الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          قال : وهذه الأمة يدخل في عملها الأمور العامة التي هي من شأن الحكام وأمور العلم وطرق إفادته ونشره ، وتقرير الأحكام وأمور العامة الشخصية ، ويشترط فيها العلم بذلك ، ولذلك جعلت أمة ، وفي معنى الأمة القوة والاتحاد ، وهذه الأمور لا تتم إلا بالقوة والاتحاد ، فالأمة المتحدة لا تقهر ولا تغلب من الأفراد ، ولا تعتذر بالضعف يوما ما ، فتترك ما عهد [ ص: 32 ] إليها وهو ما لو ترك لتسرب الفساد إلى مجموع المسلمين . وقد كان المسلمون في الصدر الأول ولا سيما على عهد الخليفتين أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - على هذه الطريقة ، فقد كانت خاصة الصحابة الذين عاشروا النبي - صلى الله عليه وسلم - وتلقوا عنه متواصلين متكاتفين ، يشعر كل منهم بما يشعر به الآخر من الحاجة إلى نشر الإسلام وحفظه ، ومقاومة كل ما يمس شيئا من عقائده وآدابه وأحكامه ومصالح أهله ، وكان سائر المسلمين تبعا لهم ، ولا نتكلم هنا فيما طرأ على الإسلام فأزال تلك الوحدة ولكننا نذكر ما يجب أن تكون عليه الأمة الداعية إلى الخير الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر ، أي القائمة بالواجبات التي هي قوام الوحدة وحفاظها ، فإن أعمالها لا تتم إلا بأمور كثيرة . أقول : وذكر أمورا مجملة على سبيل المثال نفصلها ونزيد عليها فنقول :

                          ( 1 ) العلم التام بما يدعون إليه - ذكر الأستاذ ذلك ولم يبينه هنا ، وقال في موضع آخر : إن أول ما يجب على هؤلاء الدعاة العلم بالقرآن ، والعلم بالسنة وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - ، وسلف الأمة الصالح ، وبالقدر الكافي من الأحكام ، فهذا شيء من البيان وهو في نفسه يحتاج إلى بيان وتفصيل ، أهمه أن العلم بالقرآن إنما ينظر فيه قبل كل شيء إلى كونه هدى وعبرة وموعظة على نحو تفسيرنا هذا ، وكذلك السنة وما صح من أقوال الرسول وسيرته وينظر في هذا أيضا إلى الفرق بين ما تواتر عملا وما صح سندا وما ليس كذلك .

                          ( 2 ) العلم بحال من توجه إليهم الدعوة في شئونهم واستعدادهم وطبائع بلادهم وأخلاقهم ، أو ما يعبر عنه في عرف العصر بحالهم الاجتماعية ، وقد روي أن من أسباب ارتضاء الصحابة بخلافة أبي بكر كونه أنسب العرب ، وليس معنى كونه أعلم بالأنساب أنه كان عنده كتاب " بحر الأنساب " يراجع فيه ، وإنما معناه أنه كان أعلمهم بأحوال قبائل العرب وبطونها ، وتاريخ كل قبيلة وسابق أيامها ، وأخلاقها كالشجاعة والجبن والأمانة والخيانة ، ومكانها من الضعف والقوة والغنى والفقر ، وما كان إقدامه - مع لينه وسهولة خلقه التي يعرفها له كل أحد حتى الإفرنج - على حرب أهل الردة إلا لهذا العلم الذي كان به على بصيرة ، فلم يهب ولم يخف ، وقد خاف عمر وأحجم على شدته المعروفة على الكافرين والمنافقين ; أي خاف أن تضعف بمحاربتهم شوكة الإسلام . . . حتى قال أبو بكر : " والله لو منعوني عقالا مما كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليه " فهذه قوة العلم لا قوة الجهل ، وأقول : إن العلم الخاص بحال من توجه إليهم الدعوة من هذه الوجوه لا بد أن يكون فرعا للعلم بهذه العلوم في نفسها ، وسأبين ذلك .

                          ( 3 ) مناشئ علم التاريخ العام ليعرفوا الفساد في العقائد والأخلاق والعادات ، فيبنون [ ص: 33 ] الدعوة على أصل صحيح ، ويعرفون كيف تنهض الحجة ويبلغ الكلام غايته من التأثير ، وكيف يمكن نقل هؤلاء المدعوين من حال إلى حال ; ولهذا كان القرآن مملوءا بعبر التاريخ .

                          ( 4 ) علم تقويم البلدان ليعد الدعاة لكل بلاد منها عدتها إذا أرادوا السفر إليها ، وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - أعلم أهل زمانهم بالتاريخ وما يسمى الآن بتقويم البلدان وبالجغرافيا ; ولذلك أقدموا على الفتوح ومحاربة الأمم فانتصروا عليهم بالعلم لا بالجهل ، فلو كانوا يجهلون مسالك بلادهم وطرقها ومواقع المياه وما يصلح موقعا للقتال فيها لهلكوا ، وكان الجهل أول أسباب هلاكهم ، ومن قرأ ما حفظ من خطبهم وكتبهم التي كانوا يتراسلون بها ، ومحاوراتهم في تدبير الأعمال يظهر له ذلك بأجلى بيان .

                          قال الأستاذ الإمام ما مثاله : ومن الناس من ينفر من التاريخ وتقويم البلدان الذي هو فرع من فروعه ، وما أضر هؤلاء إلا بأنفسهم وأمتهم ! ! فقد قطعوا الصلة بينهم وبين القدوة الصالحة من سلفهم حتى صار أكثر المسلمين لا يعرفون مبدأ الإسلام ولا كيفية نشأته ولا كيف انتسبوا إليه ، فالتاريخ يعرف الإنسان بنفسه من حيث هو متدين إن كان له دين ، أو من حيث هو إنسان إن كان من بني الإنسان ، وما أضر بالفقه شيء كالجهل بالتاريخ ; لأننا لو حفظنا تاريخ الناس - ومنه عاداتهم وعرفهم ومصالحهم في البلاد التي كان فيها المجتهدون الواضعون لهذا الفقه - لكنا نعرف من أسباب خلافهم ومدارك أقوالهم مالا نعرفه اليوم ، فما كان ذلك الخلاف جزافا ولا عبثا . ألم تر أن الشافعي وضع بعد مجيئه إلى مصر مذهبا جديدا غير المذهب القديم الذي كان عليه أيام لم يكن خبيرا بغير الحجاز والعراق ؟ وكذلك كان ما خالف به أبو يوسف أستاذه أبا حنيفة مما يرجع الكثير منه إلى ما اختبره من حال الناس في مصالحهم ومنافعهم وعرفهم ، فبالله كيف ينتسب امرؤ إلى إمام ويشتغل بعلم مذهبه وهو لا يعرف تاريخه وتاريخ عصره ! ! وجملة القول : أن الجاهل بالتاريخ لا يصلح أن يكون فردا من الأمة الداعية إلى الإسلام الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر في الأمور العامة على الوجه الذي يرجى قبوله .

                          ( 5 ) علم النفس وهو يساوي علم التاريخ في المكانة والفائدة ، أي العلم الباحث عن قوى النفس وتصرفها في علومها وتأثير علومها في أعمالها الإرادية . مثال ذلك أن الأصل أن يكون العمل تابعا للعلم ولكن كثيرا من الناس يعتقدون أن عمل كذا ضار ويأتونه ، وعمل كذا نافع ويتركونه ( والمحرم شرعا كله ضار والحلال كله نافع ) فما هو السبب في ذلك ؟ وهل يحسن دعوة هؤلاء إلى الخير وإقناعهم بترك الشر من لا يعرف لماذا تركوا الخير واقترفوا الشر ؟ فهذه المعرفة هي من علم النفس الذي يؤخذ منه أن من العلم ما يكون صفة للنفس حاكمة على إرادتها مصرفة لها في أعمالها ، ومنه ما هو صورة تعرض للذهن لا أثر لها في الإرادة [ ص: 34 ] فلا تبعث على العمل وإنما يكون مظهره القول أحيانا ، وقد كان الصحابة - عليهم الرضوان - على حظ عظيم من هذا العلم ، فإنهم كانوا بسلامة فطرتهم وذكاء قريحتهم وبما هداهم القرآن بآياته والرسول ببيانه وسيرته على بصيرة من هذا العلم - وإن لم يتدارسوه بطريقة صناعية - فقد كان علمهم به كعلم الواضعين له من الحكماء أو أرسخ ، كما يدل عليه ما يؤثر عنهم من الحكم ، وما نجحوا به في الدعوة ، وظهروا في مواطن الحجة ، وعبارة الأستاذ الإمام في هذه المسألة : ولا تظنوا أن الصحابة لم يكن عندهم شيء من هذا العلم إذ لم يكونوا يدرسونه في الكتب ويتلقونه عن المعلمين ، فإنكم إذا قرأتم التاريخ وعرفتم كيف كانوا يتجالدون في الحرب ، ويتجادلون في مواقع الخطب ، بمجرد الفطرة التي بعدنا عنها أمكنكم أن تعرفوا مكانهم منه ، نعم إن الإنسان في كل زمن يحتاج إلى نوع من طرق التعليم غير ما كان في الزمن الذي قبله ، فالحقيقة الواحدة قد تختلف طرق العلم بها باختلاف الزمان والمكان والأحوال .

                          ( 6 ) علم الأخلاق وهو العلم الذي يبحث فيه عن الفضائل وكيفية تربية المرء عليها ، وعن الرذائل وطرق توقيه منها وهو ضروري ، وما ورد فيه من الآيات والأحاديث وآثار الصحابة والتابعين يغني بشهرته واستفاضته عن إطالة الكلام فيه ، وقد خطر ببالي الآن كلمة عمر - رضي الله عنه - في الحياة الزوجية فأحببت أن أوردها ، وهي قوله للمرأة التي صرحت لزوجها بأنها لا تحبه : " إذا كانت إحداكن لا تحب الرجل منا فلا تخبره بذلك ، فإن أقل البيوت ما يبنى على المحبة ، وإنما الناس يتعاشرون بالحسب والإسلام " فهذه الكلمة الجليلة لا تخرج بالبداهة هكذا إلا من فم حكيم قد انطوى في نفسه علم الأخلاق وعلم الاجتماع أيضا ، ووقف مع ذلك على أحوال الناس واختبرهم أتم الاختبار .

                          ( 7 ) علم الاجتماع . ولم يذكره الأستاذ الإمام تفصيلا ولا إجمالا ، ولعل سبب ذلك عدم وجود كتب فيه بالعربية يرغب طلاب الأزهر فيها إلا ما في مقدمة ابن خلدون ، وهو العلم الذي يبحث فيه عن أحوال الأمم في بداوتها وحضارتها وأسباب ضعفها وقوتها وتدليها وترقيها ; على أن هذا العلم مستمد من علم التاريخ وعلم الأخلاق ، فمن كان له حظ عظيم منهما فإنه قد يستغني به عن هذا العلم في بناء الدعوة والإرشاد على قواعد الحكمة والسداد ، وإن كانت دراسته مزيد كمال فيه وفي فوائده العظيمة . وقد ذكرته للترغيب فيه وحث أهل الاستعداد منا على التصنيف فيه والاستعانة بما صنفه الغربيون على ذلك ليتمكن كل مريد له من تناوله ; إذ ليس كل مطلع على التاريخ وعلم الأخلاق أهلا لاستنباط قواعد علم الاجتماع منهما وإنما يكون ذلك للأقلين من العقلاء وهم لا يستغنون عن الوقوف على ما اهتدى إليه من كتبوا في ذلك من قبلهم . وقد جاء في القرآن كثير من قواعد هذا العلم فغفل أكثر المفسرين عنه ولم [ ص: 35 ] يهتد إلى فقه بعضه إلا قليل منهم ; إذ لم يكن هذا العلم مدونا في عهدهم فينبههم إلى ذلك ، وقد تقدم في تفسيرنا هذا بيان كثير من تلك القواعد ، وسنعقد له فصلا حافلا في مقدمة التفسير التي نبين فيها فقه القرآن في جملته إن شاء الله - تعالى - .

                          ( 8 ) علم السياسة وقد ذكره الأستاذ الإمام هنا مجملا وليس مراده به السياسة الشرعية التي كتب فيها ابن تيمية وغيره ، وإن كانت مما لا يستغنى عنها ولكنها داخلة في علم الكتاب والسنة والأحكام ، وإنما المراد به العلم بحال دول العصر وما بينهما من الحقوق والمعاهدات وما لها من طرق الاستعمار . فالأمة التي تؤلف للدعوة في بلاد غير بلاد المسلمين المستقلة لا يتيسر لها ذلك إذا لم تكن عارفة بسياسة حكومة تلك البلاد ، وهذا شيء غير ما تقدم من اشتراط معرفة حال من توجه إليهم الدعوة ، والسياسة بهذا المعنى لم تكن في عصر الصحابة .

                          ( 9 ) العلم بلغات الأمم التي تراد دعوتها ، وقد ورد في صحيح البخاري : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بعض الصحابة بتعلم اللغة العبرانية لأجل اليهود الذين كانوا مجاورين له على أنهم كانوا قد استعربوا ، فما كانت معرفة لغتهم الأصلية إلا مزيد كمال في الفهم عنهم ومعرفة حقيقة شأنهم . ولا يقال : إن الأمة التي تؤلف للدعوة إلى الإسلام يمكنها أن تستغني عن تعلم لغات الأمم بالمترجمين من غير المسلمين ، فإنها إن ظفرت بالمترجم الأجنبي الأمين لا يتيسر لها أن تفهمه من حقيقة الدين عند الترجمة ما يفهمه العالم المسلم ، وإنما يلجأ إلى مثل ذلك عند الضرورة . أما إذا أمكن تأليف جمعية للدعوة فالواجب أن يكون فيها من المسلمين العارفين باللغات من يكفيها الحاجة إلى ترجمة الأجنبي كما تفعل جمعيات الدعوة إلى النصرانية فإن أفرادا منها يتعلمون لغات جميع الأمم . ولم يبين الأستاذ الإمام هذا في الدرس ; لأنه لم يتصد إلى بيان كل ما يتوقف عليه العمل في تعميمه وكماله ، وإنما ذكر ما ذكره على سبيل المثال لتنبيه الأذهان والترغيب فيما يتيسر لأهل الأزهر في هذا الزمان ، ولو شرح في هذا المقام فوائد تعلم اللغات الأجنبية وتوقف ما يجب من الدعوة إلى الإسلام عليها لقام أعداء الإصلاح وخاذلو الدين القاعدون له كل مرصد يصيحون في الجرائد والمحافل بأن الشيخ المفتي يريد أن يهدم الدين في الأزهر بحث طلابه على تعلم اللغات الأجنبية كما فعلوا مثل ذلك عند حثه إياهم على تعلم التاريخ وتقويم البلدان وبعض الفنون الرياضية ، وإن صياحهم في مسألة اللغات يكون أوضح شبهة عند الجمهور الجاهل ، وليس هذا البحث بأجنبي عن التفسير ، بل هو أولى من مباحث الرازي في علوم اليونان وتوسع غيره في الإسرائيليات أو اللغويات ; لأن قصدنا من التفسير بيان معنى القرآن وطرق الاهتداء به في هذا الزمان ، ولن نكون مهتدين به حتى تكون منا أمة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر من الطرق التي يرجى نفعها وذلك يتوقف على ما ذكرناه . فوجب علينا أن نبين خطأ من يصد عنه .

                          [ ص: 36 ] ( 10 ) العلم بالفنون والعلوم المتداولة في الأمم التي توجه إليها الدعوة ولو بقدر ما يفهم به الدعاة ما يورد على الدين من شبهات تلك العلوم ، والجواب عنها بما يليق بمعارف المخاطبين بالدعوة .

                          ( 11 ) معرفة الملل والنحل ومذاهب الأمم فيها ليتيسر للدعاة بيان ما فيها من الباطل ، فإن من لم يتبين له بطلان ما هو عليه لا يلتفت إلى الحق الذي عليه غيره وإن دعاه إليه ، وقد كنت كتبت في سنة المنار الثالثة مقالة في الدعوة وطريقها وآدابها جعلت فيه هذا الشرط وما قبله واحدا ، فقلت فيه ( ص 484 م 3 ) " ثالثها - أي الشروط - الوقوف على ما عندهم من المذاهب والتقاليد الدينية ، والعلوم والفنون الدنيوية ، ما يتعلق منها بالدعوة ويصلح أن يكون شبهة ، ومن جهل هذا القدر كان عاجزا عن إزالة الشبهات ، وحل عقد المشكلات ، ومن فاته هذا الشرط وما قبله - وهو العلم بالأخلاق والعادات - لا يقدر أن يخاطب الناس على قدر العقول والأحلام ، كما كان شأن سادة الدعاة - عليهم الصلاة والسلام - ، ولقد علم رؤساء الديانة النصرانية أن ما كان من جهلهم بالعلوم الكونية ومعاداتهم لها ، وتحكيمهم الدين فيها مؤذن باضمحلالها ، ومفض إلى زوالها ، فأخذوا بزمامها ، وقادوها بخطامها ، وقربوا بين عالمي الملك والملكوت ، وقرنوا بين علمي الناسوت واللاهوت ، وبهذا أمكنهم حفظ حرمة الدين ، وإعلاء كلمته بين العالمين .

                          وديننا هو الذي ربط بين العالمين ، ولكننا نقطع الروابط ، وجمع بين العلمين ولكننا نهدم الجوامع ، ولهذا جهلنا وتعلموا ، وسكتنا وتكلموا ، وتأخرنا وتقدموا ، ونقصنا وزادوا ، واستعبدنا وسادوا " . اهـ .

                          كل هذا من الشروط العلمية ، وللدعوة شروط أخرى تتعلق بتربية الدعاة على الأخلاق والآداب التي تشترط في الدعاة إلى الحق سنشرحها في تفسير ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة [ 16 : 125 ] إن أمهل الزمان . وإن لنا أن نأخذ مما استدل به الفقهاء على وجوب تعلم فنون العربية والحديث والفقه والأصول لأجل فهم الدين دليلا على وجوب تعلم طرق الدعوة وما تحتاج إليه في هذا الزمان بطريقة صناعية ، فإذا كانت الدعوة في الصدر الأول قد تيسرت بغير تعليم صناعي ولا تأليف جمعية معينة كما كان فهم الدين متيسرا بغير تعلم صناعي ففي هذا الزمان يتوقف فهم الدين على التعليم الصناعي ، وتتوقف الدعوة إليه والأمر بما جاء به من المعروف وما حظره من المنكر على تعليم خاص وتأليف جمعيات خاصة تقوم بهذا العمل ، ولا ينتشر الدين ولا يحفظ على وجهه إلا بهذا كما تقدم [ ص: 37 ] التنويه به ، فالمراد بالأمة التي تقيمها الأمة لذلك ما يعبر عنه في عرف هذا العصر بالجمعية .

                          قال الأستاذ الإمام : ومن أعمال هذه الأمة الأخذ على أيدي الظالمين ، فإن الظلم أقبح المنكر ، والظالم لا يكون إلا قويا ولذلك اشترط في الناهين عن المنكر أن يكونوا أمة ; لأن الأمة لا تخالف ولا تغلب كما تقدم ، فهي التي تقوم عوج الحكومة ، والمعروف أن الحكومة الإسلامية مبنية على أصل الشورى ، وهذا صحيح والآية أدل دليل عليه ودلالتها أقوى من قوله - تعالى - : وأمرهم شورى بينهم [ 42 : 38 ] لأن هذا وصف خبري لحال طائفة مخصوصة أكثر ما يدل عليه أن هذا الشيء ممدوح في نفسه محمود عند الله - تعالى - ، وأقوى من دلالة قوله : وشاورهم في الأمر [ 3 : 159 ] فإن أمر الرئيس بالمشاورة يقتضي وجوبه عليه ولكن إذا لم يكن هناك ضامن يضمن امتثاله للأمر فماذا يكون إذا هو تركه ؟ وأما هذه الآية فإنها تفرض أن يكون في الناس جماعة متحدون أقوياء يتولون الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو عام في الحكام والمحكومين ، ولا معروف أعرف من العدل ولا منكر أنكر من الظلم . وقد ورد في الحديث " لا بد أن يأطروهم على الحق أطرا "

                          هكذا نقل بعض الطلاب هذا الحديث عن الأستاذ الإمام وفسره عنه بأن معناه يفنوهم أي الظالمين ويبيدوهم وهو كما في كنز العمال معزو إلى أبي داود من حديث ابن مسعود : " إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض . كلا والله لتأمرن بالمعروف و لتنهن عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم " وعنه عند أحمد والترمذي : " لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي فنهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم وآكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ، لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا " وقد أورد الفقرة الأخيرة من الرواية الأولى في لسان العرب بضمير المفرد وقال : قال أبو عمرو وغيره قوله : " تأطروه على الحق " تعطفوه عليه . اهـ .

                          أقول : ومعنى الآية على هذا الوجه أنه يجب أن تكون قوة المسلمين تابعة لهذه الأمة التي تقوم بفريضة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فهي بمعنى مجالس النواب في الحكومات الجمهورية والملكية المقيدة ، فكأن الآية بيان لكون أمر المسلمين شورى بينهم ، وما ذكره في معنى وأمرهم شورى ومعنى وشاورهم في الأمر لعله يريد به أنه يمكن أن يقال فيهما كذا ، وإلا فكل من النصين دال على وجوب كون حكومة [ ص: 38 ] المسلمين شورى ، ومجيء النص الأول في الذكر بصيغة الخبر يؤكد كونه فرضا حتما ، كما عهد نظير ذلك في الأساليب البليغة ومر معنا كثير منها راجع تفسير يتربصن بأنفسهن [ 2 : 228 ] الآية ، والنص الثاني صريح في الوجوب والضامن له الأمة المخاطبة بالتكاليف في أكثر النصوص . وإنما الآية التي نفسرها تفصيل لكيفية الضمان كما يأتي مبينا عنه - رحمه الله تعالى - .

                          قال : ومما يناط بهذه الأمة - وهو أصل كل معروف - النظر في تعليم الجاهلين ، فإذا علمت أن في مكان ما طائفة من المسلمين جاهلين بما يجب اتخذت الوسائل لتعليمهم ، ومن هنا يعلم فساد ما يقوله كثير من الفقهاء من أنه لا يجب عليهم أن يتصدوا لتعليم الناس ما لم يسعوا إليهم ويسألوهم ، ولا يجهل أحد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد تصدى لتعليم الناس ولم يقعد في بيته منتظرا سؤال الناس ليفيدهم ، وكذلك فعل الصحابة عليهم الرضوان اهتداء بهديه .

                          قال : ثم إن كون القائمين بالأمر والنهي أمة يستلزم أن يكون لها رياسة تدبرها ; لأن أمر الجماعة بغير رياسة يكون مختلا معتلا ، فكل كون لا رياسة فيه فاسد ، فالرأس هو مركز تدبير البدن وتصريف الأعضاء في أعمالها ، وكذلك يكون رئيس هذه الأمة مصدر النظام وتوزيع الأعمال على العاملين ، فمنهم من يوجهون إلى دعوة غير المسلمين إلى الإسلام ، ومنهم من يوجهون إلى إرشاد المسلمين في بلادهم ، ومقام الرياسة يختار بالمشاورة لكل عمل ولكل بلاد من يكونون أكفاء للقيام بالواجب فيها ; لتكون أعمالهم مؤدية إلى مقصد الأمة العام ، فإن من معنى الأمة أن يكون للأفراد الذين تتكون منهم وحدة في القصد من أعمالهم وسيرهم فإذا اختلفت المقاصد فسد العمل باختلاف الآراء وتنكيث القوى ; ولذلك جاء بعد هذه الآية النهي عن التفرق والاختلاف .

                          قال : ثم إن كون الأمة الخاصة منتخبة من الأمة العامة يقتضي أن تكون للعامة رقابة وسيطرة على الخاصة تحاسبها على تفريطها ولا تعيد انتخاب من يقصر في عمله لمثله . فالأمة الصغرى المنتخبة ( بفتح الخاء ) تكون مسيطرة على أفراد الأمة الكبرى المنتخبة ( بكسر الخاء ) وهذه تكون مسيطرة على الأمة الصغرى ، وبهذا يكون المسلمون في تكافل وتضامن .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية