الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5911 - وعن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم ، وتأتون الماء إن شاء الله غدا ) فانطلق الناس لا يلوي أحد على أحد . قال أبو قتادة : فبينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير حتى ابهار الليل فمال عن الطريق ، فوضع رأسه ، ثم قال : ( احفظوا علينا صلاتنا ) فكان أول من استيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والشمس في ظهره ، ثم قال : ( اركبوا ) فركبنا . فسرنا حتى إذا ارتفعت الشمس نزل ، ثم دعا بميضأة كانت معي فيها شيء من ماء ، فتوضأ منها وضوءا دون وضوء . قال : وبقي فيها شيء من ماء . ثم قال : ( احفظ علينا ميضأتك فسيكون لها نبأ ) ثم أذن بلال بالصلاة ، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين ، ثم صلى الغداة ، وركب وركبنا معه ، فانتهينا إلى الناس حين امتد النهار وحمي كل شيء ، وهم يقولون : يا رسول الله ! هلكنا وعطشنا ، فقال : ( لا هلك عليكم ) ودعا بالميضأة فجعل يصب ، وأبو قتادة يسقيهم ، فلم يعد أن رأى الناس ماء في الميضأة تكابوا عليها ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أحسنوا الملأ ، كلكم سيروى ) قال : ففعلوا ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصب وأسقيهم ، حتى ما بقي غيري وغير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم صب فقال لي : ( اشرب ) فقلت : لا أشرب حتى تشرب يا رسول الله ! فقال : ( إن ساقي القوم آخرهم ) .

قال : فشربت وشرب ، قال : فأتى الناس الماء جامين رواء
. رواه مسلم هكذا في ( صحيحه ) وكذا في ( كتاب الحميدي ) ، و ( جامع الأصول ) . وزاد في ( المصابيح ) بعد قوله : ( آخرهم ) لفظة : ( شربا ) .

التالي السابق


5911 - ( وعن أبي قتادة قال : خطبنا ) ، أي : خطب لنا ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( إنكم تسيرون عشيتكم ) ، أي : أول ليلتكم ( وليلتكم ) ، أي : بقيتها وآخرها ( وتأتون الماء ) ، أي : تحضرونه ( إن شاء الله غدا ) فانطلق الناس لا يلوي أحد على أحد ) ، أي : لا يلتفت إليه ولا يعطف عليه ، بل يمشي كل واحد على حدته من غير أن يراعي الصحبة لاهتمامه بطلب الماء ووصوله إليه وحصوله لديه . ( قال أبو قتادة ، فبينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير ) أي : في ليلة ( حتى ابهار الليل ) : بسكون الموحدة وتشديد الراء ومصدره ابهيرارا كاحمار احميرارا أي : انتصف وتوسط ، ذكره التوربشتي ، ويقال : ذهب معظمه وأكثره ، وقيل ابهار الليل إذا اطلعت نجومه واستنارت ، ( فمال عن الطريق ) ، أي : لقصد النوم ( فوضع رأسه ثم قال ) ، أي : لبعض خدمه ( احفظوا علينا صلاتنا ) ، أي : وقتها ، وهي صلاة الصبح فكأنه غلب عليهم النوم فرقدوا ( فكان أول من استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم - ) : وهو اسم كان أو خبره وأول عكسه ( والشمس في ظهره ) ، أي : طالعة جملة حالية ( ثم قال : اركبوا ) : قال ابن الملك ؟ في تأخيره - صلى الله عليه وسلم - قضاء الصلاة دليل على أن من نام عن صلاة أو نسيها ثم تذكرها لا يجب عليه القضاء على الفور ، وعلى ندب مفارقة الموضع الذي ترك فيه المأمور ، أو ارتكب فيه المنهي يعني : ولو من غير قصد ، لكن الأظهر أن تأخيره إنما هو لرجاء أن يصل إلى الماء أو لخروج وقت الكراهة ، كما يدل عليه قوله : ( فركبنا ، فسرنا حتى إذا ارتفعت الشمس ) ، أي : بقدر رمح أو أكثر ( نزل ثم دعا بميضأة ) : بكسر الميم وفتح الهمزة ، وفي نسخة بألف قبل الهمز ، وأصله موضأة أبدلت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها . قال ابن الملك : بكسر الميم على وزن مفعلة من الوضوء .

[ ص: 3810 ] وفي الفائق : هي على مفعلة مفعالة مطهرة كبيرة يتوضأ منها ذكره الطيبي . وفي النهاية بالكسر والقصر ، وقد يمد ، والمعنى ثم طلب مطهرة ( كانت معي فيها شيء ) ، أي : قليل ( من ماء فتوضأ منها وضوءا دون وضوء ) : يعني وضوءا وسطا ، وذلك لقلة الماء ذكره شارح ، ووافقه الطيبي . وقيل : أراد أنه استنجى في هذا الوضوء بالحجر لا بالماء ، والصواب الأول قاله ابن الملك ، والأظهر أن يقال : وضوءا دون وضوء يتوضأ في سائر الأوقات من التثليث بأن اكتفى بمرة أو مرتين ( قال ) ، أي : ابن مسعود ( وبقي فيها شيء من ماء ثم قال ) ، أي : النبي عليه السلام ( احفظ علينا ) ، أي : لأجلنا ( ميضأتك ) ، أي : ذاتها وما فيها ( فسيكون لنا نبأ ) ، أي : خبر عظيم ، وشأن جسيم ، وفائدة جليلة ، ونتيجة جميلة يتحدث بها ويروى حكايتها . وقال ابن الملك ، أي : معجزة كما سيأتي ( ثم أذن بلال بالصلاة ) : فيه استحباب الآذان للقضاء كما هو سنة للأداء ( فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين ) ، أي : سنة الصبح لفوتها مع فرضه المؤديين قبل الزوال ، وأما إذا فاتت وحدها فلا قضاء لها إلا عند محمد ، لكن بعد طلوع الشمس إلى زوالها وبعد الزوال لا تقضى اتفاقا ( ثم صلى الغدوة ) ، أي : فرض الصبح قضاء ( وركب وركبنا معه ، فانتهيا إلى الناس ) ، أي : النازلين من أهل القافلة ( حين امتد النهار ) ، أي : ارتفع ( وحمي كل شيء ) ، أي : اشتد حرارته ( وهم يقولون يا رسول الله ! هلكنا ) ، أي : من حرارة الهواء ( وعطشنا ) : بكسر الطاء أي : من عدم الماء ( فقال : لا هلك ) : بضم فسكون أي : لا هلاك ( عليكم ) : وهو دعاء أو خبر ( ودعا بالميضأة فجعل يصب ) ، أي : الماء ( وأبو قتادة يسقيهم ) ، بفتح أوله ويضم ( فلم يعد ) : مضارع عدا أي : لم يتجاوز ( أن رأى الناس ) مصدرية أي : رؤيتهم ( ماء ) ، أي : كثيرا ( من الميضأة تكابوا ) : بتشديد الموحدة أي : تزاحموا ( عليها ) ، أي : على الميضأة مكبا بعضهم على بعض . قال الطيبي : لم يضبط الشيخ محيي الدين هذه اللفظة ، وفي أكثر نسخ المصابيح وقعت بفتح الياء وسكون العين وضم الدال وإثبات الفاء في قوله : فتكابوا وليس في مسلم ، ولا في شرحه الفاء ، وأن رأى الناس يحتمل أن يكون فاعلا أي : لم يتجاوز رؤية الناس الماء إكبابهم فتكابوا ، وإن مفعولا أي : لم يتجاوز السقي أو الصب رؤية الناس الماء في تلك الحالة وهي كبهم عليه ، ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أحسنوا الملأ ) : بفتحتين أي : الخلق ، ففي القاموس : الملأ محركة الخلق ، ومنه : أحسنوا إملاءكم أي : أخلاقكم . وفي الفائق : الملأ حسن الخلق ، وقيل للخلق الحسن ملأ لأنه أكرم ما في الرجل وأفضله من قولهم لكرام القوم وجوههم ملأ ، وإنما قيل للكرام ملأ لأنهم يتمالئون أي : يتعاونون . أقول : الأظهر أن يقال : لأنهم يملأون المجلس أو يملأون العيون عظمة أو بحشمهم وخدمهم كثرة ( كلكم سيروى ) : بفتح الواو أي : جميعكم تروون من هذا الماء فلا تزدحموا ولا تسيئوا أخلاقكم بالتدافع .

( قال ) ، أي : الراوي ( ففعلوا ) ، أي : الناس إحسان الخلق ولم يزدحموا حيث اطمأنوا ( فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصب ، وأسقاهم حتى ما بقي غيري ) ، أي : من الصحابة ( وغير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم صب فقال لي : اشرب فقلت : لا أشرب حتى تشرب يا رسول الله ! فقال : إن ساقي القوم آخرهم ) ، أي : شربا : كما في بعض الروايات على ما سيأتي ، ولا شك ، أن الساقي حقيقة هو النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا ينافي قول أبي قتادة : وأسقيهم لأنه بمعنى .

[ ص: 3811 ] أناولهم ( قال : فشربت وشرب . قال ) ، أي : أبو قتادة ( فأتى الناس الماء ) ، أي : وصلوا إلى مكان الماء ( جامين ) : بتشديد الياء أي : مستريحين ، ذكره التوربشتي ( رواء ) : بالكسر والمد جمع راو ، وهو الذي روى من الماء أو جمع ريان كعطاش جمع عطشان أي : ممتلئين من الماء . وقال شارح قوله : جامين أي : مجتمعين من الجم أو مستريحين من الجمام بالفتح وهو الراحة وزوال الإعياء . قال التوربشتي : واكثر ما يستعمل ذلك في الفرس يعني لأنه كثير العطش . ( رواه مسلم هكذا في صحيحه وكذا في كتاب الحميدي وجامع الأصول ) ، أي : ساقي القوم آخرهم بدون شربا ، وهو كذلك في تاريخ البخاري ، ورواية أحمد وأبي داود عن عبد الله بن أبي أوفى . ( وزاد في المصابيح بعد قوله : آخرهم لفظة شربا ) : قلت : وهو رواية الترمذي وابن ماجه - عن أبي قتادة ، وكذا رواه الطبراني في الأوسط والقضاعي عن المغيرة .




الخدمات العلمية