : زيد أفضل رجل . فعلى هذا يكون التركيب في مثل : اضرب زيدا كضرب عمرو خالدا أو أشد ضرب ، بالجر لا بالنصب ؛ لأن ما بعد أفعل التفضيل من جنس ما قبله ، فجوزوا إذ ذاك النصب على وجوه .

أحدها : أن يكون معطوفا على موضع الكاف في " ذكركم " ؛ لأنها عندهم نعت لمصدر محذوف ، أي : ذكرا كذكركم آباءكم أو أشد ، وجعلوا الذكر ذاكرا على جهة المجاز ، كما قالوا : شعر شاعر ، قاله أبو علي وابن جني .

الثاني : أن يكون معطوفا على آبائكم ، قاله الزمخشري ، قال : بمعنى أو أشد ذكرا من آبائكم ، على أن ذكرا من فعل المذكور ، انتهى . وهو كلام قلق ، ومعناه : أنك إذا عطفت أشد على آبائكم كان التقدير : أو قوما أشد ذكرا من آبائكم ، فكان القوم مذكورين ، والذكر الذي هو تمييز بعد " أشد " هو من فعلهم ، أي من فعل القوم المذكورين : لأنه جاء بعد أفعل الذي هو صفة للقوم ، ومعنى قوله " من آبائكم " أي : من ذكركم لآبائكم .

الثالث : أنه منصوب بإضمار فعل الكون ، والكلام محمول على المعنى . التقدير : أو كونوا أشد ذكرا له منكم لآبائكم . ودل عليه أن معنى : " فاذكروا الله " : كونوا ذاكريه . قال أبو البقاء : قال : وهذا أسهل من حمله على المجاز ، يعني في أن يجعل للذكر ذكر في قول أبي علي وابن جني .

وجوزوا الجر في أشد على وجهين . أحدهما : أن يكون معطوفا على " ذكركم " . قاله الزجاج ، وابن عطية ، وغيرهما . فيكون التقدير : أو كذكر أشد ذكرا ، فيكون إذ ذاك قد جعل للذكر ذكر . الثاني : أن يكون معطوفا على الضمير المجرور [ ص: 104 ] بالمصدر في " كذكركم " . قاله الزمخشري . قال ما نصه : أو أشد ذكرا في موضع جر ، عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله " كذكركم " ، كما تقول : كذكر قريش آباءهم أو قوم أشد منهم ذكرا ، وفي قول الزمخشري : العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار ، فهي خمسة وجوه من الإعراب كلها ضعيف ، والذي يتبادر إليه الذهن في الآية أنهم أمروا بأن يذكروا الله ذكرا يماثل آبائهم أو أشد ، وقد ساغ لنا حمل الآية على هذا المعنى بتوجيه واضح ذهلوا عنه ، وهو أن يكون " أشد " منصوبا على الحال ، وهو نعت لقوله : " ذكرا " لو تأخر ، فلما تقدم انتصب على الحال ، كقولهم : لمية موحشا طلل فلو تأخر لكان : لمية طلل موحش ، وكذلك لو تأخر هذا لكان : أو ذكرا أشد ، يعني : من ذكركم آباءكم ، ويكون إذ ذاك : أو ذكرا أشد ، معطوفا على محل الكاف من " كذكركم " ، ويجوز أن يكون ذكرا مصدرا لقوله : فاذكروا كذكركم ، في موضع الحال : لأنه في التقدير : نعت نكرة تقدم عليهما فانتصب على الحال ، ويكون " أو أشد " معطوفا على محل الكاف حالا معطوفة على حال ، ويصير كقوله : أضرب مثل ضرب فلان ضربا ، التقدير ضربا مثل ضرب فلان ، فلما تقدم انتصب على الحال ، وحسن تأخره أنه كالفاصلة في جنس المقطع . ولو تقدم لكان : فاذكروا ذكرا كذكركم ، فكان اللفظ يتكرر ، وهم مما يجتنبون كثرة التكرار للفظ ، فلهذا المعنى ، ولحسن القطع تأخر .

لا يقال في الوجه الأول أنه يلزم فيه الفصل بين حرف العطف وهو " أو " وبين المعطوف الذي هو " ذكرا " بالحال الذي هو " أشد " ، وقد نصوا على أنه إذا جاز ذلك فشرطه أن يكون المفصول به قسما أو ظرفا أو مجرورا ، وأن يكون حرف العطف على أزيد من حرف ، وقد وجد هذا الشرط الآخر ، وهو كون الحرف على أزيد من حرف ، وفقد الشرط الأول : لأن المفصول به ليس بقسم ولا ظرف ولا مجرور ، بل هو حال : لأن الحال هي مفعول فيها في المعنى ، فهي شبيهة بالحرف ، فيجوز فيها ما جاز في الظرف . وهذا أولى من جعل " ذكرا " تمييزا لأفعل التفضيل الذي هو وصف في المعنى ، فيكون للذكر ذكر بأن ينصبه على محل الكاف ، أو يجره عطفا على ذكر المجرور بالكاف ، أو الذي هو وصف في المعنى للذكر بأن ينصبه بإضمار فعل أي : كونوا أشد ، أو للذاكر الذكر ، وبأن ينصبه عطفا على " آباءكم " ، أو للذكر الفاعل بأن يجره عطفا على المضاف إليه الذكر ، ولا يخفى ما في هذه الأوجه من الضعف ، فينبغي أن ينزه القرآن عنها .

التالي السابق


الخدمات العلمية