الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون )

                          جاء في الآية السابقة ذكر تنجية بني إسرائيل من آل فرعون ، وهو على كونه تفصيلا لما قبله من حيث التذكير بالنعم ، مجمل من حيث الإنجاء ، فإنه يشمل النجاة بجميع أنواعها من ذلك العذاب ، وذكر في هذه الآية نعمته في طريق الإنجاء بالتفصيل بعد الإجمال لبيان عناية الله - تعالى - بهم فيها ، إذ جعل وسيلته من خوارق العادات ، وجعل في طريقه هلاك عدوهم . وقد يقال : إن هذه نعمة مستقلة من نعمه - تعالى - عليهم ، لا أنها بيان الإجمال في التي قبلها .

                          لما أرسل الله - تعالى - موسى - عليه السلام - إلى فرعون وملئه يدعوهم إلى توحيد الله ، وإلى أن يخلي بينه وبين شعب إسرائيل بعد إطلاقهم من ذلك الاستعباد والتعذيب ، لم يزدهم فرعون إلا تعذيبا وتعبيدا ، وفي سفر الخروج من تاريخ التوراة : أن الله - تعالى - أنبأ موسى بأنه يقسي [ ص: 261 ] قلب فرعون فلا يخفف العذاب عن بني إسرائيل ، ولا يرسلهم مع موسى حتى يريه آياته ، وأنه بعد الدعوة زاد ظلما وعتوا ، فأمر الذين كانوا يسخرون بني إسرائيل في الأعمال الشاقة بأن يزيدوا في القسوة عليهم ، وأن يمنعوهم التبن الذي كانوا يعطونهم إياه لعمل اللبن ( الطوب ) ، ويكلفوهم أن يجمعوا التبن ويعملوا كل ما كانوا يعملونه من اللبن ، لا يخفف عنهم منه شيء ، فأعطى الله - تعالى - موسى وأخاه هارون الآيات البينات ، فحاول فرعون معارضتها بسحر السحرة ، فلما آمن السحرة برب العالمين رب موسى وهارون ؛ لعلمهم أن ما جاء به ليس من السحر ، وإنما هو تأييد من الله - تعالى - ، ورأى ما رأى بعد ذلك من آيات الله لموسى ، سمح بخروج بني إسرائيل بل طردهم ، وفي سفر الخروج أنهم خرجوا في شهر أبيب ، وكانت إقامتهم في مصر 430 سنة . ثم أتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم ، وأنجى الله بني إسرائيل ، وأغرق فرعون ومن معه ، وذلك قوله - عز وجل - :

                          ( وإذ فرقنا بكم البحر ) أي : واذكروا من نعمنا عليكم إذ فرقنا بكم البحر فجعلنا لكم فيه طريقا يبسا سلكتموه في هربكم من فرعون ( فأنجيناكم ) بعبوره من جانب إلى آخر ( وأغرقنا آل فرعون ) إذ عبروا وراءكم ( وأنتم تنظرون ) ذلك بأعينكم ، لولاه لعظم عليكم خبر غرقهم ولم تصدقوه .

                          ( قال الأستاذ الإمام ) : فلق البحر كان من معجزات موسى . وقد قلنا في " رسالة التوحيد " : إن الخوارق الجائزة عقلا ، أي التي ليس فيها اجتماع النقيضين ، ولا ارتفاعهما لا مانع من وقوعها بقدرة الله - تعالى - في يد نبي من الأنبياء ، ويجب أن نؤمن بها على ظاهرها ، ولا يمنعنا هذا الإيمان من الاهتداء بسنن الله - تعالى - في الخلق واعتقاد أنها لا تتبدل ولا تتحول ، كما قال الله في كتابه الذي ختم به الوحي ، على لسان نبيه الذي ختم به النبيين ، فانتهى بذلك زمن المعجزات ، ودخل الإنسان بدين الإسلام في سن الرشد ، فلم تعد مدهشات الخوارق هي الجاذبة له إلى الإيمان وتقويم ما يعرض للفطرة من الميل عن الاعتدال في الفكر والأخلاق والأعمال ، كما كان في سن الطفولية ( النوعية ) بل أرشده - تعالى - بالوحي الأخير ( القرآن ) إلى استعمال عقله في تحصيل الإيمان بالله وبالوحي ، ثم جعل له كل إرشادات الوحي مبينة معللة مدللة حتى في مقام الأدب ( كما أوضحنا ذلك في رسالة التوحيد ) . فإيماننا بما أيد الله - تعالى - به الأنبياء من الآيات لجذب قلوب أقوامهم الذين لم ترتق عقولهم إلى فهم البرهان ، لا ينافي كون ديننا هو دين العقل والفطرة ، وكونه حتم علينا الإيمان بما يشهد له العيان ، من أن سننه - تعالى - في الخلق لا تبديل لها ولا تحويل .

                          ( أقول ) : وجملة القول أن الذي يمنعه العقل هو وقوع المحال ، فلا يمكن أن يؤيد نبي بما هو مستحيل عقلا ؛ لأن المستحيل هو الذي لا يمكن وقوعه ، وما وقع لا يكون مستحيلا ، ولذلك سمى المتكلمون المعجزات " خوارق العادات " ومنهم من يقول : إن لها أسبابا [ ص: 262 ] خفية روحية لم يطلع الله الأمم عليها ولكنه خص بها الأنبياء - عليهم السلام - ، والمشهور : أن الله يخلقها بغير سبب لتدل على أن السنن والنواميس لا تحكم على واضعها ومدبرها ، وإنما هو الحاكم المتصرف بها ، وإنما كان هذا هو المشهور ؛ لأنه الظاهر ، وإلا فمن ذا الذي يستطيع أن ينفي ذلك النفي المطلق عن عالم الغيب ؟ وقد ذكر القولين الإمام الغزالي وأشار إليهما الأستاذ الإمام في رسالة التوحيد .

                          ( قال ) : وزعم الذين لا يحبون المعجزات من المتهورين أن عبور بني إسرائيل البحر كان في إبان الجزر ، فإن في البحر الأحمر رقارق إذا كان الجزر الذي عهد هناك شديدا يتيسر للإنسان أن يعبر ماشيا ، ولما أتبعهم فرعون بجنوده ورآهم قد عبروا البحر تأثرهم ، وكان المد تفيض ثوائبه ( وهي المياه التي تجيء عقيب الجزر ) فلما نجا بنو إسرائيل ، كان المد قد طغى وعلا حتى أغرق المصريين ، وتحقق إنعام الله على بني إسرائيل يتم بهذا التوفيق لهم والخذلان لعدوهم ، ولا ينافي الامتنان به عليهم كونه ليس آية لموسى - عليه السلام . فإن نعم الله بغير طريق المعجزات أعم وأكثر ، كذا قالوا . قال شيخنا : ولكن يدل على كونه آية له وصف كل فرق منه بالطود العظيم . وإذا تيسر تأويل كل آيات القصة من القرآن فإنه يتعسر تأويل قوله - تعالى - في سورة الشعراء : ( فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ) ( 26 : 63 ) وهو الموافق لما في التوراة ا هـ .

                          ويقول المؤولون : إنهم لما عبروا انفرق بهم ، وكانوا لاستعجالهم واتصال بعضهم ببعض قد جعلوا ذلك الماء الرقارق فرقين عظيمين ممتدين كالطودين ، وأن هذه الآية تشعر بذلك ، فإنه يقول : ( وإذ فرقنا بكم البحر ) ولم يقل : فرقنا لكم البحر ، والظاهر أن الباء هنا للآلة ، كما تقول : قطعت بالسكين . وأما قوله - تعالى - : (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق ) ( 26 : 63 ) فإنه لا ينافي أن الانفلاق كان بهم كما في آية البقرة لا بالعصا ، وذلك أن الذي أوحاه الله - تعالى - إلى موسى هو أن يخوض البحر ببني إسرائيل ، وقد عهد أن من كان بيده عصا إذا أراد الخوض في ماء كترعة أو نهر ، فإنه يضرب الماء أولا بعصاه ثم يمشي ، فهذه الآية معبرة عن هذا المعنى : أي ألهمه الله عند ما وصل إلى البحر أن يضربه بعصاه ويمشي ، ففعل ومشى وراءه بنو إسرائيل بجمعهم الكبير ، فانفلق بهم البحر . وأما قوله - تعالى - : ( فكان كل فرق كالطود العظيم ) ( 26 : 63 ) فهو تشبيه معهود مثله في مقام المبالغة ، كقوله - تعالى - : ( وهي تجري بهم في موج كالجبال ) ( 11 : 42 ) وقوله : ( ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام ) ( 42 : 32 ) فالأمواج والسفن والجواري لا تكون كالجبال الشاهقة ، والأعلام الباسقة ، وإنما تقضي البلاغة بمثل هذا التعبير ، لكمال التصوير وإرادة التأثير .

                          هذا ما ينتهي إليه تأويل المؤولين ولم يبسطه الأستاذ الإمام في الدرس ، وإنما قرر أن [ ص: 263 ] فرق البحر كان معجزة لموسى - عليه السلام - ، وحكى عن المتهورين من الذين لا يحبون المعجزات خلافه ، وهو أنهم يزعمون أن عبور البحر كان في وقت الجزر ، وإنما بسطنا تأويلهم لئلا يتوهموا أننا لم نقل به ؛ لأننا لم نهتد لتوجيهه مثلهم ، ولا يهمنا أن ننازعهم في تأويل آية بخصوصها إذا علمنا أنهم يثبتون الآيات الكونية تأييدا للأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ، فإذا كانوا ينفونها كلها فالأولى لهم ألا يتعبوا في تأويل جزئياتها ، فإن منها ما لا يقبل التأويل بحال من الأحوال ، وحينئذ يكون الكلام بيننا وبينهم لإثباتها أولا في قدرة الله وإرادته ، ثم في إثبات أصل الوحي وإرسال الرسل ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، ولنا أن نقول هنا : إن الباء في قوله ( بكم ) سببية ، أو للملابسة لا للآلة ، وقد أشار البيضاوي إلى ذلك كله بقوله : فقلناه وفصلنا بين بعضه وبعض حتى حصلت فيه مسالك لسلوككم فيه أو بسبب إنجائكم ، أو متلبسا بكم .

                          وأزيد الآن : أنني رأيت بعد كتابة ما تقدم ببضع سنين جزءا من تفسير الأصبهاني في خزانة كتب كوبريلي باشا في الآستانة ، فراجعت تفسير هذه الآية فيه فألفيته يذكر في الباء الوجهين ، أي : إن فرق البحر حصل بهم ، أي : بنفس عبورهم أو بسببهم . ومثله قول البغوي : قيل : معناه فرقناه لكم ، وقيل : فرقنا البحر بدخولكم إياه .

                          قال الأستاذ الإمام : بعد أن قرر نعمة الإنجاء من استبعاد الظالمين ، والبعد من فتنة القوم الضالين ، ذكر النعمة التي وليتها ، وذكرهم بما كان من كفرهم إياها ، فقال : ( وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ) وقد كانت هذه المواعدة لإعطائه التوراة ، ولما ذهب لميقات ربه استبطئوه فاتخذوا عجلا من ذهب فعبدوه ، كما هو مفصل في غير هذه السورة - وسيأتي هناك تفسيره إن شاء الله - تعالى - والمراد هنا التذكير بالنعمة وبيان كفرها ؛ ليظهر أن تكذيبهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ومعاندته ليس ببدع من أمرهم ، وإنما هو معهود منهم مع رؤية الآيات وبعد إغداق النعم عليهم ؛ ولذلك اكتفى بالإشارة إليه بقوله : ( ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ) أي : اتخذتموه إلها ومعبودا . وبعد أن ذكرهم بذلك الظلم ذكرهم بتفضله عليهم بالتوبة ، ثم بالعفو الذي هو جزاء التوبة ، فقال : ( ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون ) هذه النعمة بدوام التوحيد والطاعة .

                          ثم قفى على هذا بذكر إيتائهم الكتاب وهو المنة الكبرى ، فقال : ( وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون ) . قال المفسر ( الجلال ) كغيره : إن الفرقان هو التوراة ، وقال بعض المفسرين : إن الفرقان هو ما أوتيه موسى من الآيات والمعجزات . وقال الأستاذ الإمام بعد حكاية القولين : ولكن ذكره بعد الكتاب معطوفا عليه دليل على أن المراد به ما في الكتاب من الشرائع والأحكام المفرقة بين الحق والباطل والحلال والحرام ، ومعنى [ ص: 264 ] قوله : ( لعلكم تشكرون ) و ( لعلكم تهتدون ) أي : ليعدكم بهذا العفو للاستمرار على الشكر ويعدكم بهذه الأحكام والشرائع للاهتداء ويهيئكم للاسترشاد ، فلا تقعوا في وثنية أخرى ، وإن من كمال الاستعداد للهداية بفهم الكتاب أن يعرفوا أن ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - هو هدى ونور يرجعهم إلى الأصل الذي تفرقوا عنه واختلفوا فيه ، وكذلك اهتدى به منهم المستبصرون ، وجاحده الرؤساء المستكبرون ، والمقلدون الذين لا يعقلون .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية