الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5724 - وعن أبي موسى رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " متفق عليه .

وذكر حديث أنس : " يا خير البرية " . وحديث أبي هريرة : " أي الناس أكرم " وحديث ابن عمر : " الكريم ابن الكريم " . في ( باب المفاخرة والعصبية ) .

الفصل الثاني

التالي السابق


5724 - ( وعن أبي موسى ، عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال : " كمل " ) : بضم الميم وفي نسخة بفتحها ، ويجوز كسرها ، ففي القاموس : كمل كنصر وكرم وعلم . وقال ابن الملك في شرح المشارق في كمل ثلاث لغات ، لكن كسر الميم ضعيف ، أقول : الصحيح الضم لموافقته المعنى اللازمي ، أي : صار كاملا ، أو بلغ مبلغ الكمال ( من الرجال كثير ) ، أي : كثيرون من أفراد هذا الجنس حتى صاروا رسلا وأنبياء وخلفاء وعلماء وأولياء ، ( ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون ) ، والتقدير . إلا قليل منهن ، ولما كان ذلك القليل محصورا فيهما باعتبار الأمم السابقة نص عليهما بخلاف الكمل من الرجال ، فإنه يبعد تعداده واستقصاؤهم بطريق الانحصار سواء أريد بالكمل الأنبياء أو الأولياء . قال الحافظ ابن حجر : استدل هذا الحصر على أنهما نبيان لأن أكمل الإنسان الأنبياء ، ثم الأولياء والصديقون ، والشهداء ؟ فلو كانتا غير نبيتين للزم أن لا يكون في النساء ولية ولا صديقة ولا شهيدة غيرهما . وقالالكرماني : لا يلزم من لفظ الكمال ثبوت نبوتهما ، لأنه يطلق لتمام الشيء وتناهيه في بابه ، فالمراد ببلوغهما إليه في جميع الفضائل التي للنساء .

قلت : لا يخفى أن هذا المقال لا يندفع به الإشكال ، إلا أن يقال : لا يلزم من كمال المرأة كمليتها حتى تلزم النبوة ، بل يكفي لحصول الكمال وصولها للولاية ، ففائدة ذكرهما لطريق الحصر اختصاصهما بكمال لم يشركهما فيه أحد من نساء زمانهم ، أو من نساء الأمم المتقدمة ، أو مطلقا غير مقيد ، وذلك لما نقل العلماء من الإجماع على عدم نبوة النساء ، ولما يدل عليه قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا لكن نقل عن الأشعري نبوة حواء وسارة وأم موسى وهاجر وآسية ومريم ، وهذا إنما يصح بناء على الفرق بين النبي والرسول والله تعالى أعلم . وقال ابن الملك في شرح المشارق : في الجواب عن الإيراد السابق . قلنا : الكمال في شيء يكون حصوله للكمال أولى من غيره ، والنبوة ليست أولى بالنساء لأن مبناها على الظهور والدعوة ، وحالهن الاستتار ، فلا تكون النبوة في حقهن كمالا ، بل الكمال في حقهن الصديقية ، وهي قريبة من النبوة انتهى ، ولا يخفى أنه إنما يتم على القول .

[ ص: 3659 ] بترادف النبوة والرسالة ، وإلا فعلى الفرق بينهما كما عليه الجمهور من أن الرسول مأمور بالتبليغ ، بخلاف النبي فلا يلزم من النبوة عدم التستر ، مع أن الرسالة أيضا لا تنافي الستارة ، كما لا يخفى ، والله تعالى أعلم . ( وفضل عائشة على النساء ) أي : على جنسهن من نساء الدنيا جميعهن ، أو على النساء المذكورات ، أو على نساء الجنة ، أو على نساء زمانها ، أو على نساء هذه الأمة ، أو على الأزواج الطاهرات ( كفضل الثريد على سائر الطعام ) . قال الطيبي - رحمه الله : لم يعطف عائشة على آسية ، لكن أبرزت في صورة جميلة مستقلة تنبيها على اختصاصها بما امتازت به عن سائرهن ، نحوه في الأسلوب قوله - صلى الله تعالى عليه وسلم : " حبب إلي من الدنيا ثلاث : الطيب والنساء وجعل قرة عيني في الصلاة " . قلت : وسيأتي ما يدل على خلاف ذلك ، مع أن لفظ ثلاث غير ثابت في الحديث . قال التوربشتي - رحمه الله - قيل : إنما مثل بالثريد ، لأنه أفضل طعام العرب . ولا يرون في الشبع أغنى غناء عنه ، وقيل : إنهم كانوا يحمدون الثريد فيما طبخ بلحم ، وروي : سيد الطعام اللحم ، فكأنها فضلت على النساء كفضل اللحم على سائر الأطعمة ، والسر فيه أن الثريد مع اللحم جامع بين الغذاء واللذة والقوة ، وسهولة التناول ، وقلة المؤنة في المضغ ، وسرعة المرور في المريء ، فضرب به مثلا ليؤذن بأنها أعطت مع حسن الخلق والخلق ، وحلاوة النطق فصاحة اللهجة وجودة القريحة ، ورزانة الرأي ، ورصانة العقل ، والتحبب إلى البعل ، فهي تصلح للتبعل والتحدث والاستئناس بها ، والإصغاء إليها ، وحسبك أنها عقلت عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ما لم تعقل غيرها من النساء ، وروت ما لم يرو مثلها من الرجال ، ومما يدل على أن الثريد أشهى الأطعمة عندهم وألذها قول الشاعر :


إذا ما الخبز تأدمه بلحم فذاك ـ أمانة الله ـ الثريد

وقد اختلفوا في التفضيل بين عائشة وخديجة وفاطمة . قال الأكمل : روي عن أبي حنيفة أن عائشة بعد خديجة أفضل نساء العالمين . أقول : فهذا يحتمل تساوي خديجة وعائشة ، لكون الأولى من العرفاء السوابق ، والثانية من الفضلاء اللواحق . وقال الحافظ ابن حجر : فاطمة أفضل من خديجة وعائشة بالإجماع ، ثم خديجة ثم عائشة . وقال السيوطي - رحمه الله - في النقاية وشرحها : ونعتقد أن أفضل النساء مريم وفاطمة . روى الترمذي وصححه : حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد عليه السلام ، وآسية امرأة فرعون . وفي الصحيحين من حديث علي : خير نسائها مريم بنت عمران ، وخير نسائها خديجة بنت خويلد . وفي الصحيح : فاطمة سيدة نساء هذه الأمة . وروى النسائي عن حذيفة أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال " هذا ملك من الملائكة استأذن ربه ليسلم علي ويبشرني أن حسنا وحسينا سيدا شباب أهل الجنة ، وأمهما سيدة نساء أهل الجنة . وروى الحارث بن أبي أسامة في مسنده بسند صحيح ، لكنه مرسل : مريم خير نساء عالمها ، وفاطمة خير نساء عالمها . ورواه الترمذي موصولا من حديث علي بلفظ : خير نسائها مريم وخير نسائها فاطمة . قلت : وفي الدر المنثور : أخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم : " سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران ، ثم فاطمة ، ثم خديجة ، ثم آسية امرأة فرعون " . وأخرج ابن أبي شيبة ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم : " فاطمة سيدة نساء العالمين بعد مريم ابنة عمران " . ثم قال السيوطي : " وأفضل أمهات المؤمنين خديجة وعائشة " . قال - صلى الله تعالى عليه وسلم : " كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا مريم وآسية وخديجة وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " . وفي لفظ : " إلا ثلاث : مريم وآسية وخديجة " . وفي التفضيل بينهما أقوال . ثالثها : الوقف . قالت : وصحح العماد ابن كثير أن خديجة أفضل لما ثبت أنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال لعائشة حين قالت : قد رزقك الله خيرا منها ، فقال : " لا والله ما رزقني الله خيرا منها آمنت بي حين كذبني الناس ، وأعطتني مالها حين حرمني الناس " . وسئل ابن داود فقال : عائشة أقرأها السلام النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - من جبريل ، وخديجة أقرأها السلام جبريل من ربها ، فهي أفضل على لسان محمد فقيل له : فأي أفضل فاطمة أم أمها ؟

[ ص: 3660 ] قال : فاطمة بضعة النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فلا نعدل بها أحدا ، وسئل السبكي فقال : الذي نختاره وندين لله به أن فاطمة بنت محمد عليه السلام أفضل ، ثم أمها خديجة ، ثم عائشة ، ثم استدل لذلك . وعن ابن العماد أن خديجة أفضل من فاطمة باعتبار الأمومة لا السيادة والله تعالى أعلم . ( متفق عليه ) . وفي رواية الجامع : تقدم آسية على مريم وزيادة ، وإن فضل عائشة إلخ . رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه . ( وذكر حديث أنس : " يا خير البرية ) أي : قال أعرابي للنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم : يا خير البرية ، فقال " ذاك إبراهيم " . ( وحديث أبي هريرة : " أي الناس أكرم " ) : تمامه : فقال النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم : " أكرمهم عند الله أتقاهم " قالوا : ليس عن هذا نسألك . قال : " فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله " الحديث . قال شارح أي : إذا لم تسألوني عن هذا فأكرم الناس في زمانه يوسف . قلت : أو في النسب والحسب ، كما يدل عليه تعداد آبائه وأجداده . ( وحديث ابن عمر : " الكريم ابن الكريم " ) : تمامه : " ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم " ( في باب المفاخرة والعصبية ) .




الخدمات العلمية