الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ) فاعف عما سلف من هؤلاء القليل ، واصفح عن مسيئهم ، وعاملهم بالإحسان الذي يحبه الله تعالى ، وأنت أيها الرسول أحق الناس بتحري ما يحبه الله ، وهذا رأي أبي مسلم . أو : فاعف عما سلف من جميعهم واضرب عنه صفحا إيثارا للإحسان والفضل على ما يقتضيه العدل . قيل : كان هذا أمرا مطلقا ، ثم نسخ بآية التوبة : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) ( 9 : 29 ) الآية ، وروي هذا عن قتادة ، ويرده قتال النبي صلى الله عليه وسلم لليهود قبل نزول التوبة ، وكون آية التوية نزلت بقبول الجزية ، وهو يتفق مع العفو والصفح ، فإنهم بخيانتهم صاروا حربيين ، واستحقوا أن يقتلوا ، وقبول الجزية منهم يعد عفوا وصفحا عن قتلهم ، وإحسانا لهم . وثم وجه آخر ؛ وهو أن الأمر بالعفو والصفح إنما هو عن الخيانات الشخصية ، لا عن نقض العهد الذي يصيرون به محاربين لا يؤمن جوارهم ، وهذا أظهر من جعل الأمر بالعفو مقيدا بشرط محذوف تقديره : إن تابوا وآمنوا وعاهدوا ، أو التزموا الجزية . هذا ملخص ما يقال في رأي الجمهور .

                          ولولا أن نزول هذه السورة متأخر عما كان بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود من القتال ، وعن نزول سورة التوبة ، لقلت يحتمل أن يكون المراد هنا يهود بني النضير ، ومثلهم بنو قريظة بقرينة ما جاء قبل هذا السياق من خبر محاولتهم قتل النبي صلى الله عليه وسلم غدرا منهم وخيانة ، ويكون المراد بالعفو والصفح عنهم ترك قتلهم ، والرضاء منهم بما دون القتل بعد القدرة عليه ، وهذا هو الذي وقع .

                          ثبت في السيرة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم رغب - عندما آوى إلى المدينة - في مصالحة اليهود وموادعتهم ، فعقد العهد معهم على ألا يحاربوه ، ولا يظاهروا من يحاربه ، ولا يوالوا عليه عدوا له ، وأن يكونوا آمنين على أنفسهم وأموالهم وحريتهم في دينهم ، وكان حول المدينة منهم ثلاث طوائف : بنو قينقاع ، وبنو النضير ، وبنو قريظة ; فكان بنو قينقاع أول من غدر وتصدى لحرب النبي صلى الله عليه وسلم جهرا ; لأنهم كانوا أشدهم بأسا ، فلما ظفر بهم وسأله [ ص: 237 ] عبد الله بن أبي رئيس المنافقين فيهم وهبهم له ، وكانوا حلفاء للخزرج ، وكان هو يتولاهم وينصرهم ، وينصر غيرهم من أعداء النبي صلى الله عليه وسلم ما استطاع ، وهذا ضرب من العفو والصفح .

                          وأما بنو النضير فنقضوا العهد أيضا ، وهموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فحل له قتالهم ، ولكنه اختار السلم ، وأن يكتفي أمرهم بطردهم من جواره ، فبعث إليهم " أن اخرجوا من المدينة ، و لا تساكنوني بها ، وقد أجلتكم عشرا ، فمن وجدت بها بعد ذلك ضربت عنقه ، " فأقاموا يتجهزون أياما ، ثم ثناهم عن عزمهم عبد الله بن أبي ; إذ أرسل إليهم ألا تخرجوا ، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم ، فيموتون دونكم ، وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان ، وكان رئيسهم حيي بن أخطب شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي كان أطمعهم بقتله ، وحملهم على الغدر به ، فغره قول رئيس المنافقين ، فبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم إننا لا نخرج ، فافعل ما بدا لك ، وهذا إعلان للحرب ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون إليهم ، يحمل لواءه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، فلما انتهوا إليهم أقاموا على حصونهم يرمون بالنبل والحجارة وخانهم ابن أبي ولم تنصرهم قريظة وغطفان فلما اشتد عليهم الحصار رضوا بالخروج سالمين ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قادرا على استئصالهم ، ولكنه اختار العفو والإحسان واكتفاء شرهم بإبعادهم عن المدينة ، فأنزلهم على أن يخرجوا منها بنفوسهم وذراريهم وما حملت الإبل إلا السلاح ، وأجلاهم إلى خيبر . ولا شك أن هذا ضرب من ضروب العفو والإحسان عظيم . والظاهر أن الآية نزلت بعد ذلك كله ; لأنها من آخر ما نزل ، ولم يعاقب اليهود على خيانة ولا غدر ، ولكنه أوصى بإجلائهم عن جزيرة العرب بعده .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية