الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          تتمة تفسير الآيات

                          وهاهنا يرد سؤال : ماذا كان من أمر السحرة عندما سمعوا هذا التهديد والوعيد ، وبم أجابوا ذلك الجبار العنيد ؟ وجوابه هنا : قالوا إنا إلى ربنا منقلبون يجوز أن يكونوا قد عنوا بقولهم هذا أنفسهم وحدها ، وأرادوا أنهم لا يبالون ما يكون من قضائه فيهم وقتله لهم ؛ لأنهم راجعون إلى ربهم ، راجون مغفرته ورحمته بهم ، وحينئذ يكون تعجيل قتلهم سببا لقرب لقائه ، والتمتع بحسن جزائه . ويجوز أن يكونوا قد عنوا أنفسهم وفرعون جميعا ، وأرادوا : إننا وإياك سننقلب إلى ربنا ، فلئن قتلتنا فما أنت بخالد بعدنا ، وسيحكم عز وجل بعدله بينك وبيننا [ ص: 67 ] وفيه تعريض بكذبه في دعوى الربوبية ، وتصريح وإيثار ما عند الله تعالى على ما عنده من الشهوات الدنيوية ، وفي سورة الشعراء : قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين ( 26 : 50 ، 51 ) وهو يؤيد المعنى الأول ، ولا ينافي الثاني ؛ لأنه يشمل الأول .

                          وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا قال الراغب : نقمت الشيء ونقمته أي - من بابي فرح وضرب - إذا أنكرته إما باللسان وإما بالعقوبة ، قال تعالى : وما نقموا إلا أن أغناهم الله ( 9 : 74 ) ، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله ( 85 : 8 ) هل تنقمون منا ( 5 : 59 ) الآية . والنقمة : العقوبة ، قال : فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم ( 7 : 136 ) إلخ . وتفسيره هذا لـ " نقم " أدق وأشمل من قول الزمخشري في الأساس : ونقمت منه كذا : أنكرته وعبته . فإنه لم يذكر إلا القولي منه ، وقد استشهد له بقوله تعالى : وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا ( 85 : 8 ) وهو في أصحاب الأخدود ، وكان النقم منهم بالفعل لا بالقول ، فسبحان من لا ينسى ولا يغفل . وما ذكره السحرة من نقم فرعون منهم كان بالقول ، وهو الاستنكار التوبيخي لإيمانهم ، والتهمة فيه والوعيد عليه ، والظاهر أنه نفذ الوعيد بالانتقام بالفعل ، واستنبط بعض المفسرين من قوله تعالى لموسى وهارون : أنتما ومن اتبعكما لغالبون ( 28 : 35 ) أن فرعون لم يقدر على تنفيذ الوعيد فيهم ، وأجيب عن هذا بأن المراد الغلبة بالحجة والبرهان ، وفي عاقبة الأمر ونهايته ، وإلا لم يقتل أحد من أتباع الرسل عليهم السلام ، وهو صريح قوله تعالى في أول هذه القصة الذي ذكرنا أنه بيان لنتيجتها ، ووجه العبرة فيها : فانظر كيف كان عاقبة المفسدين يعني فرعون وملأه ، ويؤيده ما ورد في معناه من الآيات الكثيرة كقوله تعالى حكاية عن شعيب في قصته التي مرت في هذه السورة أيضا : وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين وقوله قبله في قصة لوط منها : فانظر كيف كان عاقبة المجرمين وقوله تعالى في مكذبي الرسل عامة بعد ذكر تكذيب قوم خاتم الرسل ـ صلى الله عليه وسلم ـ : كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ( 10 : 39 ) ويجوز أن يراد بمن اتبع موسى وهارون قومهما خاصة ، وهم الذين بشرهم موسى بأن العاقبة لهم بعد وعيد فرعون لهم عقب خبر السحرة ، وهو ما تراه في الآية الثانية بعد هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها ، وهذه العاقبة قد بينها الله تعالى بقوله في سورة القصص : فأخذناه يعني فرعون وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ( 28 : 40 ) ، وقد ختم تعالى ما قصه هنا من كلام السحرة بهذا الدعاء فنذكره تالين داعين : ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين أي : ربنا هب لنا صبرا واسعا تفيضه وتفرغه علينا إفراغا بتثبيتك إيانا على الإيمان ، وتأييدنا بروحك فيه كما يفرغ الماء من القرب ، حتى لا يبقى [ ص: 68 ] في قلوبنا شيء من خوف غيرك ، ولا من الرجاء فيما سوى فضلك ونوالك . وتوفنا إليك حال كوننا مسلمين لك مذعنين لأمرك ونهيك ، مستسلمين لقضائك ، غير مفتونين بتهديد فرعون ، وغير مطيعين له في قول ولا فعل . جمعوا بدعائهم هذا بين كمال الإيمان والإسلام .

                          يدل على ما قررناه من المبالغة في طلب كمال الصبر - تنكيره والتعبير عن إيتائه بالإفراغ ، وهو صب الماء الكثير من الدلو ونحوه ، وأما تصويرنا لحصول ذلك بقوة الإيمان فمأخذه من العقل والتجارب : أن الصبر من صفات النفس ، وهو عبارة عن قوة فيها على احتمال الآلام والمكارم بغير تبرم ولا حرج يحملها على ما لا ينبغي من ترك الحق أو اجتراح الباطل ، ولا شيء كالإيمان بالله والخوف منه ، والرجاء فيه يقوي هذه الصفة في النفس ، ومأخذه من النقل آيات كقوله تعالى في بيان المؤمنين الذين عملوا الصالحات فوجبت لهم الجنة : الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ( 29 : 59 ) وقوله فيهم : وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ( 103 : 3 ) ومما يناسب المقام قوله : فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ( 3 : 175 ) .

                          ولدينا من نقول التاريخ القديم والحديث ما يؤيد ذلك ، وقد صرح الذين كتبوا أخبار الحروب الأخيرة بعللها وفلسفتها : أن المؤمنين بالله وباليوم الآخر من جميع الملل أعظم شجاعة ، وأشد صبرا على مشاق الحرب من غيرهم ؛ ولذلك يحرص أوسع الناس علما بسنن الخلق ، وأشدهم عناية بفنون الحرب - كالشعب الألماني - على المحافظة على الدين في جيشهم ، وللبرنس بسمارك مؤسس وحدتهم ، ووزيرهم الأعظم بل أكبر ساسة أوربة - كلمة في هذا المعنى أثبتناها في المجلد الأول من المنار من ترجمة الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى عن كتاب ( وقائع بسمارك ومذكراته ) التي نشرها كاتم سره مسيو بوش بعد موته نكتفي منها هنا بقوله :

                          " جلس البرنس بسمارك على مائدة الطعام فرأى بقعة من الدهن على غطاء المائدة فقال لأصحابه : كما تنتشر هذه البقعة في النسيج شيئا فشيئا كذلك ينفذ الشعور باستحسان الموت في سبيل الدفاع عن الوطن في أعماق قلوب الشعب ، ولو لم يكن هنالك أمل في الجزاء والمكافأة ( أي في الدنيا ) ذلك لما استكن في الضمائر من بقايا الإيمان - ذلك لما يشعر به كل أحد من أن واحدا مهيمنا يراه وهو يجالد ويموت وإن لم يكن قائده يراه .

                          فقال بعض المرتابين : أتظن سعادتكم أن العساكر يلاحظون في أعمالهم تلك الملاحظة ؟

                          فأجابه البرنس : ليس هذا من قبيل الملاحظات ، وإنما هو شعور ووجدان ، هو بوادر تسبق الفكر ، هو ميل في النفس وهوى فيها ، كأنه غريزة لها ؛ ولو لاحظوا لفقدوا ذلك الميل ، وأضلوا ذلك الوجدان ، هل تعلمون أنني لا أفهم كيف يعيش قوم ، وكيف يمكن لهم أن يقوموا بتأدية ما عليهم من الواجبات ؟ أو كيف يحملون غيرهم على أداء ما يجب عليه إن لم يكن لهم [ ص: 69 ] إيمان بدين جاء به وحي سماوي ، واعتقاد بإله يحب الخير ، وحاكم ينتهي إليه الفصل في الأعمال في حياة بعد هذه الحياة ؟ " .

                          ثم أطال في ذلك بأسلوب آخر صرح فيه بأنه لولا عقيدته الدينية لما خدم سلطانه وعاهله ( الإمبراطور ) ساعة من الزمان إلى آخر ما قاله فيراجع في محله .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية