الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      مسألة

                                                                                                                                                                                                                                      الأكثر على أنه لا يمتنع عقلا على الأنبياء معصية . وخالف الروافض ، وخالف المعتزلة إلا في الصغائر . ومعتمدهم التقبيح العقلي . والإجماع على عصمتهم بعد الرسالة من تعمد الكذب في الأحكام . لدلالة المعجزة على الصدق . وجوزه القاضي غلطا وقال : دلت على الصدق اعتقادا . وأما غيره من المعاصي فالإجماع على عصمتهم من الكبائر ، والصغائر الخسيسة . والأكثر على جواز غيرهما ا ه منه بلفظه .

                                                                                                                                                                                                                                      وحاصل كلامه : عصمتهم من الكبائر ، ومن صغائر الخسة دون غيرها من الصغائر .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 118 ] وقال العلامة العلوي الشنقيطي في ( نشر البنود شرح مراقي السعود ) في الكلام على قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      والأنبياء عصموا مما نهوا عنه ولم يكن لهم تفكه     بجائز بل ذاك للتشريع
                                                                                                                                                                                                                                      أو نية الزلفى من الرفيع



                                                                                                                                                                                                                                      ما نصه : فقد أجمع أهل الملل ، والشرائع كلها على وجوب عصمتهم من تعمد الكذب فيما دل المعجز القاطع على صدقهم فيه . كدعوى الرسالة ، وما يبلغونه عن الله تعالى للخلائق . وصدور الكذب عنهم فيما ذكر سهوا أو نسيانا منعه الأكثرون وما سوى الكذب في التبليغ . فإن كان كفرا فقد أجمعت الأمة على عصمتهم منه قبل النبوة وبعدها ، وإن كان غيره فالجمهور على عصمتهم من الكبائر عمدا . ومخالف الجمهور الحشوية .

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف أهل الحق : هل المانع لوقوع الكبائر منهم عمدا العقل أو السمع ؟ وأما المعتزلة فالعقل ، وإن كان سهوا فالمختار العصمة منها . وأما الصغائر عمدا أو سهوا فقد جوزها الجمهور عقلا . لكنها لا تقع منهم غير صغائر الخسة فلا يجوز وقوعها منهم لا عمدا ، ولا سهوا انتهى منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وحاصل كلامه : عصمتهم من الكذب فيما يبلغونه عن الله ومن الكفر ، والكبائر وصغائر الخسة . وأن الجمهور على جواز وقوع الصغائر الأخرى منهم عقلا . غير أن ذلك لم يقع فعلا . وقال أبو حيان في البحر في سورة " البقرة " وفي المنتخب للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي ما ملخصه : منعت الأمة وقوع الكفر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، إلا الفضيلية من الخوارج قالوا : وقد وقع منهم ذنوب ، والذنب عندهم كفر . وأجاز الإمامية إظهار الكفر منهم على سبيل التقية . واجتمعت الأمة على عصمتهم من الكذب والتحريف فيما يتعلق بالتبليغ ، فلا يجوز عمدا ، ولا سهوا . ومن الناس من جوز ذلك سهوا . وأجمعوا على امتناع خطئهم في الفتيا عمدا . واختلفوا في السهو . وأما أفعالهم فقالت الحشوية : يجوز وقوع الكبائر منهم على جهة العمد . وقال أكثر المعتزلة : بجواز الصغائر عمدا إلا في القول كالكذب . وقال الجبائي : يمتنعان عليهم إلا على جهة التأويل . وقيل : يمتنعان عليهم إلا على جهة السهو ، والخطأ ، وهم مأخوذون بذلك وإن كان موضوعا عن أمتهم . وقالت الرافضة يمتنع ذلك على كل جهة .

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف في وقت العصمة . فقالت الرافضة : من وقت مولدهم . وقال كثير من المعتزلة : من وقت النبوة . والمختار عندنا أنه لم يصدر عنهم ذنب حالة النبوة البتة لا الكبيرة ، ولا الصغيرة . لأنهم لو صدر عنهم الذنب لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة [ ص: 119 ] لعظيم شرفهم وذلك محال ، ولئلا يكونوا غير مقبولي الشهادة ، ولئلا يجب زجرهم وإيذاؤهم ، ولئلا يقتدى بهم في ذلك . ولئلا يكونوا مستحقين للعقاب ، ولئلا يفعلوا ضد ما أمروا به لأنهم مصطفون ، ولأن إبليس استثناهم في الإغواء . انتهى ما لخصناه من ( المنتخب ) ، والقول في الدلائل لهذه المذاهب . وفي إبطال ما ينبغي إبطاله منها مذكور في كتب أصول الدين . انتهى كلام أبي حيان .

                                                                                                                                                                                                                                      وحاصل كلام الأصوليين في هذه المسألة : عصمتهم من الكفر وفي كل ما يتعلق بالتبليغ ، ومن الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة وتطفيف حبة ، وأن أكثر أهل الأصول على جواز وقوع الصغائر غير صغائر الخسة منهم . ولكن جماعة كثيرة من متأخري الأصوليين اختاروا أن ذلك وإن جاز عقلا لم يقع فعلا ، وقالوا : إنما جاء في الكتاب والسنة من ذلك أن ما فعلوه بتأويل أو نسيانا أو سهوا ، أو نحو ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لنا أنه الصواب في هذه المسألة أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لم يقع منهم ما يزري بمراتبهم العلية ، ومناصبهم السامية . ولا يستوجب خطأ منهم ، ولا نقصا فيهم صلوات الله وسلامه عليهم ، ولو فرضنا أنه وقع منهم بعض الذنوب لأنهم يتداركون ما وقع منهم بالتوبة ، والإخلاص ، وصدق الإنابة إلى الله حتى ينالوا بذلك أعلى درجاتهم فتكون بذلك درجاتهم أعلى من درجة من لم يرتكب شيئا من ذلك . ومما يوضح هذا قوله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى [ 20 \ 121 ] ، . فانظر أي أثر يبقى للعصيان والغي بعد توبة الله عليه ، واجتبائه أي : اصطفائه إياه ، وهدايته له ، ولا شك أن بعض الزلات ينال صاحبها بالتوبة منها درجة أعلى من درجته قبل ارتكاب تلك الزلة . والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية