الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه ) لما كان هذا القتل أول قتل من بني آدم ، ولما كان هذا النوع من الخلق - أي الإنسان - موكولا إلى كسبه واختياره في عامة أعماله ، لم يعرف القاتل الأول كيف يواري جثة أخيه المقتول ، التي يسوؤه أن يراها بارزة - فالسوءة ما يسوء ظهوره ، ورؤية جسد الميت ، ولا سيما المقتول ، يسوء كل من ينظر إليه ويوحشه - وأما سائر أنواع الحيوان فتلهم عمل ما تحتاج إليه إلهاما في الأكثر ، وقلما يتعلم بعضها من بعض شيئا . وقد علمنا الله تعالى أن القاتل الأول تعلم دفن أخيه من الغراب ، ويدلنا ذلك على أن الإنسان في نشأته الأولى كان في منتهى السذاجة ، وأنه لاستعداده الذي يفضل به سائر أنواع الحيوان كان يستفيد من كل شيء علما واختبارا ويرتقي بالتدريج .

                          ذلك بأن الله تعالى بعث غرابا إلى المكان الذي هو فيه فبحث في الأرض ; أي حفر برجليه فيها ، يفتش عن شيء ، والمعهود أن الطير تفعل ذلك لطلب الطعام ، والمتبادر من العبارة أن الغراب أطال البحث في الأرض ; لأنه قال " يبحث " ولم يقل بحث ، والمضارع يفيد الاستمرار ، فلما أطال البحث أحدث حفرة في الأرض ، فلما رأى القاتل الحفرة ، وهو متحير في أمر مواراة سوءة أخيه ، زالت الحيرة ، واهتدى إلى ما يطلب ، وهو دفن أخيه في حفرة من الأرض . هذا هو المتبادر من الآية . وقال أبو مسلم : إن من عادة الغراب دفن الأشياء ، فجاء غراب فدفن شيئا ، فتعلم منه ذلك ، وهذا قريب ، ولكن جمهور المفسرين قالوا : إن الله بعث غرابين لا واحدا ، وإنهما اقتتلا ، فقتل أحدهما الآخر ، فحفر بمنقاره ورجليه حفرة ألقاه فيها ، وما جاء هذا إلا من الروايات التي مصدرها الإسرائيليات ، على أن مسألة الغراب والدفن لا ذكر لها في التوراة ، وفي هذه الروايات زيادات كثيرة ، لا فائدة لها ولا صحة ، واللام في قوله تعالى : ( ليريه ) للتعليل إذا كان الضمير راجعا إلى الله تعالى ; أي إنه تعالى ألهم الغراب ذلك ليتعلم ابن آدم منه الدفن ، وللصيرورة والعاقبة إذا كان الضمير عائدا إلى الغراب ; أي لتكون عاقبة بحثه ما ذكر .

                          ولما رأى القاتل الغراب يبحث في الأرض ، وتعلم منه سنة الدفن ، وظهر له من ضعفه وجهله ما كان غافلا عنه ( قال ياويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين ) قال جمهور المفسرين : إن " ياويلتا " كلمة تحسر وتلهف [ ص: 287 ] وإنها تقال عند حلول الدواهي والعظائم . وقال في لسان العرب : والويل : حلول الشر ، والويلة : الفضيحة والبلية . وقيل هو تفجع ، وإذا قال القائل : يا ويلتاه ! فإنما يعني وافضيحتاه ! وكذلك تفسير ( ياويلتنا مال هذا الكتاب ) ( 18 : 49 ) انتهى . وهذا هو المعنى الصحيح ، والألف في الكلمة بدل ياء المتكلم ; إذ الأصل يا ويلتي ، والنداء للويلة ; لإفادة حلول سببها الذي تحل لأجله ، حتى كأنه دعاها إليه ، وقال : أقبلي فقد آن أوان مجيئك ، فهل بلغ من عجزي أن كنت دون الغراب علما وتصرفا ؟ والاستفهام للإقرار والتحسر ، وأما الندم الذي ندمه فهو ما يعرض لكل إنسان عقب ما يصدر عنه من الخطأ في فعل فعله ، إذا ظهر له أن فعله كان شرا له لا خيرا ، وقد يكون الندم توبة إذا كان سببه الخوف من الله تعالى والتألم من تعدي حدوده ، وقصد به الرجوع إليه ، وهذا هو المراد بحديث " الندم توبة " رواه أحمد والبخاري في تاريخه والحاكم والبيهقي ، وعلم عليه في الجامع الصغير بالصحة ، وأما الندم الطبيعي الذي أشرنا إليه فلا يعد وحده توبة ، والتوبة من إحداث البدعة لا تنجي مبتدعها من سوء أثرها ، وفي حديث ابن مسعود في الصحيحين مرفوعا " لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم كفل ( نصيب ) من دمها ; لأنه أول من سن القتل " .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية