الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
414 حديث عاشر لهشام بن عروة

مالك عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : مروا أبا بكر فليصل للناس ، فقالت عائشة : إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء ، فمر عمر فليصل للناس ، قال : مروا أبا بكر فليصل للناس ، فقالت عائشة : فقلت لحفصة قولي له إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء ، فمر عمر فليصل للناس ، ففعلت حفصة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنكن لأنتن صواحب يوسف ، مروا أبا بكر فليصل للناس ، فقالت حفصة لعائشة : ما كنت لأصيب منك خيرا .

[ ص: 124 ]

التالي السابق


[ ص: 124 ] في هذا الحديث من الفقه أن القوم إذا أجمعوا للصلاة فأحقهم وأولاهم بالإمامة فيها أفقههم ; لأن أبا بكر قدمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة بجماعة أصحابه ، ومعلوم أنهم كان فيهم من هو أقرأ منه ، ولا سيما أبي بن كعب ، وهذه مسألة اختلف فيها السلف ، فقال مالك : يؤم القوم أعلمهم إذا كانت حاله حسنة وللسن حق . قيل له : فأكثرهم قرآنا ؟ قال : لا ، قد يقرأ من لا يكون فيه خير .

وقال الثوري : يؤمهم أقرؤهم ، فإن كانوا سواء فأعلمهم بالسنة ، فإن استووا فأسنهم . قال الأوزاعي : يؤمهم أفقههم في دين الله . وقال أبو حنيفة : يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله وأعلمهم للسنة ، فإن استووا في القراءة والعلم بالسنة فأكبرهم سنا ، فإن استووا في القراءة والفقه والسن فأورعهم . قال محمد بن الحسن وغيره : إنما قيل في الحديث أقرؤهم ; لأنهم أسلموا رجالا فتفقهوا فيما علموا من الكتاب والسنة ، أما اليوم فيتعلمون القرآن وهم صبيان لا فقه لهم .

وقال الليث : يؤمهم أفضلهم وخيرهم ، ثم أقرؤهم ، ثم أسنهم إذا استووا . وقال الشافعي : يؤمهم أقرؤهم وأفقههم ، فإن لم يجتمع ذلك قدم أفقههم إذا كان يقرأ ما يكتفي به في صلاته ، وإن قدم أقرؤهم وعلم ما يلزمه في الصلاة فحسن .

وقال الأثرم : قلت لأحمد بن حنبل رجلان أحدهما أفضل من صاحبه والآخر أقرأ منه ، فقال حديث أبي مسعود يؤم القوم أقرؤهم ، قال : ألا ترى أن سالما مولى أبي حذيفة كان مع خيار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم عمر وأبو سلمة بن عبد الأسد ، وكان يؤمهم ; لأنه جمع القرآن . وحديث عمرو بن سلمة أفهم للقرآن فقلت له حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مروا أبا بكر فليصل بالناس أليس هو خلاف حديث أبي مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤم القوم أقرؤهم ، فقال : إنما قوله لأبي بكر يصلي بالناس إنما أراد الخلافة ، وكان لأبي بكر فضل بين على غيره ، وإنما الأمر في الإمامة إلى القراءة ، وأما قصة أبي بكر فإنما أراد به الخلافة .

[ ص: 125 ] قال أبو عمر : لما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مروا أبا بكر يصلي بالناس في مرضه الذي توفي فيه واستخلفه على الصلاة وهي عظم الدين ، وكانت إليه لا يجوز أن يتقدم إليها أحد بحضرته - صلى الله عليه وسلم - ، فلما مرض استخلف عليها أبا بكر والصحابة متوافرون منهم علي وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - ، استدل المسلمون بذلك على فضل أبي بكر وعلى أنه أحق بالخلافة بعد ، وعلموا ذلك فارتضوا لدنياهم وإمامتهم وخلافتهم من ارتضاه لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأجل دينهم ، وذلك إمامتهم في صلاتهم ، ولم يكن يمنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أن يصرح بخلافة أبي بكر بعده ، والله أعلم .

إلا أنه كان لا ينطق في دين الله بهواه ، ولا ينطق إلا بما يوحى إليه فيه ، قال الله - عز وجل - : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) ، ولم يكن يوحى إليه في الخلافة شيء ، وكان لا يتقدم بين يدي ربه في شيء ، وكان يحب أن يكون أبو بكر الخليفة بعده ، فلما لم ينزل عليه في ذلك وحي ونعني لم يؤمر بذلك ولكنه أراهم موضع الاختيار وموضع إرادته ، فعرف المسلمون ذلك منه فبايعوا أبا بكر بعده فخير لهم في ذلك ونفعهم الله به وبارك لهم فيه ، فقاتل أهل الردة حتى أقام الدين كما كان وعدل في الرعية وقسم بالسوية ، وسار بسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى توفاه الله حميدا رضي الله عنه .

وقد روى هذا الحديث حماد بن سلمة عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة بمعنى حديث مالك قال حماد : وأخبرنا أيوب عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة بمثله . قال ابن أبي مليكة : وأي خلافة أبين من هذا ؟ [ ص: 126 ] وقد جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - آثار تدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسره ويعلم أن الخليفة بعده أبو بكر ، والله أعلم .

منها قوله - صلى الله عليه وسلم - : اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر ، وعمر ، حدثنا أحمد بن قاسم قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا قبيصة بن عقبة الكوفي قال : حدثنا سفيان بن سعيد بن عبد الملك بن عمير عن مولى لربيعي ، عن ربيعي ، عن حذيفة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر .

وحدثنا أحمد بن عبد الله قال : حدثنا الميمون بن حمزة قال : حدثنا الطحاوي قال : حدثني المزني قال : حدثني الشافعي ، أخبرنا إبراهيم بن سعد بن إبراهيم ، عن أبيه عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه أن أمرأة أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن شيء ، فأمرها أن ترجع قالت : يا رسول الله ، إن رجعت فلم أجدك ؟ - قال : كأنها تعني الموت - قال : فأت أبا بكر قال الشافعي : وفي هذا دليل على خلافة أبي بكر .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا جعفر بن محمد الصائغ قال : حدثنا سليمان بن داود قال : حدثنا إبراهيم بن سعد قال : حدثنا أبي عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن شيء ، فقال لها : ارجعي ، فقالت : يا رسول الله ، إن رجعت فلم أجدك - تعني الموت - قال : فأتي أبا بكر .

حدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا منصور بن سلمة الخزاعي أبو سلمة قال : حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن أبيه ، عن محمد بن جبير ، عن أبيه قال : أتت النبي - عليه السلام - امرأة تكلمه في شيء فأمرها أن ترجع إليه ، فقالت : إن جئت ولم أجدك ؟ قال : فأت أبا بكر .

[ ص: 127 ] أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي ببغداد إملاء في الجامع يوم الجمعة سنة تسع وأربعين وثلاثمائة قال : حدثنا محمد بن أحمد بن أبي العوام الرياحي سنة ست وسبعين ومائتين قال : أخبرني أبي قال : حدثنا محمد بن يزيد عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن زر ، عن عبد الله قال : كان رجوع الأنصار يوم سقيفة بني ساعدة لكلام قاله عمر : أنشدكم بالله ، أتعلمون أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر أن يصلي بالناس ؟ قالوا : نعم . قال : فأيكم تطيب نفسه أن يزيله عن مقام أقامه فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قالوا : كلنا لا تطيب أنفسنا أن نزيله عن مقام أقامه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أبو بكر محمد بن أبي العوام قال : حدثني أبي أحمد بن يزيد أبي العوام قال : حدثنا محمد بن يزيد الواسطي قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن زر ، عن عبد الله بن مسعود قال : كان رجوع الأنصار يوم سقيفة بني ساعدة بكلام قاله عمر بن الخطاب : نشدتكم الله ، هل تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر أن يصلي بالناس ؟ قالوا : اللهم نعم ، قال : فأيكم تطيب نفسه أن يزيله عن مقام أقامه فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقالوا : كلنا لا تطيب نفسه ، نستغفر الله ! وأجمعوا أن أبا بكر كان يكتب من خليفة رسول الله في كتبه كلها ، وذكر نافع بن عمر الجمحي عن ابن أبي مليكة أن رجلا قال لأبي بكر : يا خليفة الله ، فقال أبو بكر : أنا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا راض بذلك ، وبعث عمر بن عبد العزيز محمد بن الزبير إلى الحسن يسأله : هل استخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر ؟ فقال : نعم .

[ ص: 128 ] قال أبو عمر : إنما قال هذا استدلالا بنحو ما ذكرنا من الحديث ، والله أعلم .

ولم يختلف عن عمر أنه لما حضرته الوفاة قال : إن أستخلف فقد استخلف أبو بكر ، وإن لم أستخلف فلم يستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن عمر : فلما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمت أنه لا يستخلف ، وهذا معناه أنه لم يستخلف ، ولا تصريحا والله أعلم .

حدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا أحمد بن زبير قال : حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب قال : حدثنا إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق عن الزهري ، عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن عبد الله بن زمعة بن الأسود قال : قلت لعمر : صل بالناس وأبو بكر غائب في مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما كبر سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صوته ، فقال : وأين أبو بكر ؟ يأبى الله ذلك والمسلمون ، يأبى الله ذلك والمسلمون ، مرتين ، فبعث إلى أبي بكر فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة فصلى بالناس .

حدثنا خلف بن القاسم قال : حدثنا ابن المفسر ، حدثنا أحمد بن علي القاضي قال : حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا عبد الله بن داود ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن ابن عمر قال : لما طعن عمر - رحمه الله - قالوا له : ألا تستخلف ؟ قال : أحتملكم حيا وميتا ؟ حظي منكم الكفاف ، لا علي ولا لي ، إن أترككم فقد ترككم من هو خير مني ومنكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر .

قال : وحدثنا أحمد بن علي قال : حدثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة قالا : حدثنا حسين بن علي عن زائدة بن قدامة ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله قال : لما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير ، قال : فأتاهم عمر بن الخطاب فقال : يا معشر الأنصار ، ألستم تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : مروا أبا بكر يؤم [ ص: 129 ] الناس ، فأيكم تطيب نفسه يتقدم أبا بكر ؟ قال : فقالت الأنصار : نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر .

قال أحمد ( بن علي ) : وحدثنا أبو زهير بن حرب ، حدثنا معاوية بن عمرو ، عن زائدة ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله مثله .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر بن داسة ، حدثنا حسان بن الحسين الإمام ، حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن حميد وثابت ، عن الحسن ، عن قيس بن عباد قال : قال لي علي بن أبي طالب : إن نبيكم - صلى الله عليه وسلم - نبي الرحمة لم يقتل قتلا ولم يمت فجأة ، مرض ليالي وأياما يأتيهبلال فيؤذنه بالصلاة وهو يرى مكاني فيقول : ائت أبا بكر فليصل بالناس ، فلما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظرت في أمري ، فإذا الصلاة عظم الإسلام وقوام الدين فرضينا لدنيانا من رضيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا ، فبايعنا أبا بكر .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحسين بن علي الأشناني قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثني عمرو بن الحارث قال : حدثني عبد الله بن سالم عن الزبيدي قال : قال عبد الرحمن بن القاسم : أخبرني القاسم أن عائشة قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر فأعهد إليه ، فإنه رب متمن وقائل أنا أنا ، وسيدفع الله ويأبى ذلك والمؤمنون ، وقد استدل قوم من أهل العلم على خلافة أبي بكر بقول الله - عز وجل - : ( قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون ) الآية ومعلوم أن الداعي لأولئك القوم غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأن الله قد منع المخلفين [ ص: 130 ] من الأعراب من الخروج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ( فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة ) الآية ، وقد أرادوا الخروج معه إلى بعض ما رجوا فيه الغنيمة فأنزل الله ( سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله ) يعني قوله : ( لن تخرجوا معي أبدا ) ، ولا تبديل لكلمات الله .

وفي قوله - عز وجل - : ( فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما ) أوضح الدلائل على وجوب طاعة أبي بكر وإمامته وعد الله المخلفين عن رسوله إذا أطاعوا الذي يدعوهم بعده بالأجر الحسن وأوعدهم بالعذاب الأليم إن تولوا عنه ، وللعلماء في قول الله - عز وجل - : ( قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم ) قولان لا ثالث لهما : أحدهما أنهم قالوا : أراد بقوله ( إلى قوم أولي بأس شديد ) أهل اليمامة مع مسيلمة ، وقال آخرون : أراد فارس ، فإن كان كما قالوا أهل اليمامة ، فأبو بكر هو الذي دعاهم إلى قتالهم ، وإن كانوا فارس فعمر دعا إلى قتالهم وعمر إنما استخلفه أبو بكر ، فعلى أي الوجهين كان فالقرآن يقتضي بما وصفنا إمامة أبي بكر وخلافته ، وإن كان أراد فارس فهو دليل إمامة عمر وخلافته ، وقد قال من لا علم له بتأويل القرآن : إنهم هوازن وحنين . وهذا ليس بشيء ; لقول الله ( فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا ) وقوله : ( ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل ) الآية ، [ ص: 131 ] ومعلوم أن من واسى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه أخيرا لا يلحق في الفضل بمن واساه ونصره وصحبه أولا ، قال الله - عز وجل - : ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ) ، وكان أبو بكر أول الناس عزر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونصره وآمن به وصدقه وصابر على الأذى فيه ، فاستحق بذلك الفضل العظيم ; لأن كل ما صنعه غيره بعده قد شاركه فيه ، وفاتهم وسبقهم بما تقدم إليه فلفضله ذلك استحق الإمامة ، إذ شأنها أن تكون في الفاضل أبدا ما وجد إليه السبيل ، والآثار في فضائله ليس هذا موضع ذكرها ، وإنما ذكرنا استحقاقه للخلافة بدليل الكتاب والسنة .

وروى إسرائيل عن أبي إسحاق ، عن إبراهيم النخعي ، عن عبد الرحمن بن يزيد قال : قال عبد الله بن مسعود : اجعلوا إمامكم خيركم ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل إمامنا خيرنا بعده .

حدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه أن رجلا قال : يا رسول الله ، رأيت كأن ميزانا دلي من السماء فوزنت أنت فيه وأبو بكر فرجحت بأبي بكر ، ثم وزن فيه أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر بعمر ، ثم رفع الميزان ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نبوة وخلافة ، ثم يؤتي الله الملك من يشاء وأما قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 132 ] لعلي : أنت مني بمنزلة هارون من موسى واحتجاج أهل الزيغ به على أنه أراد بذلك استخلافه ، فقد أجابه عن ذلك أبو إسحاق المروزي - رحمه الله - بجواب على وجهين مجملين : أحدهما أن هارون كان خليفة موسى في حياته ولم يكن علي خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته ، وإذا جاز أن يتأخر علي عن خلافة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته على حسب ما كان هارون خليفة موسى في حياته ، جاز أن يتأخر بعد موته زمانا ويكون غيره مقدما عليه ويكون معنى الحديث القصد إلى إثبات الخلافة له كما ثبتت لهارون لا أنه استحق تعجيلها في الوقت الذي تعجلها هارون من موسى - عليه السلام - ، والوجه الآخر أن هذا الكلام إنما خرج من النبي - عليه السلام - في تفضيل علي ومعرفة حقه لا في الإمامة ; لأنه ليس كل من وجب حقه وصار مفضلا استحق الإمامة ; لأن هارون مات قبل موسى بزمان ، فاستخلف موسى بعده يوشع بن نون ، فهارون إنما كان خليفة لموسى في حياته ، وقد علم أن عليا لم يكن خليفة النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته ولم يكن هارون خليفة لموسى بعد موته ، فيكون ذلك دليلا على أن عليا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته .

قال أبو عمر : كان هذا القول من النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي حين استخلفه على المدينة في وقت خروجه غازيا غزوة تبوك ، وهذا استخلاف منه في حياته ، وقد شركه في مثل هذا الاستخلاف غيره من لا يدعي له أحد خلافة جماعة قد ذكرهم أهل السنة ، وقد ذكرناهم في كتاب الصحابة ، وليس في استخلافه حين قال له ذلك القول دليل على أنه خليفة بعد موته ، والله أعلم .

وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : من كنت [ ص: 133 ] مولاه فعلي مولاه ، فيحتمل للتأويل ; لأن المولى يحتمل وجوها في اللغة ، أصحها أنه الولي والناصر ، وليس في شيء منها ما يدل على أنه استخلفه بعده ، ولا ينكر فضل علي مؤمن ، ولا يجهل سابقته وموضعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن دين الله عالم ، وقد ثبت عنه - رضي الله عنه - أنه فضل أبا بكر على نفسه من طرق صحاح ، وقال : خير الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر ، ثم عمر . وحسبك بهذا منه ، رضي الله عنه .

وأما قول عائشة : إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء ، فمر عمر فليصل للناس . فإنها كرهت فيما زعموا أن يتشاءم الناس بأبيها فيقولون : إنه لم ير إماما إلا في حين مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحين موته ، فقالت ما قالت ، فأنكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك عليها وعلى حفصة وقال : إنكن صواحب يوسف يريد إنكن فتنة قد فتنتن يوسف وغيره وصددتنه عن الحق قديما ، يريد النساء ويعيبهن بذلك كلاما خرج على غضب لاعتراضهن له وهن أمهات المؤمنين ، وخير نساء العالمين رضي الله عنهن .

وكذلك قول حفصة لعائشة : ما كنت لأصيب منك خيرا . خرج على جهة الغضب عليها ; لأنها عرضتها لما كرهه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها من القول ، فلقيت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لا يسرها من إنكاره عليها وانتهارها ، فرجعت تلوم عائشة إذ كانت سبب ذلك ، وهذا كله موجود في طباع بني آدم ، وإذا كان ذلك في أولئك فغيرهم أحرى بأن يسامح في ذلك وشبهه ، وبالله التوفيق .

حدثنا خلف بن القاسم وسلمة بن سعيد بن سلمة قالا : حدثنا الحسن بن رشيق قال : حدثنا العباس بن محمد البصري قال : حدثنا خشيش بن أصرم [ ص: 134 ] قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن حمزة بن عبد الله بن عمر ، عن عائشة أنها قالت : والله ما كانت مراجعتي النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ قال : مروا أبا بكر أن يصلي للناس إلا كراهية أن يتشاءم الناس بأول رجل يقوم مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيكون ذلك الرجل أبي .

وأما قوله : " إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء " ، ففيه دليل على أن البكاء في الصلاة لا يقطعها ولا يضرها إذا كان من خوف الله ، أو على مصيبة في دين الله ، ذكر ابن المبارك عن حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير ، عن أبيه قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي ، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل ، يعني من البكاء واختلف الفقهاء في الأنين في الصلاة ، فقال مالك : الأنين لا يقطع الصلاة للمريض وأكرهه للصحيح .

وروى ابن عبد الحكم عن مالك النشيج والأنين والنفخ لا يقطع الصلاة ، وقال ابن القاسم : يقطع ، وقال الثوري : أكره الأنين للصحيح ، وقال الشافعي : إن كان له حروف تسمع وتفهم قطع الصلاة ، وقال أبو حنيفة : إن كان من خوف الله لم يقطع ، وإن كان من وجع قطع . وروي عن أبي يوسف أن صلاته تامة في ذلك كله ; لأنه لا يخلو مريض ولا ضعيف من الأنين .

قال أبو عمر : في حديث هذا الباب مع حديث ابن الشخير دليل على أن البكاء لا يقطع الصلاة ، وهذا ما لم يكن كلاما تفهم حروفه ولم يكن ضعفا وعبثا ، وكان من خشية الله ، أو فيما أباحه الله تعالى وجل ، وبه التوفيق .




الخدمات العلمية