الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( توضيح واستدراك وتصحيح ) .

                          في بحث عدم شرب نبينا صلى الله عليه وسلم الخمر .

                          حديث إهداء الخمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم المعزو إلى الحميدي في ( ص74 ) من حديث أبي هريرة وإلى مسلم والنسائي من حديث ابن عباس رواه أحمد وكذا البغوي عن طريق عبد الله بن لهيعة وسليمان بن عبد الرحمن عن نافع بن كيسان الثقفي عن أبيه : " أنه كان يتجر في الخمر وأنه أقبل من الشام فقال : يا رسول الله إني جئتك ( في الإصابة : جئت ) بشراب جيد فقال صلى الله عليه وسلم : يا كيسان إنها حرمت بعدك ، قال : أفأبيعها ؟ قال : إنها حرمت وحرم ثمنها " وفي توثيق ابن لهيعة وسليمان وتضعيفهما مقال معروف .

                          وروى أحمد وأبو يعلى من حديث تميم الداري أنه كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل عام راوية خمر فلما كان عام حرمت جاء براوية فقال : " أشعرت أنها قد حرمت بعدك ؟ قال : أفلا أبيعها وأنتفع بثمنها ؟ فنهاه " .

                          ذكر الحافظ بن حجر الحديثين في الفتح وقال أولا : إن في حديث أحمد الأول [ ص: 80 ] أن المهدي كان من ثقيف أو دوس وأن ذلك كان عام الفتح ، ثم قال : ويستفاد من حديث كيسان تسمية المبهم في حديث ابن عباس ( أي الذي رواه مسلم والنسائي أقول : وكذا في حديث أبي هريرة الذي عزاه صاحب المنتقى إلى الحميدي ) ومن حديث تميم تأييد الوقت المذكور فإن إسلام تميم كان بعد الفتح . اه .

                          وأقول : قد اتضح من مجموع الروايات أن تميما هو الذي قالوا إنه كان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم راوية خمر في كل عام دون كيسان ، وتميم هذا قد أسلم سنة تسع من الهجرة كما نقله الحافظ في الإصابة وأشار إليه في الفتح ، فهو لم يدرك من حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا سنة واحدة كانت الخمر محرمة فيها باتفاق الروايات ، فإهداؤه الراوية إليه في كل عام كما قيل متعذر فهذا حديث ينقض نفسه بنفسه فلا يحتج به ، على فرض قوة سنده ، على أنه لو صح متنا وسندا لا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرب من تلك الخمر ولم ينقل أحد ، وأنه ليوجد كثير من الناس يقتنون الخمر ولا يدينون الله بحرمتها وهم مع ذلك لا يشربونها ، وقد يشربها بعض أهل البيت منهم دون بعض ويقدمونها للضيوف ، فالاقتناء لا يدل على الشرب .

                          وأما حديث شربه صلى الله عليه وسلم من نبيذ السقاية الذي أشرنا إليه في ص74 يعزوه إلى المسند فقد رواه النسائي أيضا من طريق يحيى بن يمان عن أبي مسعود قال : " عطش النبي صلى الله عليه وسلم حول الكعبة فاستسقى فأتي بنبيذ من السقاية فشمه فقطب فقال : علي بذنوب من ماء زمزم فصب عليه ثم شرب ، فقال رجل : أحرام هو يا رسول الله ؟ قال : لا " وقد صرح أحمد والنسائي راوياه بضعفه ، لأن يحيى بن يمان انفرد به دون أصحاب سفيان وهو ضعيف ، قال النسائي : ويحيى بن يمان لا يحتج بحديثه لسوء حفظه وكثرة خطئه ، وقال ابن عدي : عامة ما يرويه غيره محفوظ ، وهو في نفسه لا يتعمد الكذب إلا أنه يخطئ ويشبه عليه ، وقال غيرهم : كان سريع الحفظ سريع النسيان ، كان يحفظ في المجلس الواحد خمسمائة حديث ، وقال الحافظ في الفتح : وقد ضعف حديث أبي مسعود المذكور النسائي وأحمد وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم ينفرد يحيى بن يمان يرفعه وهو ضعيف .

                          وفي معنى حديث السقاية حديث ابن عمر " رأيت رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فيه نبيذ وهو عند الركن ودفع إليه القدح فرفعه إلى فيه فوجده شديدا فرده على صاحبه ، فقال له رجل من القوم : يا رسول الله أحرام هو ؟ فقال : علي بالرجل فأتي به فأخذ منه القدح ثم دعا بماء فصبه فيه ثم رفعه إلى فيه فقطب ثم دعا بماء أيضا فصبه فيه ثم قال : إذا اغتلمت عليكم هذه الأوعية فاكسروا متونها بالماء " رواه النسائي من [ ص: 81 ] طريق عبد الملك بن نافع وقال فيه : ليس بالمشهور ولا يحتج بحديثه ، والمشهور عن ابن عمر خلاف حكايته ، ثم أورد الروايات عنه بأنه قال : " اجتنب كل شي ينش " وقال : " المسكر قليله حرام وكثيره حرام " وغير ذلك ، وقال الذهبي : عبد الملك بن نافع عن ابن عمر مجهول مرة وخبره منكر .

                          أقول : طالما دس المتلاعبون بالروايات أسماء المجهولين في الأسانيد الصحيحة ليروجوا بها ما يفترونه فأبطل رجال الجرح والتعديل دسيستهم ولو ثبت هذا الحديث لجاز القول بأن ذلك الشراب كان قد بدأ فيه التغير ولم يصل إلى حد الإسكار فكسره بالماء لئلا يصير مسكرا ولا يمكن موافقته للروايات الصحيحة إلا بهذا .

                          وقد روى النسائي والبيهقي نحوا من هذا عن عمر ، ولفظ النسائي : عن يحيى بن سعيد سمع سعيد بن المسيب يقول : " تلقت ثقيف عمر بشراب فدعا به فلما قربه إلى فيه كرهه فدعا به فكسره بالماء فقال : هكذا فافعلوا " ثم روى عن عتبة بن فرقد قال : كان النبيذ الذي قد شربه عمر قد تخلل ( أي صار خلا ) وذكر الحافظ الأثر في الفتح عن البيهقي وفيه أنه قطب وجهه " وقال : قال نافع : والله ما قطب عمر وجهه لأجل الإسكار حين ذاقه ، ولكنه تخلل ، وعن عتبة بن فرقد قال : كان النبيذ الذي شربه عمر قد تخلل وروى الأثرم عن الأوزاعي وعن العمري أن عمر إنما كسره بالماء لشدة حلاوته ، ثم جمع الحافظ بين القولين بأن ذلك كان في حالتين ، وأنه لما قطب كان لحموضته ، ولما لم يقطب كان لحلاوته .

                          وجملة القول : أن ما ورد من كسر النبيذ بالماء يدل مجموعه على أن يكسر إذا أخذ في الاشتداد والتغير خشية أن يصير مسكرا ، فأما إذا صار مسكرا فلا علاج له إلا إراقته كما ورد في الحديث المرفوع ، إذ لا يباح حينئذ قليله ولا كثيره ، ولو أزيل تأثيره بالماء ، والمراد بالاشتداد الذي ورد في الأخبار والآثار اشتداد الحموضة أو الحلاوة كما قاله البيهقي ، ومثله الاغتلام .

                          وروى النسائي عن عمر أنه قال : " إذا خشيتم من نبيذ شدته فاكسروه بالماء ، قال عبد الله : من قبل أن يشتد " انتهى ويمكن أن يحمل على هذا التفسير كل ما ورد في الاشتداد على طريقة العرب في التغير بالفعل عن قرب وقوعه وإرادته .

                          ومن الاستدراك على ما تقدم حديث أبي بردة بن نيار " اشربوا في الظروف ولا تسكروا " قال النسائي هذه حديث منكر غلط فيه أبو الأحوص سلام بن سليم ، ولا نعلم أن أحدا من أصحاب سماك تابعه عليه وسماك ليس بالقوي وكان يقبل التلقين وخطأه فيه أحمد أيضا . [ ص: 82 ] ومثله حديث عائشة " اشربوا ولا تسكروا " قال النسائي : وهذا غير ثابت أيضا ، وقال في قرصافة راويته عن عائشة لا يدرى من هي ، والمشهور عن عائشة خلاف ما روته عنها قرصافة ، ثم ذكر الروايات عنها في ذلك كقولها : " لا أحل مسكرا وإن كان خبزا وإن كان ماء " وقولها للنساء : " وإن أسكركن ماء حبكن فلا تشربنه " أقول : كذبوا على عائشة كما كذبوا على ابن عمر بخلاف ما صح عنهما .

                          وجملة القول أنه لم يصح في هذا المعنى شيء ، على أنه يمكن حمل معناه على ما يوافق سائر النصوص وهو الإذن بشرب النبيذ ( النقيع ) إذا علم أنه لم يختمر فيصير مسكرا لئلا يكسر به ، وأما حمله على الأحاديث الكثيرة في تحريم كل مسكر وفي تسميته خمرا على المسكر بالفعل فهو تحريف للغة وإفساد لها كما تقدم ، وإني لأعجب كيف يقول عاقل إن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الصحابة بأن يشربوا من المسكر وألا يسكروا ، هل يتيسر لواحد من ألف من الناس أن يشرب من المسكر ولا يسكر ؟

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية