الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( طهارة نسبه - صلى الله عليه وسلم - وفضل قومه واصطفاؤه من خيارهم )

                          من المأثور في تفسير الآيتين ما ذكروا في قوله تعالى ( رسول من أنفسكم ) من الأحاديث المرفوعة في طهارة نسبه - صلى الله عليه وسلم - من سفاح الجاهلية ومن فضل قومه وعشيرته وعترته وأهل بيته على غيرهم ، وأصح ما ورد في هذا ما رواه مسلم والترمذي من حديث واثلة - رضي الله عنه - مرفوعا ( ( إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم ) ) ولم أر لأحد من العلماء بيانا لمعنى هذا الاصطفاء بم كان ؟ وقد وفقني الله لاستنباطه من التاريخ العام ، وبينته في المنار وفي خلاصة السيرة المحمدية في جواب السؤال عن حكمة بعثة خاتم النبيين ، وبالرسالة العامة للناس أجمعين ، بالدين العام للبدو والحضر ، من العرب الذين غلبت عليهم جهالة البدو ، وبعد عهدهم بما سبق لأمتهم من الحضارة والعلم ، ولم يبعث من بعض شعوب الحضارة القريبة كالفرس والروم والهند والصين ، ويليه السؤال عن مزية كنانة في العرب [ ص: 77 ] من آل إسماعيل ، الذين امتازوا على سائر العرب بأنهم ممن اصطفى الله من آل إبراهيم ، ثم عن مزية قريش في بني كنانة ، وفضل بني هاشم على سائر قريش ؟

                          خلاصة ما بينته في فضل العرب على سائر الأمم ، الذي أعدهم به الله لبعثة سيد البشر من العرب والعجم ، بالدين العام الباقي هي : أن جميع شعوب الحضارة المشار إليها وغيرها كانت قد فسدت غرائزها وأخلاقها الفطرية ، وعقائدها الدينية ، وآدابها التقليدية ، بفساد رؤساء الدين والدنيا فيها ، وتعاون الفريقين على استعبادها واستذلالها لهما ، وتسخيرها لتوفير لذاتهما وتشييد صروح عظمتهما ، بسلب حريتهم العقلية بالتقاليد الدينية التي يفرض عليهم الكهنة والأحبار والقسوس الخضوع لها ، بدون أن يكون لهم أدنى رأي أو اختيار أو فهم فيها ، بسلب حرية إرادتهم في حياتهم الشخصية والاجتماعية بما يضع لهم الملوك والحكام من القوانين والنظم الإدارية والعسكرية الاستبدادية ، وبتحكمهم فيهم بدون قانون ولا نظام أيضا ، فجميع الأمم والشعوب كانت مرهقة مستعبدة في دينها ودنياها إلا العرب ولا سيما عرب الحجاز .

                          وأما العرب فلم يكن عندهم رياسة حكم استبدادية تستذلهم وتفسد بأسهم وتقهر إرادتهم على ما لا يريدون ، ولا رياسة دينية تقهرهم على اتباع تقاليد لا يعقلونها بل كانوا على أتم الحرية العقلية واستقلال الإرادة في دينهم ودنياهم ، وفي أعلى ذروة من عزة النفس ، وشدة البأس فبحرية عقولهم كانوا على أتم الاستعداد لفهم دين العقل والفطرة ، وباستقلال إرادتهم كانوا على أكمل الاستعداد للنهوض بما اعتقدوا حقيته وصلاحه وخيريته ، ولإقامته في قومهم ، ونشره في غيرهم ، والدفاع عنه باختيارهم ، وتصرفهم في كل ذلك بمقتضى الوازع النفسي ، دون تحكم رئيس ديني ولا دنيوي ; فإن هذا الدين إنما أوجب طاعة الأئمة والقواد بالمعروف والإذعان للشرع ، وما تضعه الأمة لنفسها من النظام بالشورى بين ممثليها من أهل الحل والعقد ، حتى فرض الله على الرسول - صلى الله عليه وسلم - مشاورتها في أمورها ، وقال له ربه في صيغة مبايعة نسائها له : ( ولا يعصينك في معروف ) ( 60 : 12 ) وبها كان يبايع الرجال كالنساء ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : ( ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق إنما الطاعة في المعروف ) ) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث علي كرم الله وجهه .

                          وأما كنانة فقد كان أشهر ذرية إسماعيل في العلم والحكمة ، والكرم والنبل ، حتى كانت العرب تحج إليه ، وينقلون عنه حكما رائعة ، وكفى بهذا اصطفاء عليهم ، وامتيازا فيهم .

                          وأما امتياز قريش على سائر العرب فهو معروف متواتر ، وأهمه أن ما ذكرناه من عزة النفس ، واستقلال الإرادة والعقل كان أكمل فيهم ، فإن بعض العرب في أطراف جزيرتهم خضعوا لسيادة الفرس والروم خضوعا ما ، وجملته أنهم كانوا أصرح ولد إسماعيل أنسابا ، وأشرفهم أحسابا ، وأعلاهم آدابا ، وأفصحهم ألسنة ، وهم الممهدون لجمع الكلمة العامة ، بعد أن جمع ( قصي ) جميع قبائلهم بمكة ، واستقلوا بخدمة المسجد الحرام من الحجابة وسقاية الحاج والرفادة - وهي إسعاف الفقراء والمساكين من الحجاج وغيرهم - [ ص: 78 ] وأسسوا دار الندوة لأجل الشورى في الأمور المهمة ، وكانوا أعرف العرب ببطون العرب في جميع جزيرتهم بما كانوا يتناوبونه من رحلة الشتاء والصيف ، وبذلك كانوا أغنى العرب أيضا وأشرفهم بلا منازع ، وناهيك بما عقدوا من حلف الفضول في حداثة سن الرسول ، وهو أنهم تعاقدوا أو تعاهدوا ألا يجدوا بمكة مظلوما إلا قاموا معه ، وكانوا عونا له على من ظلمه إلى أن ترد مظلمته .

                          وفي حديث الزبير بن العوام وأم هانئ عن الطبراني وتاريخ البخاري ، ( ( فضل الله قريشا بسبع خصال : فضلهم بأنهم عبدوا الله عشر سنين لا يعبد الله إلا قرشي ( أي لا يعبده وحده من العرب إلا قرشي ) وفضلهم بأنه نصرهم يوم الفيل وهم مشركون ( أي نصرهم على قوة تفوق قوتهم كثيرا بما يشبه نصره لرسله في كونه بدون استعداد كسبي يقرب من استعداد عدوهم ) وفضلهم بأنه نزل فيهم سورة من القرآن ، لم يدخل فيها أحد من العالمين وهي : ( لإيلاف قريش ) ( 106 : 1 ) وفضلهم بأن فيهم النبوة والخلافة والحجابة والسقاية ) )

                          وأما اصطفاؤه تعالى لبني هاشم على قريش فقد كان بما امتازوا به من الفضائل والمكارم ، فقد كان جدهم هاشم هو صاحب إيلاف قريش الذي أخذ لهم العهد من قيصر الروم على حمايتهم في رحلة الصيف إلى الشام ، ومن حكومة اليمن في رحلة الشتاء ، وهو أول من هشم الثريد للفقراء من قومه ولأهل موسم الحج كافة ، وقد أربى عليه في السخاء والكرم ولده عبد المطلب ، وجملة القول أن بني هاشم كانوا أكرم قريش أخلاقا وأبعدهم عن الكبر والأثرة ، ولا ينازعهم أحد في ذلك ، وقد قال أبو جهل في حسده إياهم على كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - منهم : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا . . . حتى إذا زاحمناهم بالمناكب قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء . فمتى ندرك هذه ؟ ويؤخذ منه أنهم كانوا يعلمون أن النبوة لا يمكن أن تكون بالاجتهاد والمباراة الكسبية في الفضائل ، وأن القرآن لا يمكن أن يعارضه أحد في بلاغته ولا هدايته ; لأنه من الله لا من علم محمد - صلى الله عليه وسلم - وفصاحته وبلاغته ، ولولا ذلك لعارضه من كانوا أشهر العرب في ذلك ولم يكن محمد منهم .

                          وقد ورد في فضل هذه الخاتمة لهذه السورة المباركة ما رواه أبو داود عن أبي الدرداء موقوفا وابن السني عن أبي الدرداء مرفوعا قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ( من قال حين يصبح وحين يمسي : حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم - سبع مرات - كفاه الله ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة ) ) كذا في الدر المنثور ، ويراجع ما قاله ابن كثير في آخر تفسير السورة فيه ، وهو لا يمنع العمل به ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، والحمد لله رب العالمين .

                          ( تم تفسير سورة براءة بفضل الله وتوفيقه في شهر صفر سنة خمسين وثلاثمائة وألف وبقي تلخيص ما فيها من أصول الدين وأحكامه وسياسته وآدابه وسنن الله في ذلك ، فنسأله تعالى توفيقنا فيه للحق الذي يرضاه وينفع عباده ) .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية