الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
122 [ ص: 265 ] حديث خامس لعبد الرحمن بن القاسم مالك ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة أنها قالت : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش ، انقطع عقد لي ، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التماسه ، وأقام الناس معه ، وليسوا على ماء ، وليس معهم ماء ; فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق ، فقالوا : ألا ترى ما صنعت عائشة ؟ أقامت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبالناس ، وليسوا على ماء ، وليس معهم ماء ، قالت عائشة : فجاء أبو بكر ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضع رأسه على فخذي قد نام ، فقال : حبست رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس ، وليسوا على ماء ، وليس معهم ماء ، فعاتبني أبو بكر ، وقال ما شاء الله أن يقول ، وجعل يطعن بيده في خاصرتي ، فما يمنعني من التحرك إلا مكان رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فخذي ، فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أصبح على غير ماء ; فأنزل الله آية التيمم فقال أسيد بن حضير : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر ، قالت : فبعثنا البعير الذي كنت عليه ، فوجدنا العقد تحته .

[ ص: 266 ]

التالي السابق


[ ص: 266 ] هذا أصح حديث روي في هذا الباب ، وفيه من الفقه : خروج النساء مع الرجال في الأسفار ، وخروجهن مع الرجال في الغزوات وغير الغزوات مباح إذا كان العسكر كبيرا يؤمن عليه الغلبة .

حدثنا عبد الله بن محمد . قال : حدثنا محمد بن بكر . قال : حدثنا أبو داود . قال : حدثنا عبد السلام بن مطهر . قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت البناني ، عن أنس قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار يسقين الماء ، ويداوين الجرحى .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان . قال : حدثنا قاسم بن أصبغ . قال : حدثنا أحمد بن زهير . قال : حدثنا شريح بن النعمان . قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، عن خالد بن ذكوان . قال : قلت للربيع بنت معوذ : هل كنتن تغزون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قالت : نعم ، كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحمل الجرحى ، نسقيهم أو نداويهم .

قال أبو عمر :

وخروج الرجل مع أهله في السفر من العمل المباح ، فإذا كان له نساء حرائر لم يجز له أن يسافر بواحدة منهن حتى يقرع بينهن ، فإذا أقرع بينهن ووقعت القرعة على من وقعت منهن - خرجت معه ، واستأثرت به في سفرها ، فإذا رجع من سفره ، استأنف القسمة بينهن ، ولم يحاسب التي خرجت معه بأيام سفره معها ، وكانت مشقتها في سفرها ونصبها فيه بإزاء نصيبها منه وكونها معه .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المومن . قال : حدثنا أبو بكر أحمد بن سلمان النجار الفقيه ببغداد . قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي . قال : حدثنا إسماعيل بن أبي أويس ، عن أبيه ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه [ ص: 267 ] ، عن عائشة . قالت : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها .

وأخبرنا عبد الله بن محمد . قال : حدثنا أحمد بن سلمان . قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق . قال : حدثنا إسماعيل بن أبي أويس . قال : حدثنا أبي . قال : حدثني الحسن بن زيد بن حسين بن علي بن أبي طالب ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري النجاري ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة مثله ، والسفر المذكور في هذا الحديث يقال : إنه كان في غزاة بني المصطلق - والله أعلم - .

وأما قوله في هذا الحديث : حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش فهكذا في حديث عبد الرحمن بن القاسم ، وروى هشام بن عروة هذا الحديث فاختلف عنه في اسم الموضع الذي انقطع فيه العقد : حدثني يونس بن عبد الله بن محمد . قال : حدثنا محمد بن معاوية . قال : حدثنا جعفر بن محمد الفريابي . قال : حدثنا منجلب بن الحرث ، عن علي بن مسهر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : أنها استعارت من أسماء قلادة لها ، وهي في سفر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانسلت منها ، وكان ذلك المكان يقال له : الصلصل ، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فطلبوها حتى وجدوها ، وحضرت الصلاة ، فلم يكن معهم ماء ، فصلوا بغير وضوء ، فأنزل الله آية التيمم ، فقال لها أسيد بن الحضير : جزاك الله خيرا ، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك فيه وللمسلمين خيرا .

هكذا في الحديث أن القلادة كانت لأسماء ، وأن عائشة استعارتها منها ، وقال : ( قلادة ) ولم يقل ( عقدا ) ، وقال في المكان يقال له الصلصل .

[ ص: 268 ] وروى ابن عيينة هذا الحديث عن هشام بن عروة فقال فيه : سقطت قلادتها ليلة الأبواء فأضاف القلادة إليها ، وقال في الموضع : ( الأبواء ) .

حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان . قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ . قال : حدثنا محمد بن إسماعيل . قال : حدثنا الحميدي . قال : حدثنا سفيان . قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : أنها سقطت قلادتها ليلة الأبواء ، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلين من المسلمين في طلبها ، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء ، فلم يدريا كيف يصنعان ؟ قال : فنزلت آية التيمم . قال أسيد بن حضير : جزاك الله خيرا فما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك منه مخرجا ، وجعل للمسلمين فيه خيرا .

قال أبو عمر :

الرجلان اللذان بعثهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلب القلادة ، كان أحدهما أسيد بن حضير .

أخبرنا عبد الله بن محمد . قال : حدثنا محمد بن بكر . قال : حدثنا أبو داود . قال : حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي . قال : حدثنا أبو معاوية ، قال أبو داود : وحدثنا عثمان بن أبي شيبة . قال : حدثنا عبدة - جميعا عن هشام بن عروة - المعنى واحد - عن أبيه ، عن عائشة . قالت : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسيد بن حضير ، وأناسا معه في طلب قلادة أضلتها عائشة ، فحضرت الصلاة ، فصلوا بغير وضوء ، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا ذلك ، فنزلت آية التيمم ، زاد ابن نفيل فقال لها أسيد : - رحمك الله ، ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله للمسلمين فيه فرجا .

قال أبو عمر :

ليس اختلاف النقلة في العقد والقلادة ، ولا في الموضع الذي سقط ذلك فيه لعائشة ، ولا في قول القاسم عن عائشة : عقد لي ، وقول هشام إن القلادة استعارتها من أسماء عائشة - ما يقدح في الحديث ، ولا يوهن شيئا [ ص: 269 ] منه ; لأن المعنى المراد من الحديث ، والمقصود إليه هو نزول آية التيمم ، ولم يختلفوا في ذلك .

وفي هذا الحديث من رواية هشام بن عروة حكم كبير قد اختلف فيه العلماء وتنازعوه ، وهو الصلاة بغير طهور بماء ولا تيمم لمن عدم الماء ، ولم يقدر على التيمم لعلل منعته من ذلك ، وسنذكر هذا الحكم ، وما للعلماء فيه في هذا الباب إن شاء الله .

حدثنا يونس بن عبد الله بن محمد . قال : حدثنا محمد بن معاوية بن عبد الرحمن . قال : حدثنا جعفر بن محمد بن المستفاض . قال : حدثنا إبراهيم بن الحجاج السلمي . قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه : أن عائشة كانت في سفر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان في عنقها قلادة لأسماء ابنة أبي بكر ، فعرسوا ، فانسلت القلادة من عنقها ، فلما ارتحلوا قالت : يا رسول الله انسلت قلادة أسماء من عنقي ، فأرسل رسول الله رجلين إلى المعرس يلتمسان القلادة - فوجداها ، فحضرت الصلاة ، فصلوا بغير طهور ، فأنزل الله آية التيمم فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فقال أسيد بن حضير : يرحمك الله يا عائشة ، ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله فيه للمسلمين فرجا .

قال أبو عمر :

فهذا ما في حديث عائشة في بدو التيمم والسبب فيه ، وقد رواه عمار بن ياسر بأتم معنى .

حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المومن . قال : حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان . قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل . قال : حدثني أبي . قال : حدثنا [ ص: 270 ] يعقوب بن إبراهيم بن سعد . قال : حدثني أبي ، عن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب . قال : حدثني عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن عمار بن ياسر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرس بأولات الجيش ، ومعه عائشة زوجته ، فانقطع عقد لها من جزع ظفار ، فحبس الناس ابتغاء عقدها ذلك حتى أضاء الصبح ، وليس مع الناس ماء ، فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله رخصة التطهر بالصعيد الطيب ، فقام المسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضربوا بأيديهم الأرض ، ثم رفعوا أيديهم ، ولم يقبضوا من التراب شيئا ، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب ، ومن بطون أيديهم إلى الآباط .

قال أبو عمر :

ليس في الموطأ في ذكر التيمم حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - غير حديث عبد الرحمن بن القاسم هذا ، وهو أصل التيمم ; إلا أنه ليس فيه رتبة التيمم ولا كيفيته ، وقد نقلت آثار في التيمم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مختلفة في كيفيته ، وعلى قدر ذلك من اختلافها اختلف فقهاء الأمصار في القول بها ، ونحن نذكر أقاويلهم والآثار التي منها نزعوا في هذا الباب إن شاء الله .

وأجمع علماء الأمصار بالحجاز ، والعراق ، والشام ، والمشرق ، والمغرب فيما علمت أن التيمم بالصعيد عند عدم الماء طهور كل مريض أو مسافر ; وسواء كان جنبا أو على غير وضوء لا يختلفون في ذلك ، وقد كان عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن مسعود يقولان : الجنب لا يطهره إلا الماء ، ولا يستبيح بالتيمم صلاة ، لقول [ ص: 271 ] الله عز وجل وإن كنتم جنبا فاطهروا ولقوله ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وذهبا إلى أن الجنب لم يدخل في المعنى المراد بقوله : وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ، وكانا يذهبان إلى أن الملامسة ما دون الجماع ، وقد ذكرنا اختلاف العلماء في الملامسة في باب أبي النضر ، والحمد لله .

ولم يتعلق بقول عمر ، وعبد الله في هذا المسألة أحد من فقهاء الأمصار من أهل الرأي وحملة الآثار ، وذلك - والله أعلم - لحديث عمار ، ولحديث عمران بن حصين ، ولحديث أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تيمم الجنب ، أجمع العلماء على القول بذلك - إلا ما ذكرنا عن عمر وابن مسعود ، وهذا يدلك على أن أخبار الآحاد العدول من علم الخاصة قد يخفى على الجليل من العلماء منها الشيء ، وحسبك بما في الموطأ مما غاب عن عمر منها ، وهذا من ذلك الباب ، ولما لم يصل إليهما علم ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تيمم الجنب أو لم يثبت ذلك عندهما - تأولا في الآية المحكمة في الوضوء أن الجنب منفرد بحكم التطهر بالماء والاغتسال به ، وأنه لم يرد بالتيمم ، وذلك جائز سائغ من التأويل في الآية لولا ما بينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تيمم الجنب ، والحديث في ذلك : ما حدثناه خلف بن القاسم ، وعبد الله بن محمد بن أسد . قالا : حدثنا سعيد بن عثمان بن السكن . قال : حدثنا محمد بن يوسف . قال : حدثنا البخاري . قال : حدثنا آدم . قال : حدثنا شعبة . قال : حدثنا الحكم ، عن ذر ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه . قال : جاء رجل إلى عمر بن [ ص: 272 ] الخطاب فقال : إني أجنبت فلم أصب الماء فقال عمار لعمر : أما تذكر ؟ إنا كنا في سفر أنا وأنت ، فأما أنت فلم تصل ، وأما أنا فتمعكت ثم صليت فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إنما كان يكفيك هكذا ، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما ، ومسح بهما وجهه وكفيه . قال البخاري : وحدثني عمر بن حفص بن غياث . قال : حدثنا أبي . قال : حدثنا الأعمش . قال : سمعت شقيق بن سلمة . قال : كنت عند عبد الله ، وأبي موسى فقال : أرأيت يا أبا عبد الرحمن إذا أجنبت فلم تجد ماء ، كيف تصنع ؟ فقال عبد الله : حتى نجد الماء ; فقال أبو موسى : كيف تصنع بقول عمار حين قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : كان يكفيك - يعني الصعيد - . قال : ألم تر عمر لم يقنع بذلك ؟ قال أبو موسى : فدعنا من قول عمار ، كيف تصنع بهذه الآية ؟ فما درى عبد الله ما يقول ، فقال : لو أنا رخصنا لهم في هذا لأوشك إذا برد على أحدهم الماء أن يدعه ويتيمم . فقلت لشقيق : فإنما كرهه عبد الله لهذا ؟ . قال : نعم .

قال أبو عمر :

هذا معروف مشهور عند أهل العلم عن ابن مسعود وعمر ، لا يجهله إلا من لا عناية له بالآثار ، وبأقاويل السلف ، وقد غلط في هذا بعض أهل العلم ، فزعم أن ابن مسعود كان لا يرى الغسل للجنب إذا تيمم ثم وجد الماء ، وهذا جهل بهذا المعنى بين لا خفاء به ، والله المستعان .

[ ص: 273 ] أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا محمد بن كثير العبدي أخبرنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبي مالك ، عن عبد الرحمن بن أبزى . قال : كنت عند عمر فجاءه رجل فقال : إنا نكون بالمكان الشهر والشهرين ، قال عمر : أما أنا فلم أكن أصلي حتى أجد الماء . قال عمار : يا أمير المومنين ، أما تذكر إذ كنت أنا وأنت في الإبل فأصابتنا جنابة ، فأما أنا فتمعكت فأتينا النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا ذلك فقال : إنما كان يكفيك أن تقول - وضرب بيديه هكذا ، ثم نفخهما ، ثم مسح بهما وجهه ويديه إلى نصف الذراع ، قال عمر : يا عمار اتق الله ، فقال : يا أمير المومنين إن شئت والله لم أذكره أبدا . قال : كلا والله ، ولكن نوليك من ذلك ما توليت .

قال أبو عمر :

روى ابن مهدي هذا الحديث ، عن الثوري ، عن سلمة بن أبي مالك ، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن عبد الرحمن بن أبزى مثله ، وروي حديث عمار عنه من طرق كثيرة ، فإن قال قائل : إن في بعض الأحاديث عن عمار في هذا الخبر : أن عمر لم يقنع بقول عمار ، فالجواب : أن عمر كان يذهب إلى أن الجنب لا يجزيه إلا الغسل بالماء ، فلما أخبره عمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن التيمم يكفيه سكت عنه ، ولم ينهه ; فلما لم ينهه علمنا أنه قد وقع بقلبه تصديق عمار ; لأن عمارا قال له : إن شئت لم أذكره ، ولو وقع في قلبه تكذيب عمار لنهاه ; لما كان الله قد جعل في قلبه من تعظيم حرمات الله ، ولا شيء أعظم من الصلاة ، وغير متوهم على عمر أن يسكت على صلاة تصلى عنده بغير طهارة ، وهو الخليفة المسئول عن العامة ، وكان أتقى الناس لربه ، وأنصحهم لهم في دينهم في ذلك الوقت - رحمة الله عليه - وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تيمم الجنب من حديث عمران بن حصين ، وأبي ذر ، وعلى ذلك جماعة العلماء ، والحمد لله .

[ ص: 274 ] أخبرنا عبد الله بن محمد بن أسد . قال : حدثنا سعيد بن عثمان بن السكن . قال : حدثنا محمد بن يوسف . قال : حدثنا البخاري . قال : حدثنا عبدان . قال : أخبرنا عبد الله بن المبارك . قال : أخبرنا عوف ، عن أبي رجاء . قال : حدثنا عمران بن حصين الخزاعي : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم ، فقال : يا فلان ما منعك أن تصلي مع القوم ؟ فقال : يا رسول الله أصابتني جنابة ، ولا ماء ، فقال : عليك بالصعيد فإنه يكفيك .

قال أبو عمر :

فلما بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مراد ربه من معنى آية الوضوء بأن الجنب داخل فيمن قصد بالتيمم عند عدم الماء بقوله فلم تجدوا ماء فتيمموا - تعلق العلماء بهذا المعنى ، ولم يعرجوا على قول عمر وابن مسعود ، وليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يصح عنه .

روى أبو معاوية وغيره ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود . قال : لا يتيمم الجنب ، وإن لم يجد الماء شهرا .

وروى أيوب ، عن أبي قلابة ، عن رجل من بني عامر سمع أبا ذر قال : كنت أعزب عن الماء ، ومعي أهلي ، فتصيبني الجنابة ، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن الصعيد الطيب طهور - وإن لم تجد الماء عشر سنين - فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك أو بشرتك . هكذا رواه حماد بن زيد ، وعبد الوارث عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن رجل من بني عامر ، عن أبي ذر .

ورواه خالد الحذاء عن أبي قلابة ، عن عمر بن بحران ، عن أبي ذر بمعنى واحد .

[ ص: 275 ] واختلف الفقهاء في الذي يدخل عليه وقت الصلاة ويخشى خروجه ، وهو لا يجد الماء ، ولا يستطيع الوصول إليه ، ولا إلى صعيد يتيمم به ، فقال ابن القاسم في المحبوس إذا لم يجد ماء ولم يقدر على الصعيد : صلى كما هو ، وأعاد إذا قدر على الماء أو على الصعيد .

وقال أشهب في المنهدم عليهم ، والمحبوسين ، والمربوط ، ومن صلب في خشبة ولم يمت : لا صلاة عليهم حتى يقدروا على الماء أو على الصعيد ، وإذا قدروا صلوا .

وقال ابن خواز منداد : الصحيح من مذهب مالك : أن كل من لم يقدر على الماء ، ولا على الصعيد حتى خرج الوقت : أنه لا يصلي ، ولا عليه شيء ، قال : رواه المدنيون عن مالك . قال : وهو الصحيح من المذهب .

قال أبو عمر :

ما أعرف كيف أقدم على أن جعل هذا هو الصحيح من المذهب مع خلافه جمهور السلف وعامة الفقهاء وجماعة المالكيين ، وأظنه ذهب إلى ظاهر حديث مالك هذا في قوله : وليسوا على ماء فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أصبح - وهم على غير ماء ; فأنزل الله آية التيمم ، ولم يذكر أنهم صلوا ، وهذا لا حجة فيه ; لأنه لم يذكر أنهم لم يصلوا ، وقد ذكر هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة في هذا الحديث : أنهم صلوا بغير وضوء ، ولم يذكر إعادة ، وقد ذهب إلى هذا طائفة من الفقهاء ، قال أبو ثور : وهو القياس ، وقال ابن القاسم : يصلون إن قدروا وكان عقلهم معهم ، ثم يعيدون إذا قدروا على الطهارة بالماء أو بالتيمم .

وقد روى ابن دينار ، عن معن بن مالك فيمن كتفه الوالي وحبسه فمنعه من الصلاة حتى خرج وقتها : أنه لا إعادة عليه ، وإلى هذه الرواية - والله [ ص: 276 ] أعلم - ذهب ابن خواز منداد ، وكأنه قاسه على المغمى عليه ، وليس هذا وجه القياس ; لأن المغمى عليه مغلوب على عقله ، وهذا معه عقله .

وقال ابن القاسم وسائر العلماء : الصلاة عليه واجبة إذا كان عقله معه ، فإن زال المانع له توضأ أو تيمم وصلى .

وذكر عبد الله بن حبيب . قال : سألت مطرفا ، وابن الماجشون ، وأصبغ بن الفرج عن الخائف تحضره الصلاة ، وهو على دابته على غير وضوء ، ولا يجد إلى النزول للوضوء والتيمم سبيلا فقال بعضهم : يصلي كما هو على دابته إيماء ، فإذا أمن توضأ إن وجد الماء ، أو تيمم إن لم يجد الماء ، وأعاد الصلاة في الوقت وغير الوقت ، وقال لي أصبغ بن الفرج : لا يصلي وإن خرج الوقت حتى يجد السبيل إلى الطهور بالوضوء أو التيمم ، قال : ولا يجوز لأحد الصلاة بغير طهر ، قال عبد الملك بن حبيب : وهذا أحب إلي ، قال : وكذلك الأسير المغلول لا يجد السبيل إلى الوضوء بالماء ولا التيمم ، والمريض المثبت الذي لا يجد من يناوله الماء ، ولا يستطيع التيمم - هما مثل الذي وصفنا من الخائف ، وكذلك قال أصبغ بن الفرج في هؤلاء الثلاثة . قال : وهو أحسن ذلك عندي وأقواه ، وعن الشافعي روايتان إحداهما : لا يصلي حتى يجد طهارة ، والأخرى يصلي كما هو ويعيد ، وهو المشهور عنه .

. قال المزني - : إذا كان محبوسا لا يقدر على تراب نظيف صلى ، وأعاد إذا قدر .

وقال أبو حنيفة في المحبوس في المصر : إذا لم يجد ماء ، ولا ترابا نظيفا لم يصل ، وإذا وجد ذلك صلى .

[ ص: 277 ] وقال أبو يوسف ، ومحمد ، والثوري ، والشافعي ، والطبري : يصلي ويعيد ، وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، والشافعي : إن وجد المحبوس في المصر ترابا نظيفا صلى في قولهم وأعاد .

وقال زفر : لا يتيمم ، ولا يصلي ، وإن وجد ترابا نظيفا على أصله في أنه لا يتيمم في الحضر .

وقال ابن القاسم : لو تيمم على التراب النظيف أو على وجه الأرض لم تكن عليه إعادة إذا وجد الماء .

قال أبو عمر :

هاهنا مسألة أخرى في تيمم الذي يخشى فوت الوقت ، وهو في الحضر ، ولا يقدر على الماء ، وهو قادر على الصعيد - سنذكرها ، ونذكر اختلاف العلماء فيما بعد هذا إن شاء الله .

وقد ذكر أبو ثور أن من أهل العلم من قال : إنه يصلي كما هو ولا يعيد ، ومذهب أبي ثور في ذلك كمذهب الشافعي ومن تابعه ، وزعم أبو ثور أن القياس أن لا إعادة عليه ; لأنه كمن لم يجد ثوبا صلى عريانا ، ولا إعادة عليه . قال : وإنما الطهارة بالماء أو بالصعيد كالثوب ، فمن لم يقدر عليها سقطت عنه ، والصلاة له لازمة على حسب قدرته ، وقد أداها في وقتها على قدر طاقته .

وقد اختلفوا في وجوب إعادتها ، ولا حجة لمن أوجب الإعادة عليه ; وأما الذين قالوا : من لم يقدر على الماء ولا على الصعيد صلى كما هو ، وأعاد إذا قدر على الطهارة ، فإنهم احتاطوا للصلاة فذهبوا إلى حديث عائشة المذكور في هذا الباب من رواية هشام بن عروة ، وفيه : أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين بعثهم في طلب القلادة ، حضرتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء ; إذ لم يجدوا الماء ، فلم يعنفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نهاهم ، وكانت طهارتهم الماء ، فلما عدموه صلوا كما كانوا في الوقت ، ثم نزلت آية التيمم ; فكذلك إذا لم يقدر [ ص: 278 ] على الماء ، ولا على التيمم ، ثم عدم الماء صلى في الوقت كما هو ، فإذا وجد الماء أو قدر على التيمم ، ثم عدم الماء - أعاد تلك الصلاة احتياطا ; لأنها صلاة بغير طهور ، وقالوا : لا يقبل الله صلاة بغير طهور لمن قدر على الطهور ; فأما من لم يقدر على الطهور فليس كذلك ; لأن الوقت فرض وهو قادر عليه ، فيصلي كما قدر في الوقت ، ثم يعيد ، فيكون قد أخذ بالاحتياط في الوقت والطهارة جميعا ، وذهب الذين قالوا : إنه لا يصلي حتى يجد الماء أو التيمم - إلى ظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا يقبل الله صلاة بغير طهور . قالوا : ولما أوجبوا عليه الإعادة إذا قدر على الماء أو التيمم لم يكن لأمرهم إياه بالصلاة معنى ، وفي حديث مالك هذا عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة قولها فيه : فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أصبح على غير ماء - دليل على أن من عدم الطهارة لم يصل حتى تمكنه ، وبالله التوفيق .

أخبرنا محمد بن إبراهيم . قال : حدثنا محمد بن معاوية . قال : حدثنا أحمد بن شعيب . قال : أخبرنا قتيبة بن سعيد . قال : حدثنا أبو عوانة ، عن قتادة ، عن أبي الملح ، عن أبيه . قال : . قال رسول - صلى الله عليه وسلم - : لا يقبل الله صلاة بغير طهور ، ولا صدقة من غلول .

وأخبرنا عبد الله بن محمد . قال : حدثنا محمد بن بكر . قال : حدثنا أبو داود . قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم . قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أبي الملح ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تقبل صدقة من غلول ، ولا صلاة بغير طهور .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان . قال : حدثنا قاسم بن أصبغ . قال : حدثنا بكر بن حماد . قال : حدثنا مسدد . قال : حدثنا يحيى ، عن شعبة ، عن سماك بن [ ص: 279 ] حرب ، عن مصعب بن سعد : أن ابن عمر قال لابن عامر : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا يقبل الله صلاة بغير طهور ، ولا صدقة من غلول .

وروى سعيد بن سنان ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

حدثنا عبد الله بن محمد . قال : حدثنا محمد بن بكر . قال : حدثنا أبو داود . قال : حدثنا أحمد بن حنبل . قال : حدثنا عبد الرزاق . قال : أخبرنا معمر عن همام بن منبه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ .

وفي قوله في حديث مالك : وليسوا على ماء ، وليس معهم ماء - دليل على أن الوضوء قد كان لازما لهم قبل نزول آية الوضوء ، وأنهم لم يكونوا يصلون إلا بوضوء قبل نزول الآية ; لأن قوله : فأنزل الله آية التيمم ، وهي آية الوضوء المذكورة في سورة المائدة ، أو الآية التي في سورة النساء ، ليس التيمم مذكورا في غير هاتين الآيتين ، وهما مدنيتان ، والآية ليست بالكلمة ولا الكلمتين ، وإنما هي الكلام المجتمع الدال على الإعجاز الجامع لمعنى مستفاد قائم بنفسه .

ومعلوم أن غسل الجنابة لم يفترض قبل الوضوء ، كما أنه معلوم عند جميع أهل السير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ افترضت عليه الصلاة بمكة لم يصل إلا بوضوء مثل وضوئنا اليوم ، وهذا ما لا يجهله عالم ، ولا يدفعه إلا معاند ; وفيما ذكرنا دليل على أن آية الوضوء إنما نزلت ليكون فرضها المتقدم متلوا في التنزيل ، ولها نظائر كثيرة ليس هذا موضع ذكرها ، وفي قوله في حديث مالك : فنزلت آية التيمم ، ولم يقل : آية الوضوء - ما يتبين به أن الذي طرأ إليهم من العلم في ذلك الوقت حكم التيمم لا حكم الوضوء - والله أعلم - .

[ ص: 280 ] ومن فضل الله ونعمته أن نص على حكم الوضوء وهيئته بالماء ، ثم أخبر بحكم التيمم عند عدم الماء ، وقد تقدم القول في فرض الصلاة والوضوء في باب ابن شهاب ، عن عروة ، والحمد لله .



وفي قوله أيضا : ليسوا على ماء وليس معهم ماء ، وإقامة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع تلك الحال على التماس العقد - دليل على أنه ليس للمرء أن ينصرف عن سفر لا يجد فيه ماء ، ولا يترك سلوك طريق لذلك ، وحسبه وسلوك ما أباح الله له .

وأما التيمم ، فمعناه في اللغة : القصد ، ومعناه في الشريعة : القصد إلى الصعيد خاصة للطهارة عند عدم الماء ، فيضرب عليه من كفيه ، ثم يمسح بهما وجهه ويده ، قال أبو بكر بن الأنباري : قولهم قد تيمم الرجل معناه : قد مسح التراب على يديه ووجهه ; قال : وأصل " تيمم " قصد ، فمعنى تيمم : قصد التراب فتمسح به ; . قال الله عز وجل ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون - معناه : لا تعمدوا الخبيث فتنفقوا منه .

قال : الممزق أو المثقب :


وما أدري إذا يممت وجها أريد الخير أيهما يليني أألخير الذي أنا أبتغيه
أم الشر الذي هو يبتغيني

يريد : قصدت واعتمدت وجها .

وقال آخر :


( وفي ) الأظعان آنسة لعوب تيمم أهلها بلدا فساروا

[ ص: 281 ] يعني قصد أهلها بلدا .

وقال حميد بن ثور :


وما يلبث العصران : يوم وليلة إذا طلبا أن يدركا ما تيمما

وقال امرؤ القيس :


تيممتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عال

وقال خفاف بن ندية :


فإن تك خيلي قد أصيب صميمها فعمدا على عيني تيممت مالكا

معناه : تعمدت مالكا .

وقال آخر :


إني كذلك إذا ما ساءني بلد يممت صدر بعيري غيره بلدا

يعني قصدت . ومثل هذا كثير ، فمعنى قول الله عز وجل فتيمموا صعيدا أي اقصدوا صعيدا طيبا ، والصعيد وجه الأرض ، وقيل : التراب الطيب الطاهر . قال - صلى الله عليه وسلم - : جعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا وطهور بمعنى طاهر مطهر على ما ذكرنا في غير موضع من كتابنا هذا ، كما قال الله عز وجل وأنزلنا من السماء ماء طهورا يعني : طاهرا مطهرا .

[ ص: 282 ] واختلف العلماء في كيفية التيمم : فقال مالك والشافعي ، وأبو حنيفة وأصحابهم ، والثوري ، وابن أبي سلمة ، والليث : ضربتان : ضربة للوجه يمسح بها وجهه ، وضربة لليدين يمسحهما إلى المرفقين ، يمسح اليمنى باليسرى ، واليسرى باليمنى ; إلا أن بلوغ المرفقين عند مالك ليس بفرض ، وإنما الفرض عنده إلى الكوعين ، والاختيار - عنده - إلى المرفقين ، وسائر من ذكرنا معه من الفقهاء يرون بلوغ المرفقين بالتيمم فرضا واجبا ، وممن روي عنه التيمم إلى المرفقين : ابن عمر ، والشعبي ، والحسن ، وسالم ، وقال الأوزاعي : التيمم ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى الكوعين ، وهما الرسغان .

وروي ذلك عن علي بن أبي طالب ، وقد روي عن الأوزاعي ، وهو أشهر عنه : أن التيمم ضربة واحدة يمسح بها وجهه ويديه إلى الكوعين ، وهو قول عطاء والشعبي في رواية ، وبه قال أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وداود بن علي ، والطبري ، وهو أثبت ما روي في ذلك من حديث عمار ، رواه شقيق بن سلمة أبو وائل ، عن أبي موسى ، عن عمار فقال فيه : ضربة واحدة لوجهه وكفيه ، ولم يختلف في حديث أبي وائل هذا ، وسائر أحاديث عمار مختلف فيها ، وحديث أبي وائل هذا عند الثوري ، وأبي معاوية ، وجماعة ، عن الأعمش .

وقال مالك : إن مسح وجهه ويديه بضربة واحدة أجزاه ، وإن مسح يديه إلى الكوعين أجزاه ، وأحب له أن يعيد في الوقت ، والاختيار عند مالك ضربتان وبلوغ المرفقين . . وحجة من رأى أن التيمم إلى الكوعين جائز ، ولم ير بلوغ المرفقين واجبا - ظاهر قول الله عز وجل - : فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه . ولم يقل : إلى المرفقين ، وما كان ربك نسيا فلم [ ص: 283 ] يجب بهذا الخطاب إلا أقل ما يقع عليه اسم يد ; لأنه اليقين ، وما عدا ذلك شك ، والفرائض لا تجب إلا بيقين ، وقد قال الله عز وجل والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما وثبتت السنة المجتمع عليها : أن الأيدي في ذلك أريد بها من الكوع ، فكذلك التيمم إذ لم يذكر فيه المرفقين ، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أكثر الآثار في التيمم أنه مسح وجهه وكفيه ، وكفى بهذا حجة ; لأنه لو كان ما زاد على ذلك واجبا لم يدعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وقال أبو حنيفة ، والثوري ، والليث ، والشافعي : لا يجزيه إلا ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين ، ولا يجزيه دون المرفقين ، وبه قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، وإليه ذهب إسماعيل بن إسحاق القاضي ، وقال ابن أبي ليلى ، والحسن بن حي : التيمم ضربتان : يمسح بكل ضربة منهما وجهه وذراعيه ومرفقيه ، ولم يقل ذلك أحد من أهل العلم غيرهما فيما علمت ، وقال الزهري : يبلغ بالتيمم الآباط ، ولم يقل ذلك أحد غيره أيضا - والله أعلم - .

فأما ما ذهب إليه ابن شهاب من التيمم إلى المناكب والآباط ، فإنه صار إلى ما رواه في ذلك ، مع أن اللغة تقضي أن اليد من المنكب .

أخبرنا محمد بن إبراهيم . قال : حدثنا محمد بن معاوية . قال : حدثنا أحمد بن شعيب . قال : أخبرنا العباس بن عبد العظيم . قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء ، عن جويرية ، عن مالك ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه أخبره عن أبيه ، عن عمار بن ياسر . قال : تمسحنا مع [ ص: 284 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتراب ، فمسحنا بوجوهنا وأيدينا إلى المناكب ، هكذا قال مالك في هذا الحديث عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن أبيه ، عن عمار ، وتابعه أبو أويس .

ورواه صالح بن كيسان ، وابن أخي ابن شهاب ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن عمار ، وكذلك رواه ابن إسحاق سواء في إسناده ، وخالفه في سياقته ومتنه .

حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا محمد بن أبي خلف ، ومحمد بن يحيى في آخرين قالوا : حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد . قال : حدثني أبي ، عن صالح ، عن ابن شهاب قال : حدثني عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن عمار بن ياسر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرس بأولات الجيش ، ومعه عائشة ، فانقطع عقد لها من جزع ظفار ، فحبس الناس ابتغاء عقدها حتى أضاء الفجر ، وليس مع الناس ماء ، فتغيظ عليها أبو بكر ، وقال : حبست الناس وليس معهم ماء ، فأنزل الله على رسوله رخصة التطهر بالصعيد الطيب ، فقام المسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضربوا بأيديهم إلى الأرض ، ثم رفعوا أيديهم ، ولم يقبضوا من التراب شيئا ، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب ، ومن بطون أيديهم إلى الآباط ، زاد ابن يحيى في حديثه : قال ابن شهاب ، ولا يعتبر بهذا الناس .

هكذا قال صالح بن كيسان : ضربة واحدة للوجه واليدين .

[ ص: 285 ] ورواه يونس ، وابن أبي ذئب ، ومعمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله ، عن عمار ، ولم يقولوا عن أبيه كما قال مالك ، ولا قالوا عن ابن عباس كما قال صالح ، وابن إسحاق ، وذكروا فيه ضربتين : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المناكب والآباط ، وكذلك ذكر فيه معمر ضربتين - واضطرب ابن عيينة عن الزهري - في هذا الحديث في إسناده ومتنه ، وهذا الحديث عن عمار في التيمم إلى المناكب كان في حين نزول آية التيمم في قصة عائشة ، كذلك ذكر صالح بن كيسان ، ومعمر ، وطائفة من أصحاب ابن شهاب ، وقد ذكرنا حديث صالح .

وأما حديث معمر ، فأخبرناه عبد الله بن محمد بن عبد المومن ، وكتبته من أصل سماعه . قال : أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان . قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل . قال : حدثني أبي . قال : حدثنا عبد الرزاق . قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة : أن عمار بن ياسر كان يحدث أنه كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر ، معه عائشة ، فهلك عقدها ، فاحتبس الناس في ابتغائه ، حتى أصبحوا وليس معهم ماء ، فنزل التيمم ، قال عمار : فقاموا فمسحوا فضربوا بأيديهم ، فمسحوا بها وجوههم ، ثم عادوا فضربوا بأيديهم ثانية ، فمسحوا بها أيديهم إلى الإبطين ، أو قال : إلى المناكب ، ثم قد روي عن عمار خلاف ذلك في التيمم ، رواه عنه عبد الرحمن بن أبزى ، فاختلف عليه فيه فقال عنه قوم : ومسح ذراعيه إلى نصف الساعد ، وقال آخرون : إلى المرفقين ، وقال أكثرهم عنه فيه : وجهه وكفيه ، واختلف فيه الحكم بن عتبة وسلمة بن كهيل ، عن ذر الهمداني ، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ، عن عمار .

[ ص: 286 ] وأخبرنا عبد الله بن محمد . قال : أخبرنا محمد بن بكر . قال : أخبرنا أبو داود . قال : حدثنا محمد بن المنهال . قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن عزرة ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ، عن عمار بن ياسر . قال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التيمم ، فأمرني ضربة واحدة للوجه والكفين ، وسؤاله كان بعد ذلك - والله أعلم - .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان . قال : حدثنا قاسم بن أصبغ . قال : حدثنا أحمد بن زهير . قال : حدثنا عفان . قال : حدثنا أبان . قال : أخبرنا قتادة ، عن عزرة ، عن سعيد بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن عمار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في التيمم : ضربة للوجه والكفين .

قال أبو عمر :

عند قتادة في حديث عمار هذا - إسناد آخر بخلاف هذا المعنى : حدثنا عبد الوارث . قال : حدثنا قاسم . قال : حدثنا أحمد بن زهير . قال : حدثنا موسى بن إسماعيل . قال : حدثنا أبان بن يزيد . قال : سئل قتادة عن التيمم في السفر فقال : كان ابن عمر يقول : إلى المرفقين ، وكان الحسن يقول : إلى المرفقين ، وكان إبراهيم النخعي يقول : إلى المرفقين .

وحدثني محدث عن الشعبي ، عن عبد الرحمن بن أبزى ، عن عمار بن ياسر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إلى المرفقين ، ومما يدلك على أن حديث عمار في التيمم للوجه والكفين أو المرفقين غير حديثه في قصة نزول آية التيمم حين تيمم إلى المناكب - أنه في حديث أبي إسحاق ، عن ناجية أبي خفاف ، عن عمار ، وفي حديث أبي وائل ، عن أبي موسى ، عن عمار أنه قال : أجنبت فتمعكت في التراب ، ثم سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : كان يكفيك التيمم ضربة للوجه واليدين .

[ ص: 287 ] قال أبو عمر :

أكثر الآثار المرفوعة عن عمار في هذا الحديث إنما فيها ضربة واحدة للوجه واليدين ، وكل ما يروى في هذا الباب عن عمار فمضطرب مختلف فيه ، وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أن أصح حديث روي عن مالك ، عن عمار - حديث قتادة عن عزرة ، وقال بعض من يقول بالتيمم إلى المرفقين : قتادة إذا لم يقل سمعت أو حدثنا فلا حجة في نقله ، وهذا تعسف - والله أعلم - .

وأما ما روي مرفوعا في التيمم إلى المرفقين ، فروى ابن الهادي ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تيمم إلى المرفقين ، وأصحاب نافع الحفاظ يروونه عن نافع ، عن ابن عمر - فعله : أنه كان يتيمم إلى المرفقين ، هكذا رواه مالك وغيره .

ورواه محمد بن ثابت العبدي ، عن نافع ، عن ابن عمر - مرفوعا ، وأنكروه عليه ، وضعفوه من أجله ، وبعضهم يرويه عنه ، عن نافع ، عن ابن عباس : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تيمم في السكة ، فضرب بيديه على الحائط ، ومسح بهما وجهه ، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها ذراعيه ، وهذا لم يروه عن نافع غير محمد بن ثابت هذا ، وبه يعرف ، ومن أجله يضعف ، وهو عندهم حديث منكر ، لا يعرفه أصحاب نافع .

قال أبو عمر :

لما اختلفت الآثار في كيفية التيمم وتعارضت ، كان الواجب في ذلك الرجوع إلى ظاهر الكتاب ، وهذا يدل على ضربتين : للوجه ضربة ، ولليدين أخرى إلى المرفقين - قياسا على الوضوء ، واتباعا لفعل ابن عمر - رحمه الله ، فإنه من لا يدفع علمه بكتاب الله ، ولو ثبت شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك وجب الوقوف عنده ، - وبالله التوفيق .

[ ص: 288 ] وقال الطحاوي : لما اختلفت الآثار في كيفية التيمم رجعنا إلى الاعتبار ، فوجدنا الأعضاء التي ذكرها الله في الوضوء قد سقط التيمم عن بعضها ، وهو الرأس والرجلان ، فبطل بذلك قول من قال : إلى المناكب ; لأن التيمم لما بطل عن بعض ما يوضأ ، كان ما لا يوضأ أحرى أن لا يلزمه التيمم ; قال : ثم رأينا الوجه ييمم بالصعيد كما يغسل بالماء ، ورأينا الرأس والرجلين لا ييممان ، فكان ما سقط التيمم عن بعضه سقط عن كله ، وما وجب فيه التيمم كان كالوضوء سواء ، لأنه جعل بدلا منه ; فلما ثبت أن بعض ما يغسل من اليدين في حال وجود الماء ييمم في حال عدم الماء ، ثبت بذلك أن التيمم في اليدين إلى المرفقين - قياسا ونظرا .

وقال غيره : لما ذكر الله عز وجل إلى المرفقين في الوضوء ، استغنى عن ذكر ذلك وتكريره في التيمم ، كما أنه لما اشترط المس في تحرير الرقبة على المظاهر وفي صيامه حيث قال : من قبل أن يتماسا - استغنى عن ذكر ذلك واشتراطه في الإطعام ؛ لأنه بدل منه ، وحكم البدل حكم المبدل منه ، فالسكوت عن ذلك اكتفاء - والله أعلم - .

قال أبو عمر :

لما قال الله في آية الوضوء : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأجمعوا أن ذلك ليس في غسلة واحدة ، وأن غسل الوجه غير غسل اليدين ، فكذلك يجب أن تكون الضربة في التيمم للوجه غير الضرب لليدين قياسا - والله أعلم - ; إلا أن يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلاف ذلك ، فيسلم له ، وكذلك البلوغ إلى المرفقين قياسا على الوضوء ، إن لم يثبت خلافه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

[ ص: 289 ] واختلفوا في الصعيد ، فقال مالك وأصحابه : الصعيد وجه الأرض ، ويجوز التيمم عند مالك بالحصباء ، والجبل ، والرمل ، والتراب ، وكل ما كان وجه الأرض .

وقال أبو حنيفة ، وزفر : يجوز أن يتيمم بالنورة ، والحجر ، والزرنيخ ، والجص ، والطين ، والرخام ، وكل ما كان من الأرض .

وقال الأوزاعي : يجوز التيمم على الرمل .

وقال الثوري وأحمد بن حنبل : يجوز التيمم بغبار الثوب واللبد ، ولا يجوز عند مالك التيمم بغبار اللبد والثوب .

وذكر ابن خواز منداد قال : الصعيد - عندنا - وجه الأرض ، وكل أرض جائز التيمم عليها : صحراء كانت أو معدنا أو ترابا . قال : وبذلك قال أبو حنيفة ، والأوزاعي ، والثوري ، والطبري . قال : ويجوز التيمم عند مالك على الحشيش إذا كان دون الأرض ، واختلفت الرواية عنه في التيمم على الثلج ، فأجازه مرة ، ومنع منه أخرى ، قال : وكل ما صعد على وجه الأرض فهو صعيد ، ومن حجته في ذلك قول الله عز وجل صعيدا جرزا يعني أرضا غليظة لا تنبت شيئا ، و صعيدا زلقا وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحشر الناس على صعيد واحد أي أرض واحدة .

[ ص: 290 ] وقال الشافعي ، وأبو يوسف ، وداود : الصعيد التراب ، ولا يجزي عندهم التيمم بغير التراب ، وقال الشافعي : لا يقع صعيد إلا على تراب ذي غبار ، فأما الصحراء الغليظة والرقيقة ، والكثيب أو الغليظ ، فلا يقع عليه اسم صعيد .

وقال أبو ثور : لا يتيمم إلا بتراب أو رمل .

قال أبو عمر :

أجمع العلماء على أن التيمم بالتراب ذي الغبار جائز ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعلت لنا الأرض مسجدا وتربتها طهورا ، وهو يقضي على قوله : مسجدا وطهورا ، ويفسره - والله أعلم - .

وقال ابن عباس : أطيب الصعيد أرض الحارث ، ذكر عبد الرزاق عن الثوري ، عن قابوس ، عن أبي ظبيان قال : سئل ابن عباس : أي الصعيد أطيب ؟ فقال : الحرث .

وقال الشاعر :


قتلى حنيطهم الصعيد وغسلهم نجع الترائب والرؤوس تقطف

وهذا البيت - عندي - محتمل للتأويل .

حدثنا أحمد بن محمد . قال : حدثنا وهب بن مسرة . قال : حدثنا ابن وضاح . قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة . قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن أبي مالك الأشجعي ، عن ريعي ، عن حذيفة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فضلنا على الناس بثلاث : جعلت لنا الأرض كلها مسجدا ، وجعلت تربتها لنا إذا لم نجد الماء طهورا ، وذكر تمام الحديث .

[ ص: 291 ] قال : وحدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن زهير بن محمد ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن محمد بن علي ابن الحنفية ، أنه سمع علي بن أبي طالب يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء : نصرت بالرعب ، وأعطيت مفاتيح الأرض ، وسميت أحمد ، وجعل التراب لي طهورا ، وجعلت أمتي خير الأمم .

وجماعة العلماء على إجازة التيمم بالسباخ إلا إسحاق بن راهويه فإنه قال : لا يتيمم بتراب السبخة .

وروي عن ابن عباس فيمن أدركه التيمم وهو في طين . قال : يأخذ من الطين فيطلي به بعض جسده فإذا جف تيمم به .

وأجمع العلماء على أن طهارة التيمم لا ترفع الجنابة ولا الحدث إذا وجد الماء ، وأن المتيمم للجنابة أو الحدث إذا وجد الماء عاد جنبا كما كان أو محدثا ، وأنه إن صلى بالتيمم ، ثم فرغ من صلاته فوجد الماء ، وقد كان اجتهد في طلبه فلم يجده ، ولم يكن في رحله - أن صلاته تامة ، ومنهم من استحب له أن يعيد في الوقت إذا توضأ أو اغتسل ، ولم يختلفوا أن الماء إذا وجده المتيمم بعد تيممه ، وقبل دخوله في الصلاة ، أنه بحاله قبل أن يتيمم ، وأنه لا يستبيح صلاة بذلك التيمم إلا شذوذا .

روي في ذلك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن - أنه يصلي بذلك التيمم ، واختلفوا إذا رأى الماء بعد دخوله في الصلاة فقال مالك ، والشافعي ، وأصحابهما ، وداود ، والطبري : يتمادى في صلاته ويجزيه ، فإذا فرغ ووجد الماء للصلاة الأخرى وجب عليه استعماله ، وأما الصلاة فلا يقطعها لرؤية الماء ، وحجتهم أنه مأمور بطلب الماء إذ أوجب عليه القيام إلى الصلاة [ ص: 292 ] بدخول وقتها ، فإن لم يجد الماء تيمم ، وما لم يدخل في الصلاة فهو مخاطب بذلك ، فإذا دخل في الصلاة سقط عنه الطلب ; لاشتغاله بما هو مأمور به من عمل الصلاة التي دخل فيها ، وإذا سقط عنه الطلب سقط عنه استعمال الماء إذا وجده ; لأنه مشتغل بفرض آخر عن طلب الماء ، فليس عليه استعماله إذا سقط عنه طلبه ، وقد أجمعوا أنه يدخل في صلاته بالتيمم عند عدم الماء ، واختلفوا في قطع تلك الصلاة إذا رأى الماء ، ولم تثبت سنة بقطعها ولا إجماع ، وليس قول من قال : إن رؤية الماء حدث بشيء ; لأن ذلك لو كان كذلك كان الجنب إذا تيمم ثم وجد الماء - يعود كالمحدث لا يلزمه إلا الوضوء ، والبناء عندهم على ما صلى كسائر المحدثين ، وهذا لا يقوله أحد .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه ، وجماعة ، منهم أحمد بن حنبل ، والمزني ، وابن علية : إذا وجد الماء أو رآه ، وهو في الصلاة ، قطع وخرج إلى استعماله في الوضوء أو في الغسل ، واستقبل صلاته ، وحجتهم : أن التيمم لما بطل بوجود الماء قبل الصلاة ، كان كذلك في الصلاة ; لأنه لما لم يجز له عملها بالتيمم مع وجود الماء ، كان كذلك لا يجوز له عمل ما بقي منها مع وجود الماء ، وإذا بطل بعضها بطلت كلها ، واحتجوا أيضا بالإجماع على المعتدة بالشهور لا يبقى عليها منها إلا أقلها ، ثم تحيض - أنها تستقبل عدتها بالحيض ; قالوا : والذي يطرأ عليه الماء وهو في الصلاة كذلك ، وللفريقين ضروب من الحجج في هذه المسألة المطلوب ذكرها ، وفي هذا الحديث التيمم في السفر ، وهو أمر مجتمع عليه ، واختلف العلماء في التيمم في الحضر عند عدم الماء ، فذهب مالك وأصحابه إلى أن التيمم في السفر والحضر سواء إذا عدم الماء ، أو تعذر استعماله لمرض أو خوف شديد ، أو [ ص: 293 ] خوف خروج الوقت ، وهذا كله قول أبي حنيفة ، ومحمد ، وحجتهم : أن ذكر الله المرضى والمسافرين في شرط التيمم خرج على الأغلب فيمن لا يجد الماء ، والحاضرون الأغلب عليهم وجود الماء ، فلذلك لم ينص عليهم ، فإذا لم يجد الحاضر الماء أو منعه منه مانع وجب عليه التيمم للصلاة ليدرك وقتها ; لأن التيمم عندهم إنما ورد لإدراك وقت الصلاة وخوف فوته ، وكذلك أمر الله بالتيمم حفظا للوقت ومراعاته ، فكل من لم يجد الماء تيمم : المسافر بالنص ، والحاضر بالمعنى ، وكذلك المريض بالنص ، والصحيح بالمعنى - والله أعلم - .

وقال الشافعي : لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم ; إلا أن يخاف التلف ، وبه قال الطبري ، وقال أبو يوسف ، وزفر : لا يجوز التيمم في الحضر لا لمرض ، ولا لخوف خروج الوقت ، وحجة هؤلاء : أن الله جعل التيمم رخصة للمريض والمسافر كالفطر وقصر الصلاة ، ولم يبح التيمم إلا بشرط المرض أو السفر ، فلا دخول للحاضر في ذلك لخروجه من شرط الله تبارك اسمه ، والكلام بين الفرق في هذه المسألة طويل ، وبالله التوفيق .

وقال الشافعي أيضا ، والطبري : إذا عدم الماء في الحضر مع خوف فوت الوقت للصحيح والسقيم تيمم وصلى ، ثم أعاد .

فصل ، التيمم للمريض والمسافر ، إذا لم يجد الماء بالكتاب والسنة والإجماع إلا ما ذكرت لك في تيمم الجنب ، فإذا وجد المريض أو المسافر الماء حرم عليه التيمم ; إلا أن يخاف المريض ذهاب نفسه ، وتلف مهجته ، فيجوز له حينئذ التيمم مع وجود الماء بالسنة لا بالكتاب ; إلا أن يتأول ولا تقتلوا أنفسكم ، وقد أبان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التيمم لعمرو بن [ ص: 294 ] العاص وهو مسافر إذ خاف إن اغتسل بالماء ، فالمريض أحرى بذلك - والله أعلم - .

وقال عطاء بن أبي رباح : لا يتيمم المريض إذا وجد الماء ولا غير المريض ; لأن الله يقول وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فلم يبح التيمم لأحد إلا عند فقد الماء ، ولولا قول الجمهور وما روي من الأثر ، كان قول عطاء صحيحا - والله أعلم - .

واختلف الفقهاء أيضا في التيمم : هل تصلى به صلوات أم يلزم التيمم لكل صلاة ؟ فقال مالك : لا يصلي صلاتين بتيمم واحد ، ولا يصلي نافلة ومكتوبة بتيمم واحد ; إلا أن تكون نافلة بعد مكتوبة . قال : وإن صلى ركعتي الفجر بتيمم الفجر أعاد التيمم لصلاة الفجر .

وقال الشافعي : يتيمم لكل صلاة - النافلة والفرض ، وصلاة الجنائز - بتيمم واحد ، ولا يجمع بين صلاتي فرض بتيمم واحد في سفر ولا في حضر .

وقال شريك بن عبد الله القاضي : يتيمم لكل صلاة نافلة وفريضة .

ولم يختلف قول مالك وأصحابه فيمن تيمم لصلاة فصلاها ، فلما سلم منها ذكر صلاة نسيها ، إنه يتيمم لها ، واختلفوا فيمن صلى صلاتي فرض بتيمم واحد ، فروى يحيى ، عن ابن القاسم فيمن صلى صلوات كثيرة بتيمم واحد ، أنه يعيد ما زاد على واحدة في الوقت ، واستحب أن يعيد أبدا .

وروى أبو زيد بن أبي الغمر عنه أنه يعيدها أبدا ، وقال أصبغ : إن جمع بين صلاتين بتيمم واحد نظر ، فإن كانتا مشتركتين في الوقت أعاد الآخرة في الوقت ، وإن كانتا غير مشتركتين كالعصر والمغرب أعاد الثانية أبدا .

[ ص: 295 ] وذكر ابن عبدوس أن ابن نافع روى عن مالك في الذي يجمع بين الصلاتين أنه يتيمم لكل صلاة .

وقال أبو الفرج في ذاكر الصلوات : إن قضاهن بتيمم واحد فلا شيء عليه ، وذلك جائز له ، ولأصحاب مالك في هذا الباب ضروب من الاضطراب ، ومن حجة من رأى التيمم لكل صلاة : أن الله أوجب على كل قائم إلى الصلاة طلب الماء ، وأوجب عند عدمه التيمم ، وعلى المتيمم عند دخول وقت صلاة أخرى ما عليه في الأولى ، وليست الطهارة بالصعيد كالطهارة بالماء ; لأنها طهارة ناقصة ، طهارة ضرورة لاستباحة الصلاة قبل خروج الوقت ، بدليل إجماع المسلمين على بطلانها بوجود الماء وإن لم يحدث ، وليس كذلك الطهارة بالماء ، ألا ترى أن السنة المجتمع عليها قد وردت بجواز صلوات كثيرة بوضوء واحد بالماء ; لأن الوضوء الثاني في حكم الأول ليس بناقض له ، وليس كذلك إذا وجد الماء بعد التيمم ، فلذلك أمر بطلبه لكل صلاة ، وإذا طلبه ولم يجده تيمم بظاهر قول الله فلم تجدوا ماء فتيمموا ولما أجمعوا أنه لا يتيمم قبل دخول الوقت دل على أنه يلزمه التيمم لكل صلاة ، لئلا تكون قبل دخول الوقت .

وقال أبو حنيفة ، والثوري ، والليث ، والحسن بن حي ، وداود : يصلي ما شاء بتيمم واحد ما لم يحدث ; لأنه طاهر ما لم يجد الماء ، وليس عليه طلب الماء إذا يئس منه ، وللكلام في هذه المسألة وجوه يطول الباب بذكرها ، وفي التيمم مسائل كثيرة هي فروع ، لو أتينا بها خرجنا عن شرطنا ، وبالله توفيقنا .




الخدمات العلمية