الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( فصل ) اعلم أنه ليس في كتب التفسير المتداولة ما يروي الغليل في هذه المسألة ، وما ذكرناه آنفا صفوة ما قالوه ، وخيره كلام الأستاذ الإمام ، وقد رأينا أن نرجع بعد كتابته إلى كلام في المتشابه والتأويل لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية كنا قرأنا بعضه من قبل في تفسيره لسورة الإخلاص ، فرجعنا إليه وقرأناه بإمعان ، فإذا هو منتهى التحقيق والعرفان ، والبيان الذي ليس وراءه بيان ، أثبت فيه أنه ليس في القرآن كلام لا يفهم معناه ، وأن المتشابه إضافي إذا اشتبه فيه الضعيف لا يشتبه فيه الراسخ ، وأن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله - تعالى - هو ما تئول إليه تلك الآيات في الواقع ككيفية صفات الله - تعالى - وكيفية عالم الغيب من الجنة والنار وما فيهما ، فلا يعلم أحد غيره - تعالى - قدرته وتعلقها بالإيجاد والإعدام وكيفية استوائه على العرش ، مع أن العرش مخلوق له وقائم بقدرته ، ولا كيفية عذاب أهل النار ولا نعيم أهل الجنة كما قال - تعالى - في هؤلاء : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين [ 32 : 17 ] [ ص: 143 ] فليست نار الآخرة كنار الدنيا وإنما هي شيء آخر ، وليست ثمرات الجنة ولبنها وعسلها من جنس المعهود لنا في هذا العالم ، وإنما هو شيء آخر يليق بذلك العالم ويناسبه ، وإننا نبين ذلك بالإطناب الذي يحتمله المقام مستمدين من كلام هذا الحبر العظيم ناقلين بعض ما كتبه فنقول :

                          إنما غلط المفسرون في تفسير التأويل في الآية ؛ لأنهم جعلوه بالمعنى الاصطلاحي ، وإن تفسير كلمات القرآن بالمواضعات الاصطلاحية قد كان منشأ غلط يصعب حصره . ذكر التأويل في سبع سور من القرآن - هذه السورة أولاها ، والثانية : ( سورة النساء ) وليس فيها إلا قوله - تعالى - : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا [ 4 : 59 ] فسر التأويل هاهنا مجاهد وقتادة بالثواب والجزاء ، والسدي وابن زيد وابن قتيبة والزجاج بالعاقبة ، وكلاهما بمعنى المآل ، لكن الثاني أعم ، فهو يشمل حسن المآل في الدنيا . وقد يكون التنازع في الأمور الدنيوية أكثر والرجوع فيه إلى كتاب الله ورسوله في حياته وسنته من بعده يكون مآله الوفاق والسلامة من البغضاء ولا يحتمل بحال أن يكون معنى التأويل هنا التفسير أو صرف الكلام عن ظاهره إلى غيره ؛ لأن الكلام في التنازع وحسن عاقبة رده إلى الله ورسوله .

                          والثالثة : ( سورة الأعراف ) وفيها قوله - تعالى - : ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 7 : 52 ، 53 ] فسر ابن عباس تأويله هنا بتصديق وعده ووعيده ; أي يوم يظهر صدق ما أخبر به من أمر الآخرة ، وقال قتادة : تأويله ثوابه ، ومجاهد : جزاؤه ، والسدي : عاقبته ، وابن زيد : حقيقته . وكل هذه الألفاظ متقاربة المعنى ، والمراد ما يئول إليه الأمر من وقوع ما أخبر به القرآن من أمر الآخرة ولا يحتمل أن يراد به تفسيره .

                          الرابعة : ( سورة يونس ) قال - تعالى - بعد ذكر القرآن بكونه تصديق لما بين يديه ومنزها عن الافتراء والريب ، ودعواهم الباطلة فيه وبعد تعجيزهم بطلب الإتيان بسورة من مثله - : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين [ 10 : 39 ] فسر أهل الأثر تأويله هنا بنحو ما تقدم ; أي ما يئول إليه الأمر من ظهور صدقه ووقوع ما أخبر به ، ولما كانت عاقبة المكذبين قبلهم الهلاك كان تأويله أن تكون عاقبتهم كعاقبة من قبلهم .

                          [ ص: 144 ] الخامسة : ( سورة يوسف ) جاء فيها قوله - تعالى - : وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث [ 12 : 6 ] وقوله حكاية عن الفتيين اللذين كانا مع يوسف في السجن : نبئنا بتأويله [ 12 : 36 ] أي ما رأياه في المنام . وقوله حكاية عنه : قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما [ 12 : 37 ] وقوله حكاية عن ملأ فرعون : وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين [ 12 : 44 ] وقوله حكاية عن الذي نجا من ذينك الفتيين : أنا أنبئكم بتأويله [ 12 : 45 ] وقوله حكاية لخطاب يوسف لأبيه : يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا [ 12 : 100 ] وقوله حكاية عنه : رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث [ 12 : 101 ] فتأويل الأحاديث والأحلام هو الأمر الوجودي الذي تدل عليه ، وهو فعل لا قول كما هو صريح في مثل قوله : نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما [ 12 : 37 ] فإخباره بالتأويل هو إخباره بالأمر الذي سيقع في المآل ، وفي قوله : هذا تأويل رؤياي من قبل أي هذا الذي وقع من سجود أبويه وإخوته الأحد عشر له هو الأمر الواقعي الذي آلت إليه رؤياه المذكورة في أول السورة بقوله - تعالى - : إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين [ 12 : 4 ] .

                          السادسة: ( سورة الإسراء ) وفيها قوله : وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا [ 17 : 35 ] أي مآلا .

                          السابعة : ( سورة الكهف 18 ) وفيها قوله - تعالى - حكاية عن العبد الذي أتاه الله رحمة وعلما من لدنه في خطاب موسى : سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا [ 18 : 78 ] وقوله بعد أن نبأه بما تئول إليه تلك الأعمال التي أنكرها موسى : ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا [ 18 : 82 ] فالإنباء بالتأويل إنباء بأمور عملية ستقع في المآل لا بالأقوال ، فتبين من هذه الآيات أن لفظ التأويل لم يرد في القرآن إلا بمعنى الأمر العملي الذي يقع في المآل تصديقا لخبر أو رؤيا أو لعمل غامض يقصد به شيء في المستقبل ، فيجب أن تفسر آية آل عمران بذلك ، ولا يجوز أن يحمل التأويل فيها على المعنى الذي اصطلح عليه قدماء المفسرين وهو جعله بمعنى التفسير كما يقول ابن جرير : القول في تأويل هذه الآية كذا ، ولا على ما اصطلح عليه متأخروهم من جعل التأويل عبارة عن نقل الكلام عن وضعه إلى ما يحتاج في إثباته إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ ومثله قول أهل الأصول : التأويل صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل .

                          بحمل التأويل في القرآن على المعنى الاصطلاحي ، تمسكت الباطنية في دعواهم إذ قالوا :

                          [ ص: 145 ] إن أحدا لم يفهم القرآن في زمن التنزيل ولا بعده ، وإن الله وعد بتأويله فلا بد من انتظار من يبعثه الله - تعالى - بهذا التأويل ، والبابية - وهم آخر فرقة ظهرت من الباطنية - تدعي أن الباب هو ذلك الموعود به ، والبهائية منهم يقولون : بل هو البهاء ، وقد سمعت من دعاتهم من يحتج بقوله - تعالى - : هل ينظرون إلا تأويله [ 7 : 53 ] الآية . وقد ذكرت آنفا ، فقلت له تأويله ما وعد به كقوله : فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة [ 47 : 18 ] وقوله : ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون [ 36 : 49 ] فهذا وأمثاله هو تأويله ، والقرآن كله مفهوم إن اشتبه منه شيء على بعض الناس علمه غيرهم . قال ابن تيمية في تفسير سورة الإخلاص بعد كلام في ذلك ما نصه :

                          " والمقصود هنا أنه لا يجوز أن يكون الله أنزل كلاما لا معنى له ، ولا يجوز أن يكون الرسول وجميع الأمة لا يعلمون معناه كما يقول ذلك من يقوله من المتأخرين ، وهذا القول يجب القطع بأنه خطأ سواء كان مع هذا تأويل القرآن لا يعلمه الراسخون ، أو كان للتأويل معنيان يعلمون أحدهما ولا يعلمون الآخر ، وإذا دار الأمر بين القول بأن الرسول كان لا يعلم معنى المتشابه من القرآن وبين أن يقال الراسخون في العلم يعلمون كان هذا الإثبات خيرا من ذلك النفي ، فإن الدلائل الكثيرة من الكتاب والسنة وأقوال السلف ، على أن جميع القرآن مما يمكن علمه وفهمه وتدبره ، وهذا مما يجب القطع به ، وليس معنا دليل قاطع على أن الراسخين في العلم لا يعلمون تفسير المتشابه ، فإن السلف قد قال كثير منهم إنهم يعلمون تأويله ، منهم مجاهد - مع جلالة قدره - والربيع بن أنس ومحمد بن جعفر بن الزبير ، ونقلوا ذلك عن ابن عباس ، وأنه قال : " أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله " وقول أحمد فيما كتبه في الرد على الزنادقة والجهمية ، فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله ، وقوله عن الجهمية أنها تأولت ثلاث آيات من المتشابه ، ثم تكلم على معناها ، دليل على أن المتشابه عنده تعرف العلماء معناه ، وأن المذموم تأويله على غير تأويله ، فأما تفسيره المطابق لمعناه فهذا محمود ليس بمذموم وهذا يقتضي أن الراسخين في العلم يعلمون التأويل الصحيح للمتشابه عنده ، وهو التفسير في لغة السلف ; ولهذا لم يقل أحمد ولا غيره من السلف : إن في القرآن آيات لا يعرف الرسول ولا غيره معناها بل يتلون لفظا لا يعرفون معناه .

                          وهذا القول اختيار كثير من أهل السنة ، منهم ابن قتيبة وأبو سليمان الدمشقي وغيرهما . وابن قتيبة من المنتسبين إلى أحمد وإسحاق والمنتصرين لمذاهب السنة المشهورة ، وله في ذلك مصنفات متعددة قال فيه صاحب كتاب التحديث بمناقب أهل الحديث : وهو أحد أعلام الأئمة والعلماء والفضلاء ، أجودهم تصنيفا ، وأحسنهم ترصيفا ، له زهاء ثلاثمائة مصنف ، وكان [ ص: 146 ] يميل إلى مذهب أحمد وإسحاق . وكان معاصرا لإبراهيم الحربي ومحمد بن نصر المروزي ، وكان أهل المغرب يعظمونه ويقولون : من استجاز الوقيعة في ابن قتيبة يتهم بالزندقة ، ويقولون . كل بيت ليس فيه شيء من تصنيفه لا خير فيه . قلت : ويقال هو لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة ، فإنه خطيب السنة ، كما أن الجاحظ خطيب المعتزلة ، وقد نقل عن ابن عباس أيضا القول الآخر ، ونقل ذلك عن غيره من الصحابة وطائفة من التابعين ، ولم يذكر هؤلاء على قولهم نصا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصارت مسألة نزاع ، فترد إلى الله والرسول . وأولئك احتجوا بأنه قرن ابتغاء الفتنة بابتغاء تأويله ، وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذم مبتغي المتشابه وقال : إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فاحذروهم ولهذا ضرب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صبيغ بن عسل لما سأله عن المتشابه ، ولأنه قال : والراسخون في العلم يقولون ولو كانت الواو واو عطف مفرد لا واو الاستئناف التي تعطف جملة لقال : ويقولون .

                          فأجاب الآخرون عن هذا بأن الله قال : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا [ 59 : 8 ] ثم قال : والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون [ 59 : 9 ] ثم قال : والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان [ 59 : 10 ] قالوا : فهذا عطف مفرد على مفرد والفعل حال من المعطوف فقط . وهو نظير قوله : والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا .

                          " قالوا : ولأنه لو كان المراد مجرد الوصف بالإيمان لم يخص الراسخين ، بل قال : والمؤمنون يقولون : آمنا به ، فإن كل مؤمن يجب عليه أن يؤمن به ، فلما خص الراسخين في العلم بالذكر علم أنهم امتازوا بعلم تأويله فعلموه ؛ لأنهم عالمون ، وآمنوا به ؛ لأنهم يؤمنون .

                          وكان إيمانهم به مع العلم أكمل في الوصف ، وقد قال عقب ذلك : وما يذكر إلا أولو الألباب وهذا يدل على أن هنا تذكرا يختص به أولو الألباب فإن كان ما ثم إلا إيمان بالألفاظ فلا يذكر لما يدلهم على ما أريد بالمتشابه ونظير هذا قوله في الآية الأخرى لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك فلما وصفوهم بالرسوخ في العلم وأنهم يؤمنون قرن بهم المؤمنين ، فلو أريد هنا مجرد الإيمان لقال : والراسخون في العلم والمؤمنون يقولون آمنا به ، كما قال في تلك الآية لما كان مراده مجرد الاختبار بالإيمان جمع بين الطائفتين .

                          [ ص: 147 ] " قالوا : وأما الذم فإنما وقع على من يتبع المتشابه لابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، وهو حال أهل القصد الفاسد الذين يريدون القدح في القرآن ، فلا يطلبون إلا المتشابه لإفساد القلوب وهي فتنتها به ويطلبون تأويله ، وليس طلبهم لتأويله لأجل العلم والاهتداء بل لإجل الفتنة ، وكذلك صبيغ بن عسل ضربه عمر ؛ لأن قصده بالسؤال عن المتشابه كان لابتغاء الفتنة . وهذا كمن يورد أسئلة إشكالات على كلام الغير ويقول : ماذا أريد بكذا ؟ وغرضه التشكيك والطعن فيه ، ليس غرضه معرفة الحق ، وهؤلاء هم الذين عناهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه ولهذا يتبعون أي يطلبون المتشابه ويقصدونه دون المحكم مثل المستتبع للشيء الذي يتحراه ويقصده وهذا فعل من قصده الفتنة ، وأما من سأل عن معنى المتشابه ليعرفه ويزيل ما عرض له من الشبهة وهو عالم بالمحكم متبع له مؤمن بالمتشابه لا يقصد فتنة ، فهذا لم يذمه الله . وهكذا كان الصحابة - رضي الله عنهم - يقولون مثل الأثر المعروف الذي رواه إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني : حدثنا يزيد بن عبد ربه ثنا بقية ثنا عتبة بن أبي حكيم ثني عمارة بن راشد الكنائي عن زياد عن معاذ بن جبل قال : " يقرأ القرآن رجلان فرجل له فيه هوى ونية يفليه فلي الرأس يلتمس أن يجد فيه أمرا يخرج به على الناس ، أولئك شرار أمتهم ، أولئك يعمي الله عليهم سبل الهدى ، ورجل يقرؤه ليس له فيه هوى ولا نية يفليه فلي الرأس ، فما تبين له منه عمل به وما اشتبه عليه وكله إلى الله ، ليتفقهن أولئك فقها ما فقهه قوم قط ، حتى لو أن أحدهم مكث عشرين سنة فليبعثن الله له من يبين له الآية التي أشكلت عليه أو يفهمه إياها من قبل نفسه " قال بقية : استهدى ابن عيينة حديث عتبة هذا ، فهذا معاذ يذم من اتبع المتشابه لقصد الفتنة ، وأما من قصده الفقه فقد أخبر أن الله لا بد أن يفقهه المتشابه فقها ما فقهه قوم قط .

                          " قالوا : والدليل على ذلك أن الصحابة كانوا إذا عرض لأحدهم شبهة في آية أو حديث سأل عن ذلك كما سأل عمر فقال : " ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به " وسأله أيضا عمر : " ما بالنا نقصر الصلاة وقد أمنا ؟ " ولما نزل قوله : ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [ 6 : 82 ] شق عليهم وقالوا : أينا لم يظلم نفسه ؟ حتى بين لهم ، ولما نزل قوله : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله [ 2 : 284 ] شق عليهم حتى بين لهم الحكمة في ذلك ، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم : من نوقش الحساب عذب قالت عائشة : " ألم يقل الله : فسوف يحاسب حسابا يسيرا ؟ " قال : إنما ذلك العرض قالوا : والدليل على ما قلناه إجماع السلف ، فإنهم فسروا جميع القرآن . وقال مجاهد : " عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عندها " وتلقوا ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال أبو عبد الرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 148 ] عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل . قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا . وكلام أهل التفسير من الصحابة والتابعين شامل لجميع ألفاظ القرآن إلا ما قد يشكل على بعضهم فيقف فيه لا لأن أحدا من الناس لا يعلمه . لكن لأنه هو لم يعلمه . وأيضا فإن الله قد أمر بتدبر القرآن مطلقا ولم يستثن منه شيئا لا يتدبر ، ولا قال : لا تدبروا المتشابه . والتدبر بدون الفهم ممتنع ، ولو كان من القرآن ما لا يتدبر لم يعرف ، فإن الله لم يميز المتشابه بحد ظاهر حتى يجتنب تدبره ، وهذا أيضا مما يحتجون به ويقولون : المتشابه أمر نسبي إضافي ، فقد يشتبه على هذا ما لا يشتبه على غيره ، قال : لأن الله أخبر أن القرآن بيان وهدى وشفاء ونور ، لم يستثن منه شيئا عن هذا الوصف ، وهذا ممتنع بدون فهم المعنى .

                          " قالوا : ولأن من العظيم أن يقال إن الله أنزل على نبيه كلاما لم يكن يفهم معناه لا هو ولا جبريل ، بل وعلى قول هؤلاء كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدث بأحاديث الصفات والقدر والمعاد ونحو ذلك مما هو نظير متشابه القرآن عندهم ، ولم يكن يعرف معنى ما يقوله . وهذا لا يظن بأقل الناس ، وأيضا فالكلام إنما المقصود به الإفهام ، فإذا لم يقصد به ذلك كان عبثا وباطلا والله - تعالى - قد نزه نفسه عن فعل الباطل والعبث ، فكيف يقول الباطل والعبث ويتكلم بكلام نزله على خلقه لا يريد به إفهامهم ؟ وهذا من أقوى حجج الملحدين ، وأيضا فما في القرآن آية إلا وقد تكلم الصحابة والتابعون لهم في معناها وبينوا ذلك ، وإذا قيل : فقد يختلفون في آيات الأمر والنهي مما اتفق المسلمون على أن الراسخين في العلم يعلمون معناها ، وهذا أيضا مما يدل على أن الراسخين في العلم يعلمون تفسير المتشابه ، فإن المتشابه قد يكون في آيات الأمر والنهي كما يكون في آيات الخير ، وتلك مما اتفق العلماء على معرفة الراسخين لمعناها فكذلك الأخرى ، فإنه على قول النفاة لم يعلم معنى للمتشابه إلا الله لا ملك ولا رسول ولا عالم ، وهذا خلاف إجماع المسلمين في متشابه الأمر والنهي .

                          " وأيضا فلفظ التأويل يكون للمحكم كما يكون للمتشابه كما دل القرآن والسنة وأقوال الصحابة على ذلك وهم يعلمون معنى المحكم ، فكذلك معنى المتشابه ، وأي فضيلة في المتشابه حتى ينفرد الله بعلم معناه والمحكم أفضل منه ، وقد بين معناه لعباده ، فأي فضيلة في المتشابه حتى يستأثر الله بعلم معناه ؟ وما استأثر الله بعلمه كوقت الساعة لم ينزل خطابا ولم يذكر في القرآن آية تدل على وقت الساعة ، ونحن نعلم أن الله استأثر بأشياء لم يطلع عباده عليها ، وإنما النزاع في كلام أنزله وأخبر أنه هدى وبيان وشفاء ، وأمر بتدبره ، ثم يقال : إن منه ما لا يعرف معناه إلا الله ، ولم يبين الله ولا رسوله ذلك القدر الذي لا يعرف أحد معناه ؟ ولهذا صار كل من أعرض عن آيات لا يؤمن بمعناها يجعلها من المتشابه بمجرد دعواه ، [ ص: 149 ] ثم سبب نزول الآية قصة أهل نجران وقد احتجوا بقوله : ( إنا ) و ( نحن ) وبقوله ( كلمة منه ) ، ( وروح منه ) وهذا قد اتفق المسلمون على معرفة معناه ، فكيف يقال : إن المتشابه لا يعرف معناه لا الملائكة ولا الأنبياء ولا أحد من السلف وهو من كلام الله الذي أنزله إلينا وأمرنا أن نتدبره ونعقله وأخبر أنه بيان وهدى وشفاء ونور ؟ وليس المراد من الكلام إلا معانيه ، ولولا المعنى لم يجز التكلم بلفظ لا معنى له ، وقد قال الحسن : " ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم فيماذا أنزلت وماذا عني بها " .

                          " ومن قال : إن سبب نزول الآية سؤال اليهود عن حروف المعجم في ( الم ) بحساب الجمل فهذا نقل باطل ، أما أولا : فلأنه من رواية الكلبي . وأما ثانيا : فهذا قد قيل إنهم قالوه في أول مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، وسورة آل عمران إنما نزل صدرها متأخرا لما قدم وفد نجران بالنقل المستفيض المتواتر ، وفيها فرض الحج وإنما فرض سنة تسع أو عشر ولم يفرض في أول الهجرة باتفاق المسلمين . وأما ثالثا : فلأن حروف المعجم ودلالة الحرف على بقاء هذه الأمة ليس هو من تأويل القرآن الذي استأثر الله بعلمه ، بل إما أن يقال : إنه ليس مما أراده الله بكلامه فلا يقال إنه انفرد بعلمه ، بل دعوى دلالة الحروف على ذلك باطلة ، وإما أن يقال : بل يدل عليه وقد علم بعض الناس ما يدل عليه ، وحينئذ فقد علم الناس بذلك ، أما دعوى دلالة القرآن على ذلك وأن أحدا لا يعلمه فهذا هو الباطل ، وأيضا فإذا كانت الأمور العلمية التي أخبر الله بها في القرآن لا يعرفها الرسول كان هذا من أعظم قدح الملاحدة فيه وكان حجة لما يقولونه من أنه كان لا يعرف الأمور العلمية أو أنه كان يعرفها ولم يبينها ، بل هذا القول يقتضي أنه لم يكن يعلمها فإن ما لا يعلمه إلا الله لا يعلمه النبي ولا غيره .

                          " وبالجملة فالدلائل الكثيرة توجب القطع ببطلان قول من يقول : إن في القرآن آيات لا يعلم معناها الرسول ولا غيره . نعم قد يكون في القرآن آيات لا يعلم معناها كثير من العلماء فضلا عن غيرهم وليس ذلك في آية معينة بل قد يشكل على هذا ما يعرفه هذا . وذلك تارة يكون لغرابة اللفظ ، وتارة لاشتباه المعنى بغيره ، وتارة لشبهة في نفس الإنسان تمنعه من معرفة الحق ، وتارة لعدم التدبر التام ، وتارة لغير ذلك من الأسباب ، فيجب القطع بأن قوله : وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به أن الصواب قول من يجعله معطوفا ويجعل الواو لعطف مفرد أو يكون كلا القولين حقا وهي قراءتان ، والتأويل المنفي غير التأويل المثبت ، وإن كان الصواب هو قول من يجعلها واو استئناف فيكون التأويل المنفي علمه عن غير الله هو الكيفيات التي لا يعلمها غيره . وهذا فيه نظر ، وابن عباس جاء عنه أنه قال : " أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله " وجاء عنه أن [ ص: 150 ] الراسخين لا يعلمون تأويله ، وجاء عنه أنه قال : " التفسير على أربعة أوجه ، تفسير تعرفه العرب من كلامها ، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلا الله ومن ادعى علمه فهو كاذب " وهذا القول يجمع القولين ويبين أن العلماء يعلمون من تفسيره ما لا يعلمه غيرهم وأن فيه ما لا يعلمه إلا الله .

                          " فأما من جعل الصواب قول من جعل الوقف عند قوله : إلا الله وجعل التأويل بمعنى التفسير فهذا خطأ ، وأما التأويل بالمعنى الثالث وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح ، فهذا الاصطلاح لم يكن بعد عرف في عهد الصحابة بل ولا التابعين بل ولا الأئمة الأربعة ولا كان التكلم بهذا الاصطلاح معروفا في القرون الثلاثة بل ولا علمت أحدا فيهم خص لفظ التأويل بهذا ، ولكن لما صار تخصيص لفظ التأويل بهذا شائعا في عرف كثير من المتأخرين فطنوا أن التأويل في الآية هذا معناه صاروا يعتقدون أن لمتشابه القرآن معاني تخالف ما يفهم منه ، وفرقوا دينهم بعد ذلك وصاروا شيعا ، والمتشابه المذكور الذي كان سبب نزول الآية لا يدل ظاهره على معنى فاسد ، وإنما الخطأ في فهم السامع . نعم قد يقال : إن مجرد هذا الخطاب لا يبين كمال المطلوب ، ولكن فرق بين عدم دلالته على المطلوب وبين دلالته على نقيض المطلوب ; فهذا الثاني هو المنفي ، بل وليس في القرآن ما يدل على الباطل ألبتة كما قد بسط في موضعه ولكن كثيرا من الناس يزعم أن لظاهر الآية معنى ، إما معنى يعتقده وإما معنى باطلا فيحتاج إلى تأويله ويكون ما قاله باطلا لا تدل الآية على معتقده ولا على المعنى الباطل . وهذا كثير جدا ، وهؤلاء هم الذين يجعلون القرآن كثيرا ما يحتاج إلى التأويل المحدث وهو صرف اللفظ عن مدلوله إلى خلاف مدلوله .

                          " ومما يحتج به من قال : الراسخون في العلم يعلمون التأويل ما ثبت في صحيح البخاري وغيره عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا له وقال : اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل فقد دعا له بعلم التأويل مطلقا ، وابن عباس فسر القرآن كله . قال مجاهد : " عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره أقفه عند كل آية وأسأله عنها وكان يقول : أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله " وأيضا فالنقول متواترة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه تكلم في جميع معاني القرآن من الأمر والخبر ; فله من الكلام في الأسماء والصفات والوعد والوعيد والقصص ومن الكلام في الأمر والنهي والأحكام ما يبين أنه كان يتكلم في جميع معاني القرآن ، وأيضا فقد قال ابن مسعود : " ما من آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم فيماذا أنزلت " وأيضا فإنهم متفقون على أن آيات الأحكام يعلم تأويلها وهي نحو خمسمائة آية وسائر القرآن خبر عن الله وأسمائه وصفاته ، أو عن اليوم الآخر والجنة [ ص: 151 ] والنار أو عن القصص وعاقبة أهل الإيمان وعاقبة أهل الكفر ، فإن كان هذا هو المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله ، فجمهور القرآن لا يعرف أحد معناه لا الرسول ولا أحد من الأمة ، ومعلوم أن هذا مكابرة ظاهرة ، وأيضا فمعلوم أن العلم بتأويل الرؤيا أصعب من العلم بتأويل الكلام الذي يخبر به ، فإن دلالة الرؤيا على تأويلها دلالة خفية غامضة لا يهتدي لها جمهور الناس ، بخلاف دلالة لفظ الكلام على معناه ، فإذا كان الله قد علم عباده تأويل الأحاديث التي يرونها في المنام فلأن يعلمهم تأويل الكلام العربي المبين الذي ينزله على أنبيائه بطريق الأولى والأحرى . قال يعقوب ليوسف : وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث [ 12 : 6 ] وقال يوسف : رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث [ 12 : 101 ] وقال : لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما [ 12 : 37 ] " وأيضا فقد ذم الله الكفار بقوله : أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله [ 10 : 38 ، 39 ] وقال : ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون [ 27 : 83 ، 84 ] وهذا ذام لمن كذب بما لم يحط بعلمه ، فما قاله الناس من الأقوال المختلفة في تفسير القرآن وتأويله ليس لأحد أن يصدق بقول دون قول بلا علم ولا يكذب بشيء منها إلا أن يحيط بعلمه . وهذا لا يمكن إلا إذا عرف الحق الذي أريد بالآية ، فيعلم أن ما سواه باطل ، فيكذب بالباطل الذي أحاط بعلمه ، وأما إذا لم يعرف معناها ولم يحط بشيء منها علما فلا يجوز له التكذيب بشيء منها مع أن الأقوال المتناقضة بعضها باطل قطعا ، ويكون حينئذ المكذب بالقرآن كالمكذب بالأقوال المتناقضة ، والمكذب بالحق كالمكذب بالباطل ; وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم .

                          " وأيضا فإنه إن بني على ما يعتقده من أنه لا يعلم معاني الآيات الخبرية إلا الله لزمه أن يكذب كل من احتج بآية خبرية من القرآن على شيء من أمور الإيمان بالله واليوم الآخر ، ومن تكلم في تفسير ذلك ، وكذلك يلزم مثل ذلك في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإن قال : المتشابه هو بعض الخبريات لزمه أن يبين فصلا يتبين به ما يجوز أن يعلم معناه من آيات القرآن وما لا يجوز أن يعلم معناه ، بحيث لا يجوز أن يعلم معناه لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا أحد من الصحابة ولا غيرهم . ومعلوم أنه لا يمكن لأحد ذكر حد فاصل بين ما يجوز أن يعلم معناه بعض الناس وبين ما لا يجوز أن يعلم معناه أحد ، ولو ذكر ما ذكر انتقض عليه ، فعلم أن المتشابه ليس هو الذي لا يمكن لأحد معرفة معناه وهذا دليل مستقل في المسألة .

                          [ ص: 152 ] " وأيضا فقوله : لم يحيطوا بعلمه و أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما ذم لهم على عدم الإحاطة مع التكذيب ، ولو كان الناس كلهم مشتركين في عدم الإحاطة بعلم المتشابه لم يكن في ذمهم بهذا الوصف فائدة ، ولكان الذم على مجرد التكذيب ، فإن هذا بمنزلة أن يقال : أكذبتم بما لم تحيطوا به علما ، ولا يحيط به علما إلا الله ؟ ومن كذب بما لا يعلمه إلا الله كان أقرب إلى العذر من أن يكذب بما يعلمه الناس ، فلو لم يحط به علما الراسخون كان ترك هذا الوصف أقرب في ذمهم من ذكره .

                          " ويتبين هذا بوجه آخر هو دليل في المسألة : وهو أن الله ذم الزائغين بالجهل وسوء القصد ، فإنهم يقصدون المتشابه يبتغون تأويله ولا يعلم تأويله إلا الراسخون في العلم وليسوا منهم ، وهم يقصدون الفتنة لا يقصدون العلم والحق . وهذا كقوله - تعالى - : ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون [ 8 : 23 ] فإن المعنى بقوله : أسمعهم أفهمهم القرآن ، يقول : لو علم الله فيهم حسن قصد وقبول للحق لأفهمهم القرآن ، لكن لو أفهمهم لتولوا عن الإيمان وقبول الحق لسوء قصدهم ، فهم جاهلون ظالمون ، كذلك الذين في قلوبهم زيغ هم مذمومون بسوء القصد مع طلب علم ما ليسوا من أهله ، وليس إذا عيب هؤلاء على العلم ومنعوه يعاب من حسن قصده وجعله الله من الراسخين في العلم .

                          " فإن قيل : فأكثر السلف على أن الراسخين في العلم لا يعلمون التأويل وكذلك أكثر أهل اللغة ، يروى هذا عن ابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وعروة وقتادة وعمر بن عبد العزيز والفراء وأبي عبيد وثعلب وابن الأنباري ، قال ابن الأنباري في قراءة عبد الله : إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم ، وفي قراءة أبي وابن عباس : ويقول الراسخون في العلم . قال : وقد أنزل الله في كتابه أشياء استأثر بعلمها كقوله - تعالى - : قل إنما علمها عند الله [ 7 : 187 ] وقوله : وقرونا بين ذلك كثيرا [ 25 : 38 ] فأنزل المحكم ليؤمن به المؤمن فيسعد ، ويكفر به الكافر فيشقى . قال ابن الأنباري : والذي يروي القول الآخر عن مجاهد هو ابن أبي نجيح ولا تصح روايته التفسير عن مجاهد ، فيقال : قول القائل إن أكثر السلف على هذا قول بلا علم ، فإنه لم يثبت عن أحد من الصحابة أنه قال : إن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه ، بل الثابت عن الصحابة أن المتشابه يعلمه الراسخون ، وما ذكر من قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب ليس لها إسناد يعرف حتى يحتج بها . والمعروف عن ابن مسعود أنه كان يقول : " ما في كتاب الله آية إلا وأنا أعلم فيماذا أنزلت " وقال أبو عبد الرحمن السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن : عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما : " أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي - صلى الله [ ص: 153 ] عليه وسلم - عشر آيات لم يجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل " وهذا أمر مشهور رواه الناس عامة : أهل الحديث والتفسير ، وله إسناد معروف بخلاف ما ذكر من قراءتهما ، وكذلك ابن عباس قد عرف عنه أنه كان يقول : " أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله " وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه دعا له بعلم تأويل الكتاب ، فكيف لا يعلم التأويل ؟ مع أن قراءة عبد الله " إن تأويله إلا عند الله " لا تناقض هذا القول ، فإن نفس التأويل لا يأتي به إلا الله كما قال - تعالى - : هل ينظرون إلا تأويله [ 7 : 53 ] وقال : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله [ 10 : 39 ] وقد اشتهر عن عامة السلف أن الوعد والوعيد من المتشابه ، وتأويل ذلك هو مجيء الموعود به ، وذلك عند الله لا يأتي به إلا هو ، وليس في القرآن : إن علم تأويله إلا عند الله . كما قال في الساعة : يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء [ 7 : 187 ، 188 ] وكذلك لما قال فرعون لموسى : فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى [ 20 : 51 ، 52 ] فلو كانت قراءة ابن مسعود نفي العلم عن الراسخين لكانت : إن علم تأويله إلا عند الله ، لم يقرأ ( إن تأويله إلا عند الله ) . فإن هذا حق بلا نزاع .

                          " وأما القراءة الأخرى المروية عن أبي وابن عباس فقد نقل عن ابن عباس ما يناقضها ، وأخص أصحابه بالتفسير مجاهد وعلى تفسير مجاهد يعتمد أكثر الأئمة كالثوري والشافعي وأحمد بن حنبل والبخاري . قال الثوري : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به ، والشافعي في كتبه أكثر الذي ينقله عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وكذلك البخاري في صحيحه يعتمد على هذا التفسير ، وقول القائل لا تصح رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد : جوابه أن تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد من أصح التفاسير ، بل ليس بأيدي أهل التفسير كتاب في التفسير أصح من تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد ، إلا أن يكون نظيره في الصحة ثم معه ما يصدقه ، وهو قوله : عرضت المصحف على ابن عباس أقفه عند كل آية وأسأله عنها ، وأيضا فأبي بن كعب - رضي الله عنه - قد عرف أنه كان يفسر ما تشابه من القرآن كما فسر قوله : فأرسلنا إليها روحنا [ 19 : 17 ] وفسر قوله : الله نور السماوات والأرض [ 24 : 35 ] وقوله : وإذ أخذ ربك [ 7 : 172 ] ونقل ذلك معروف عنه بالإسناد أثبت من نقل هذه القراءة التي لا يعرف لها إسناد ، وقد كان يسأل عن المتشابه من معنى القرآن فيجيب عنه كما سأله عمر . وسئل عن ليلة القدر ( كذا ) .

                          [ ص: 154 ] وأما قوله : إن الله أنزل المجمل ليؤمن به المؤمن فيقال : هذا حق ، لكن هل في الكتاب والسنة أو قول أحد السلف أن الأنبياء والملائكة والصحابة لا يفهمون ذلك الكلام المجمل ، أم العلماء متفقون على أن المجمل في القرآن يفهم معناه ويعرف ما فيه من الإجمال كما مثل به من وقت الساعة ؟ فقد علم المسلمون كلهم معنى الكلام الذي أخبر الله به عن الساعة وأنها آتية لا محالة وأن الله انفرد بعلم وقتها فلم يطلع على ذلك أحدا ، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله السائل عن الساعة وهو في الظاهر أعرابي لا يعرف قال له : متى الساعة ؟ قال : " ما المسئول عنه بأعلم من السائل " ولم يقل : إن الكلام الذي نزل في ذكرها لا يفهمه أحد ، بل هذا خلاف إجماع المسلمين بل والعقلاء . فإن إخبار الله عن الساعة وأشراطها كلام بين واضح يفهم معناه ، وكذلك قوله : وقرونا بين ذلك كثيرا [ 25 : 38 ] قد علم المراد بهذا الخطاب ، وأن الله خلق قرونا كثيرة لا يعلم عددهم إلا الله كما قال : وما يعلم جنود ربك إلا هو [ 74 : 31 ] فأي شيء من هذا مما يدل على أن ما أخبر الله به من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر لا يفهم معناه أحد لا من الملائكة والأنبياء ولا الصحابة ولا غيرهم ؟ وأما ما ذكر عن عروة ، فعروة قد عرف من طريقه أنه كان لا يفسر عامة آي القرآن إلا آيات قليلة رواها عن عائشة ، ومعلوم أنه إذا لم يعرف عروة التفسير لم يلزم أنه لا يعرفه غيره من الخلفاء الراشدين وعلماء الصحابة كابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وغيرهم .

                          " وأما اللغويون الذين يقولون : إن الراسخين لا يعلمون معنى المتشابه فهم متناقضون في ذلك ، فإن هؤلاء كلهم يتكلمون في تفسير كل شيء في القرآن ويتوسعون في القول في ذلك حتى ما منهم أحد إلا وقد قال في ذلك أقوالا لم يسبق إليها وهي خطأ ، وابن الأنباري الذي بالغ في نصر ذلك القول هو من أكثر الناس كلاما في معاني الآي المتشابهات يذكر فيها من الأقوال ما لم ينقل عن أحد من السلف ، ويحتج لما يقوله في القرآن بالشاذ من اللغة ، وهو قصده بذلك الإنكار على ابن قتيبة ، وليس هو أعلم بمعاني القرآن والحديث ولا أتبع للسنة من ابن قتيبة ولا أفقه في ذلك ، وإن كان ابن الأنباري من أحفظ الناس للغة ، لكن باب فقه النصوص غير باب حفظ ألفاظ اللغة ، وقد نقم هو وغيره على ابن قتيبة كونه رد على أبي عبيد أشياء من تفسير غريب الحديث ، وابن قتيبة قد اعتذر عن ذلك وسلك في ذلك مسلك أمثاله من أهل العلم ، وهو وأمثاله يصيبون تارة ويخطئون أخرى ، فإن كان المتشابه لا يعلم معناه إلا الله فهم كلهم يجترئون على الله يتكلمون في شيء لا سبيل إلى معرفته ، وإن كان ما بينوه من معاني المتشابه قد أصابوا فيه ولو في كلمة واحدة ظهر خطؤهم في قولهم : إن المتشابه لا يعلم معناه إلا الله ، ولا يعلمه أحد من المخلوقين ، فليختر من ينصر [ ص: 155 ] قولهم هذا أو ذاك ، ومعلوم أنهم أصابوا في شيء كثير مما يفسرون به المتشابه وأخطئوا في بعض ذلك ; فيكون تفسيرهم لهذه الآية مما أخطئوا فيه العلم اليقيني فإنهم أصابوا في كثير من تفسير المتشابه ، وكذلك ما نقل عن قتادة من أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه ، فكتابه في التفسير من أشهر الكتب ، ونقله ثابت عنه من رواية معمر عنه ، ومن رواية سعيد بن أبي عروبة عنه ; ولهذا كان المصنفون في التفسير عامتهم يذكرون قوله لصحة النقل . ومع هذا يفسر القرآن كله محكمه ومتشابهه .

                          " والذي اقتضى شهرة القول عن أهل السنة بأن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله ظهور التأويلات الباطلة من أهل البدع والجهمية والقدرية من المعتزلة وغيرهم ، فصار أولئك يتكلمون في تأويل القرآن برأيهم الفاسد وهذا أصل معروف لأهل البدع أنهم يفسرون القرآن برأيهم العقلي وتأويلهم اللغوي ، فتفاسير المعتزلة مملوءة بتأويل النصوص المثبتة للصفات والقدر على غير ما أراد الله ورسوله ، فإنكار السلف والأئمة لهذه التأويلات الفاسدة كما قال الإمام أحمد فيما كتبه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله .

                          " فهذا الذي أنكره السلف والأئمة من التأويل فجاء بعدهم قوم انتسبوا إلى السنة بغير خبرة تامة وبما يخالفها وظنوا أن المتشابه لا يعلم معناه إلا الله فظنوا أن معنى التأويل هو معناه في اصطلاح المتأخرين ، وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى المرجوح فصاروا في موضع يقولون وينصرون أن المتشابه لا يعلم معناه إلا الله ثم يتناقصون في ذلك من وجوه ( أحدها ) : أنهم يقولون : النصوص تجرى على ظواهرها ولا يزيدون على المعنى الظاهر منها ، ولهذا يبطلون كل تأويل يخالف الظاهر ويقررون المعنى الظاهر ويقولون مع هذا : إن له تأويلا لا يعلمه إلا الله ، والتأويل عندهم ما يناقض الظاهر ، فكيف يكون له تأويل يخالف الظاهر ؟ وقد قرر معناه الظاهر وهذا مما أنكره عليهم مناظروهم حتى أنكر ابن عقيل على شيخه القاضي أبي يعلى . ( ومنها ) أنا وجدنا هؤلاء كلهم لا يحتج عليهم بنص يخالف قولهم لا في مسألة أصلية ولا فرعية إلا تأولوا ذلك النص بتأويلات متكلفة مستخرجة من جنس تحريف الكلم عن مواضعه من جنس تأويلات الجهمية والقدرية التي تخالفهم ، فأين هذا من قولهم : لا يعلم معاني النصوص المتشابهة إلا الله ؟ واعتبر هذا بما تجده في كتبهم من مناظرتهم للمعتزلة على قولهم بالآيات التي تناقض قول هؤلاء ، مثل أن يحتجوا بقوله : والله لا يحب الفساد [ 2 : 205 ] ، ولا يرضى لعباده الكفر [ 39 : 7 ] ، وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ 51 : 56 ] ، لا تدركه الأبصار [ 6 : 103 ] ، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ 36 : 82 ] ، وإذ قال ربك للملائكة [ 2 : 30 ] ونحو ذلك كيف [ ص: 156 ] تجدهم يتأولون هذه النصوص بتأويلات غالبها فاسد وإن كان في بعضها حق ؟ فإن كان ما تأولوه حقا دل على أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه ، فظهر تناقضهم وإن كان باطلا فذلك أبعد لهم .

                          " وهذا أحمد بن حنبل إمام أهل السنة الصابر في المحنة الذي قد صار للمسلمين معيارا يفرقون به بين أهل السنة والبدعة ، لما صنف كتابه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله ، تكلم في معاني المتشابه الذي اتبعه الزائغون ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله آية آية ، وبين معناها وفسرها ليبين فساد تأويل الزائغين ، واحتج على أن الله يرى ، وأن القرآن غير مخلوق ، وأن الله فوق العرش ، بالحجج العقلية والسمعية ، ورد ما احتج به النفاة من الحجج العقلية والسمعية ، وبين معاني الآيات التي سماها هو متشابهة ، وفسرها آية آية . وكذلك لما ناظروه واحتجوا عليه بالنصوص جعل يفسرها آية آية وحديثا حديثا ، ويبين فساد ما تأولها عليه الزائغون ، ويبين هو معناها ، ولم يقل أحمد إن هذه الآيات والأحاديث لا يفهم معناها إلا الله ولا قال أحد له ذلك ، بل الطوائف كلها مجتمعة على إمكان معرفة معناها لكن يتنازعون في المراد كما يتنازعون في آيات الأمر والنهي وكذلك تفسير المتشابه من الآيات والأحاديث التي يحتج بها الزائغون من الخوارج وغيرهم كقوله - صلى الله عليه وسلم - : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الشارب الخمر حين يشرب وهو مؤمن وأمثال ذلك ، ويبطل قول المرجئة والجهمية وقول الخوارج والمعتزلة ، وكل هذه الطوائف تحتج بنصوص المتشابه على قولها ، ولم يقل أحد لا من أهل السنة ولا من هؤلاء لما يستدل به هو أو يستدل به عليه منازعه : هذه آيات وأحاديث لا يعلم معناها أحد من البشر ، فأمسكوا عن الاستدلال بها ، وكان الإمام أحمد ينكر طريقة أهل البدع الذين يفسرون القرآن برأيهم وتأويلهم من غير استدلال بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأقوال الصحابة والتابعين الذين بلغهم الصحابة معاني القرآن كما بلغوهم ألفاظه ونقلوا هذا كما نقلوا ذاك ، ولكن أهل البدع يتأولون النصوص بتأويلات تخالف مراد الله ورسوله ، ويدعون أن هذا هو التأويل الذي يعلمه الراسخون ، وهم مبطلون في ذلك لا سيما تأويلات القرامطة والباطنية الملاحدة ، وكذلك أهل الكلام المحدث من الجهمية والقدرية وغيرهم ، ولكن هؤلاء يعترفون بأنهم لا يعلمون التأويل ، وإنما غايتهم أن يقولوا : ظاهر هذه الآية غير مراد ، ولكن يحتمل أن يراد كذا وأن يراد كذا ، ولو تأولها الواحد منهم بتأويل معين فهو لا يعلم أنه مراد الله ورسوله ، بل يجوز أن يكون مراد الله ورسوله عندهم غير ذلك كالتأويلات التي يذكرونها في نصوص الكتاب كما يذكرونه في قوله : وجاء ربك والملك صفا صفا [ 89 : 22 ] " وينزل ربنا " [ ص: 157 ] و الرحمن على العرش استوى [ 20 : 2 ] ، وكلم الله موسى تكليما [ 4 : 164 ] ، وغضب الله عليهم [ 48 : 6 ] ، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ 36 : 82 ] وأمثال ذلك من النصوص ، فإن غاية ما عندهم يحتمل أن يراد به كذا ويجوز كذا ونحو ذلك ، وليس هذا علما بالتأويل ، وكذلك كل من ذكر في نص أقوالا واحتمالات ولم يعرف المراد فإنه لم يعرف تفسير ذلك وتأويله ، وإنما يعرف ذلك من عرف المراد .

                          " ومن زعم من الملاحدة أن الأدلة السمعية لا تفيد العلم فمضمون مدلولاته لا يعلم أحد تفسير المحكم ولا تفسير المتشابه ولا تأويل ذلك . وهذا إقرار منه على نفسه بأنه ليس من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويل المتشابه فضلا عن تأويل المحكم ، فإذا انضم إلى ذلك أن يكون كلامهم في العقليات فيه من السفسطة والتلبيس ما لا يكون معه دليل على الحق لم يكن عند هؤلاء لا معرفة بالسمعيات ولا بالعقليات ، وقد أخبر الله عن أهل النار أنهم قالوا : لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير [ 67 : 10 ] ومدح الذين إذا ذكروا بآياته لم يخروا عليها صما وعميانا ، والذين يفقهون ويعقلون . وذم الذين لا يفهمون ولا يعقلون في غير موضع من كتابه ، وأهل البدع المخالفون للكتاب والسنة يدعون العلم والعرفان والتحقيق ، وهم من أجهل الناس بالسمعيات والعقليات ، وهم يجعلون ألفاظا لهم مجملة متشابهة تتضمن حقا وباطلا يجعلونها هي الأصول المحكمة ، ويجعلون ما عارضها من نصوص الكتاب والسنة من المتشابه الذي لا يعلم معناه عندهم إلا الله وما يتأولونه بالاحتمالات لا يفيد ، فيجعلون البراهين شبهات ، والشبهات براهين كما قد بسط ذلك في موضع آخر " .

                          وقد نقل القاضي أبو يعلى عن الإمام أحمد أنه قال : " المحكم : ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان ، والمتشابه ما احتاج إلى بيان ، وكذلك قال الإمام أحمد في رواية . وعن الشافعي قال : المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا ، والمتشابه : ما احتمل من التأويل وجوها . وكذلك قال الإمام أحمد ، وكذلك قال ابن الأنباري : المحكم ما لم يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا والمتشابه الذي تعتوره التأويلات " . فيقال حينئذ : فجميع الأمة سلفها وخلفها يتكلمون في معاني القرآن التي تحتمل التأويلات ، وهؤلاء الذين يفسرون أن الراسخين في العلم لا يعلمون معنى المتشابه هم من أكثر الناس كلاما فيه . والأئمة كالشافعي وأحمد ومن قبلهم كلهم يتكلمون فيما يحتمل معاني ويرجحون بعضها على بعض بالأدلة في جميع مسائل العلم الأصولية والفروعية لا يعرف عن عالم من علماء المسلمين أنه قال عن نص احتج به محتج في مسألة : إن هذا لا يعرف أحد معناه فلا يحتج به ، ولو قال أحد ذلك لقيل له مثل ذلك ، وإذا ادعى في مسائل النزاع المشهورة بين الأئمة أن نصه محكم يعلم معناه ، وأن النص الآخر متشابه لا يعلم أحد معناه قوبل بمثل هذه الدعوى .

                          [ ص: 158 ] " وهذا بخلاف قول القائل : إن من المنصوص ما معناه جلي واضح ظاهر لا يحتمل إلا وجها واحدا لا يقع فيه اشتباه ، ومنها ما فيه خفاء واشتباه يعرف معناه الراسخون في العلم فإن هذا مستقيم صحيح ، وحينئذ فالخلف في المتشابه يدل على أنه كله يعرف معناه . فمن قال : إنه يعرف معناه يبين حجة على ذلك ، وأيضا فما ذكره السلف والخلف في المتشابه يدل على أنه كله يعرف معناه .

                          " فمن قال : إن المتشابه هو المنسوخ معروف . وهذا القول مأثور عن ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسدي وغيرهم ، وابن مسعود وابن عباس وقتادة هم الذين نقل عنهم أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله ، ومعلوم قطعا باتفاق المسلمين أن الراسخين يعلمون معنى المنسوخ ، فكان هذا النقل عنهم يناقض ذلك النقل ، ويدل على أنه كذب إن كان هذا صدقا وإلا تعارض النقلان عنهم . والمتواتر عنهم أن الراسخين يعلمون معنى المتشابه .

                          " القول الثاني مأثور عن جابر بن عبد الله أنه قال : المحكم ما علم العلماء تأويله ، والمتشابه ما لم يكن للعلماء إلى معرفته سبيل كقيام الساعة، ومعلوم أن وقت قيام الساعة مما اتفق المسلمون على أنه لا يعلمه إلا الله ; فإذا أريد بلفظ التأويل هذا كان المراد به لا يعلم وقت تأويله إلا الله ، وهذا حق ، ولا يدل ذلك على أنه لا يعرف معنى الخطاب بذلك ، وكذلك إن أريد بالتأويل حقائق ما يوجد ، وقيل : لا يعلم كيفية ذلك إلا الله . فهذا قد قدمناه ، وذكر أنه على قول هؤلاء من وقف عند قوله : وما يعلم تأويله إلا الله هو الذي يجب أن يراد بالتأويل التفسير ومعرفة المعنى ويقف على قوله : إلا الله فهذا خطأ مخالف للكتاب والسنة وإجماع المسلمين . ومن قال ذلك من المتأخرين فإنه متناقض ، يقول ذلك يقول ما يناقضه وهذا القول يناقض الإيمان بالله ورسوله من وجوه كثيرة ، ويوجب القدح في الرسالة ، ولا ريب في أن الذين قالوه لم يتدبروا لوازمه وحقيقة ما أطلقوه ، وكان أكبر قصدهم دفع تأويلات أهل البدع المتشابهة ، وهذا الذي قصدوه حق ، وكل مسلم يوافقهم عليه ، لكن لا ندفع باطلا بباطل آخر ، ولا نرد بدعة ببدعة ، ولا نرد تفسير أهل الباطل للقرآن بأن يقال : الرسول والصحابة كانوا لا يعرفون تفسير ما تشابه من القرآن ، ففي هذا من الظن في الرسول وسلف الأمة ما قد يكون أعظم من خطأ طائفة في تفسير بعض الآيات ، والعاقل لا يبني قصرا ويهدم مصرا .

                          " والقول الثالث : أن المتشابه الحروف المقطعة في أوائل السور . يروى هذا عن ابن عباس . وعلى هذا القول فالحروف المقطعة ليست كلاما تاما من الجمل الاسمية والفعلية وإنما هي أسماء موقوفة ، ولهذا لم تعرب فإن الإعراب إنما يكون بعد العقد والتركيب وإنما [ ص: 159 ] نطق بها موقوفة . كما يقال : أ ب ت ولهذا تكتب بصورة الحرف لا بصورة الاسم الذي ينطق به ; فإنها في النطق أسماء ، ولهذا لما سأل الخليل أصحابه عن النطق بالزاي من زيد قالوا : زا ، قال : نطقتم بالاسم ، وإنما النطق بالحروف زه ، فهي في اللفظ أسماء وفي الخط حروف مقطعة ( الم ) لا تكتب ألف لام ميم كما يكتب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات ، أما إني لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف والحرف في لغة الرسول وأصحابه يتناوله الذي يسميه النحاة اسما وفعلا وحرفا ; لهذا قال سيبويه في تقسيم الكلام : اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا بفعل ; فإنه لما كان معروفا من اللغة أن الاسم حرف والفعل حرف خص هذا القسم الثالث الذي يطلق النحاة عليه الحرف أنه جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل ، وهذه حروف المعاني التي يتألف منها الكلام ، وأما حروف الهجاء فتلك إنما تكتب في صورة الحرف المجرد وينطق بها غير معربة ولا يقال فيها معرب ولا مبني ; لأن ذلك إنما يقال في المؤلف ، فإذا كان على هذا القول كل ما سوى هذه محكما حصل المقصود ، فإنه ليس المقصود إلا معرفة كلام الله وكلام رسوله . ثم يقال : هذه الحروف قد تكلم في معناها أكثر الناس ، فإن كان معناها معروفا فقد عرف معنى المتشابه ، وإن لم يكن معروفا - وهو المتشابه - كان ما سواها معلوم المعنى وهذا هو المطلوب ، وأيضا فإن الله - تعالى - قال : منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات وهذه الحروف ليست آيات عند جمهور العلماء ، وإنما يعدها آيات الكوفيون . وسبب نزول هذه الآية الصحيح يدل على أن غيرها أيضا متشابه .

                          ولكن هذا القول يوافق ما نقل عن اليهود من طلب علم المدد من حروف الهجاء .

                          والرابع : أن المتشابه ما اشتبهت معانيه قاله مجاهد . وهذا يوافق قول أكثر العلماء وكلهم يتكلم في تفسير هذا المتشابه ويبين معناه .

                          والخامس : أن المتشابه ما تكررت ألفاظه ، قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال : " المحكم : ما ذكر الله في كتابه من قصص الأنبياء ففصله وبينه ، والمتشابه : هو ما اختلفت ألفاظه في قصصهم عند التكرير ، كما قال في موضع من قصة نوح : احمل فيها [ 11 : 40 ] وقال في موضع آخر : فاسلك فيها [ 23 : 27 ] وقال في عصا موسى : فإذا هي حية تسعى [ 20 : 20 ] وفي موضع : فإذا هي ثعبان مبين [ 7 : 107 ] " وصاحب هذا القول جعل المتشابه اختلاف اللفظ مع اتفاق المعنى كما يشتبه على حافظ القرآن هذا اللفظ بذاك اللفظ ، وقد صنف بعضهم في هذا المتشابه ; لأن القصة الواحدة يتشابه معناها في الموضعين ، فاشتبه على القارئ أحد اللفظين بالآخر ، وهذا المتشابه لا ينفي معرفة المعاني بلا ريب ، ولا يقال [ ص: 160 ] في مثل هذا : إن الراسخين يختصون بعلم تأويله . فهذا القول إن كان صحيحا كان حجة لنا وإن كان ضعيفا لم يضرنا .

                          والسادس : أنه ما احتاج إلى بيان كما نقل عن أحمد .

                          والسابع : أنه ما احتمل وجوها كما نقل عن الشافعي وأحمد ، وقد نقل عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه قال : " إنك لا تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوها " وقد صنف الناس كتب الوجوه والنظائر ، فالنظائر : اللفظ الذي اتفق معناه في الموضعين وأكثر ، والوجوه : الذي اختلف معناه ، كما يقال الأسماء المتواطئة والمشتركة وإن كان بينهما فرق - لبسطه موضع آخر - وقد قيل هي نظائر في اللفظ ومعانيها مختلفة ، فتكون كالمشتركة ، وليس كذلك ، بل الصواب أن المراد بالوجوه والنظائر هو الأول ، وقد تكلم المسلمون سلفهم وخلفهم في معاني الوجوه وفيما يحتاج إلى بيان وما يحتمل وجوها ، فعلم يقينا أن المسلمين متفقون على أن جميع القرآن مما يمكن للعلماء معرفة معانيه .

                          واعلم أن من قال إن من القرآن كلاما لا يفهم أحد معناه ولا يعرف معناه إلا الله فإنه مخالف لإجماعه الأمة مع مخالفته للكتاب والسنة .

                          والثامن : أن المتشابه هو القصص والأمثال ، وهذا أيضا يعرف معناه .

                          والتاسع : أنه ما يؤمن به ولا يعمل به . وهذا أيضا مما يعرف معناه .

                          والعاشر : قول بعض المتأخرين : إن المتشابه آيات الصفات وأحاديث الصفات ، وهذا أيضا مما يعلم معناه فإن أكثر آيات الصفات اتفق المسلمون على أنه يعرف معناها والبعض الذي تنازع الناس في معناه إنما ذم السلف منه تأويلات الجهمية ونفوا علم الناس بكيفيته كقول مالك : " الاستواء معلوم والكيف مجهول " وكذلك قال سائر أئمة السنة وحينئذ ففرق بين المعنى المعلوم وبين الكيف المجهول ، فإن سمي الكيف تأويلا ساغ أن يقال هذا التأويل لا يعلمه إلا الله كما قدمناه أولا . وأما إذا جعل المعنى وتفسيره تأويلا كما يجعل معرفة سائر آيات القرآن تأويلا ، وقيل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجبريل والصحابة والتابعين ما كانوا يعرفون معنى قوله : الرحمن على العرش استوى [ 20 : 5 ] ولا يعرفون معنى قوله : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي [ 38 : 75 ] ولا معنى قوله : وغضب الله عليهم [ 48 : 6 ] بل هذا عندهم بمنزلة الكلام العجمي الذي لا يفهمه العربي ، وكذلك إذا قيل كان عندهم قوله - تعالى - : وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه [ 39 : 67 ] وقوله : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار [ 6 : 103 ] وقوله : وكان الله سميعا بصيرا [ 4 : 134 ] وقوله : [ ص: 161 ] رضي الله عنهم ورضوا عنه [ 98 : 8 ] وقوله : ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه [ 47 : 28 ] وقوله : وأحسنوا إن الله يحب المحسنين [ 2 : 195 ] . وقوله : وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون [ 9 : 105 ] وقوله : إنا جعلناه قرآنا عربيا [ 43 : 3 ] وقوله : فأجره حتى يسمع كلام الله [ 9 : 6 ] وقوله : فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها [ 27 : 8 ] وقوله : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة [ 2 : 210 ] وقوله : وجاء ربك والملك صفا صفا [ 89 : 22 ] . هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك [ 6 : 158 ] ثم استوى إلى السماء وهي دخان [ 41 : 11 ] إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ 36 : 82 ] إلى أمثال هذه الآيات فمن قال عن جبريل ومحمد - صلوات الله عليهما - وعن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين والجماعة أنهم كانوا لا يعرفون شيئا من معاني هذه الآيات ، بل استأثر الله بعلم معناها كما استأثر بعلم وقت الساعة ، وإنما كانوا يقرءون ألفاظا لا يفهمون لها معنى ; كما يقرأ الإنسان كلاما لا يفهم منه شيئا فقد كذب على القوم . والنقول المتواترة عنهم تدل على نقيض هذا ، وأنهم كانوا يفهمون هذا كما يفهمون غيره من القرآن ، وإن كان كنه الرب - عز وجل - لا يحيط به العباد ولا يحصون ثناء عليه فذلك لا يمنع أن يعلموا من أسمائه وصفاته ما علمهم - سبحانه وتعالى - ، كما أنهم إذا علموا أنه بكل شيء عليم وأنه على كل شيء قدير لم يلزم أن يعرفوا كيفية علمه وقدرته ، وإذا عرفوا أنه حق موجود لم يلزم أن يعرفوا كيفية ذاته . وهذا مما يستدل به على أن الراسخين يعلمون التأويل فإن الناس متفقون على أنهم يعرفون تأويل المحكم ، ومعلوم أنهم لا يعرفون كيفية ما أخبر الله به عن نفسه في الآيات المحكمات ، فدل ذلك على أن عدم العلم بالكيفية لا ينفي العلم بالتأويل الذي هو تفسير الكلام وبيان معناه ، بل يعلمون تأويل المحكم والمتشابه ولا يعرفون كيفية الرب لا في هذا ولا في ذاك .

                          فإن قيل : هذا يقدح فيما ذكرتم من الفرق بين التأويل الذي يراد به التفسير وبين التأويل الذي في كتاب الله - تعالى - . قيل : لا يقدح في ذلك ; فإن معرفة تفسير اللفظ ومعناه وتصور ذلك في القلب غير معرفة الحقيقة الموجودة في الخارج المرادة بذلك الكلام ، فإن الشيء له وجود في الأعيان ووجود في الأذهان ووجود في اللسان ووجود في البيان ، فالكلام لفظ له معنى في القلب ويكتب ذلك اللفظ بالخط ، فإذا عرف الكلام وتصور معناه في القلب وعبر عنه باللسان فهذا غير الحقيقة الموجودة في الخارج ، وليس كل من عرف الأول عرف عين الثاني . مثال ذلك : أن أهل الكتاب يعلمون ما في كتبهم من صفة [ ص: 162 ] محمد - صلى الله عليه وسلم - وخبره ونعته ، وهذا معرفة الكلام ومعناه وتفسيره ، وتأويل ذلك هو نفس محمد المبعوث ، فالمعرفة بعينه معرفة تأويل ذلك الكلام ، وكذلك الإنسان قد يعرف الحج والمشاعر كالبيت والمساجد ومنى وعرفة ومزدلفة ويفهم معنى ذلك ولا يعرف الأمكنة حتى يشاهدها فيعرف أن الكعبة المشاهدة هي المذكورة في قوله : ولله على الناس حج البيت [ 3 : 97 ] وكذلك أرض عرفات هي المذكورة في قوله : فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله [ 2 : 198 ] وكذلك المشعر الحرام هي المزدلفة التي بين مأزمي عرفة ووادي محسر يعرف أنها المذكورة في قوله : فاذكروا الله عند المشعر الحرام [ 2 : 198 ] وكذلك الرؤيا يراها الرجل ويذكر له العابر تأويلها فيفهمه ويتصوره مثل أن يقول : هذا يدل على أنه كان كذا ويكون كذا وكذا ، ثم إذا كان ذلك فهو تأويل الرؤيا ، ليس تأويلها نفس علمه وتصوره وكلامه ; ولهذا قال يوسف الصديق : هذا تأويل رؤياي من قبل [ 12 : 100 ] وقال : لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما [ 12 : 37 ] فقد أنبأهما بالتأويل قبل أن يأتي التأويل وإن كان التأويل لم يقع بعد وإن كان لا يعرف متى يقع ، فنحن نعلم تأويل ما ذكر الله في القرآن من الوعد والوعيد ، وإن كنا لا نعرف متى يقع هذا التأويل المذكور في قوله - سبحانه - وتعالى : هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله [ 7 : 53 ] " الآية " .

                          ( أقول ) ثم إنه - رحمه الله - أطال في البيان والشواهد واحتج بالآيات الكثيرة التي تحث على فهم القرآن وتدبره وعلى العلم والعقل والفقه فيه ، وذكر أن بعضهم استدل بأن الله - تعالى - لم ينف عن غيره علم شيء إلا إذا كان منفردا به ، وذكر الآيات الشاهدة بذلك . ومنه علم الساعة والغيب فمن أراد التفصيل فليرجع إليه .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية