الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وجوب تبليغ دعوة الإسلام ورسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لجميع البشر :

                          ومما يدخل في أحكام رسالته ـ صلى الله عليه وسلم ـ للناس كافة أن الله تعالى لا يقبل إيمان أحد بلغته دعوته على وجهها الصحيح إلا بالإيمان به واتباعه ، وأنه يجب على أمته - أي أمة الإجابة - وهم الذين اهتدوا بما جاء به من الإيمان والإسلام ، أن يبلغوا دعوته لجميع الناس من جميع الأمم ، على الوجه الذي يحرك إلى النظر ، ويجب أن يكون القائمون بذلك منهم جماعات تتعاون عليه إذ لا يغني الأفراد غناء الجماعات سواء أكانت الدعوة إلى أصل الإيمان الإجمالي - الذي هو بدء الدعوة - أم إلى الشرائع التفصيلية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويشمل ذلك كله قوله تعالى : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ( 3 : 104 ) وقد ذكرنا في تفسيرها ما بسطه شيخنا الأستاذ الإمام من كون الراجح المختار أن قوله تعالى : ولتكن منكم أمة تجريد كقول القائل : ليكن لي منك صديق - أي لتكن صديقا لي ، وأنه يجب على جميع المسلمين أن يكونوا دعاة إلى الخير الأعظم الذي هداهم الله إليه ، ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ، كل على قدر حاله واستطاعته كما كان المسلمون في الصدر الأول ، وأنه مع ذلك يجب أن يتألف للدعوة جماعات تعد لها عدتها ، وأن هذا متعين على الوجه الآخر في الآية وهو جعل " منكم " للتبعيض إلخ . [ راجع ص22 - 438 ط الهيئة ] .

                          وتبليغ الدعوة إلى الإسلام على الوجه الذي تقوم به الحجة يختلف باختلاف الزمان والمكان والأفراد والأقوام ، فقد كان مشركو العرب في عصر البعثة يؤمنون بأن الله تعالى هو رب العالمين ، وخالق الخلق ومدبر أموره ، وإنما كانوا يشركون بعبادته غيره من الملائكة والجن والأصنام ، زاعمين أنهم يقربونهم إليه زلفى ، ويشفعون لهم عنده ، فيقضي لهم حاجتهم من جلب خير ودفع ضر بوساطتهم ، وكانوا ينكرون البعث والحياة بعد هذه الحياة الدنيا وينكرون [ ص: 263 ] الرسالة والوحي من الله لبعض البشر ، فكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدعوهم أولا إلى التوحيد الذي هو عنوان الإسلام ، وباب الدخول فيه ; لأنه الركن الأعظم ، ثم إنه كان يقيم لهم الحجج والبراهين علىتوحيد الألوهية ، وهو إفراد الله وحده بالعبادة ، وعلى حقية الرسالة والبعث والجزاء مع دفع ما عندهم من الشبهات على ذلك كما تراه مفصلا في سورة الأنعام التي هي أجمع سورة في القرآن لذلك ، وكذا في غيرها من السور المكية ، ويلي ذلك دعوتهم إلى أصول الشريعة وقواعدها الكلية في الآداب والفضائل والحلال والحرام ، ثم إلى الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد . وأما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فكانوا يؤمنون بالله وبالوحي والرسل والبعث والجزاء ، ولكن دخلت على أكثرهم الوثنية القديمة بجميع أصولها وفروعها ولاسيما النصارى الذين أقاموا عقيدتهم على أساس التثليث المعروف عن قدماء المصريين والهنود وغيرهم من الوثنيين ، وكان اليهود يزعمون أن النبوة والرسالة محصورة في بني إسرائيل لا يمكن أن يبعث الله رسولا من غيرهم ، وكانت التوراة قد فقدت في غزوة البابليين لهم ، ثم كتب بعضهم لهم توراة بعد عدة قرون هي عبارة عن تاريخ ديني مشتمل على قصص الأنبياء إلى عهد موسى وهارون ، وعلى ما تذكر الكاتب من شريعة التوراة مع تحريف وأغلاط كثيرة ، وكان الإنجيل الذي جاء به عيسى عليه السلام من وعظ وتعليم وبشارة قد ادعاه كثيرون فظهر في العصر الأول بعده زهاء سبعين إنجيلا اختار الجمهور الذي جمع شمله الملك قسطنطين - الوثني الذي تنصر سياسة - أربعة منها فيها كثير من الخلاف والتعارض ، وذلك بعد المسيح بثلاثة قرون ، وفشا فيهم منذ عهد هذا الملك الوثني المتنصر عبادة السيدة مريم عليها السلام وغيرها من الصالحين حتى صارت الكنائس النصرانية كهياكل الأوثان مملوءة بالصور والتماثيل المعبودة - فكانت دعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إياهم إلى الإسلام وحججه عليهم التي أنزلها الله عليه في القرآن تختلف من بعض الوجوه عن دعوة المشركين الأصليين ، كما تراه مبسوطا في السور الطوال الأربع الأولى : البقرة وآل عمران والنساء والمائدة - ففي الجزء الأول من البقرة من القرآن : يوجه أكثر الكلام إلى اليهود ، وذكرت فيه النصارى بالعرض - وأوائل سورة آل عمران نزلت في حجاج نصارى نجران ، وفي أواخر النساء كلام في أهل الكتاب أكثره في النصارى . وجل سورة المائدة في أهل الكتاب عامة والنصارى خاصة .

                          وأما هذا العصر فقد كثرت فيه الملاحدة والمعطلة ، وتجددت للكفار على اختلاف فرقهم شبهات جديدة يتوكئون فيها على مسائل من العلوم العصرية لم تكن معروفة عند الأقدمين ، وحدثت للناس آراء ومذاهب في الحياة فيها الحسن والقبيح ، والنافع [ ص: 264 ] والضار ، بل منها ما قد يفضي إلى فساد العالم ، وتقويض دعائم العمران ، ومثار ذلك كله ذيوع التعاليم المادية ، وفوضى الآداب ، وتدهور الأخلاق ، وتغلب الرذائل على الفضائل ، وقد ظهر هذا الفساد في أفظع صورة في حرب المدنية الكبرى وما ولدته من تفاقم شره المستعمرين وشرهم وفظائعهم في الشرق ، وانتشار البلشفية ومفاسدهم في البلاد الروسية وغيرها ، وبث دعوتها في العالم - فصار من الواجب مراعاة ذلك في الدعوة إلى الدين والاحتجاج له ، ورد الشبه التي توجه إليه . وقد ذكرت في تفسير آية سورة آل عمران المشار إليها آنفا ( آي 3 : 104 ) حاجة الداعي إلى الإسلام في هذا الزمان إلى أحد عشر علما منها السياسة ولغات الأقوام الذين توجه إليهم الدعوة ، وأشرت هنالك إلى مقالة كنت كتبتها قبل ذلك في المنار في الدعوة وطريقها وآدابها .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية