الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 358 ] 35 - قالوا : حديث يكذبه القرآن من جهتين

        هل يعذب الميت ببكاء أهله ؟

        قالوا : رويتم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه ، وهذا يبطل من وجهين : أحدهما بقول الله - جل وعز - : ولا تزر وازرة وزر أخرى ، والآخر بقول الله تعالى : قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة ، ثم قال تعالى يذكر أحوال المخلوق منذ كان طينا إلى أن يبعثه : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون .

        قالوا : ولم يذكر الله تعالى أنه يحييه فيما بين الموت والبعث ، ولا أنه [ ص: 359 ] ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌ يعذبه ولا أنه يثيبه حين أجمل ولا حين فصل .

        قال أبو محمد : ونحن نقول : إن كتاب الله تعالى يأتي بالإيجاز والاختصار وبالإشارة والإيماء ، ويأتي بالصفة في موضع ولا يأتي بها في موضع آخر فيستدل على حذفها من أحد المكانين بظهورها في المكان الآخر ، وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبين للكتاب ودال على ما أريد فيه ، فمن المحذوف في كتاب الله - جل وعز - قوله تعالى : فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر .

        وظاهر هذا يدل على أن من كان مريضا أو على سفر صام عدة من أيام أخر ، وإن صام في السفر وعلى حال المرض ، وإنما أراد : فمن كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر ، فعليه عدة من أيام أخر ، فحذف : فأفطر .

        وكذلك قوله - جل وعز - : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك .

        وظاهر هذا الكلام يدل على أن المريض أو القمل في رأسه تجب عليه الفدية .

        وإنما أراد : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه فحلق ، فعليه فدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك ، وأشباه هذا كثير .

        ومما أتت فيه الصفة ولم تأت في مثله فاستدل بأحدهما على الآخر قوله تعالى : وأشهدوا ذوي عدل منكم .

        [ ص: 360 ] وقال تعالى في موضع آخر : واستشهدوا شهيدين من رجالكم ، ولم يقل : عدلين ؛ اقتصارا على ما وصف في المكان الآخر .

        وقال في موضع : فتحرير رقبة مؤمنة ، وفي موضع آخر : فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ، ولم يقل : مؤمنة .

        وأما ما استدل عليه بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصفات الصلوات وكيف الركوع والسجود والتشهد وكم العدد ، وما في المال من الصدقات والزكوات ، ومقدار ما يقطع فيه السارق ، وما يحرم من الرضاع ، وأشباه هذا كثير ، وقد أعلمنا الله تعالى في كتابه أنه يعذب قوما قبل يوم القيامة إذ يقول : النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب .

        ولا يجوز أن يعرض هؤلاء على النار غدوا وعشيا في الدنيا ولا في يوم القيامة لقوله تعالى : ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ، ولأن يوم القيامة ليس فيها غدو ولا عشي إلا على مجاز في قوله - جل وعز - : ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ، يجوز في ذلك الموضع ولا يجوز في هذا الموضع ، وقد أخبرت به في كتابي المؤلف في " تأويل مشكل القرآن " ، وقال في موضع آخر بعد أن ذكر عذاب يوم القيامة : [ ص: 361 ] وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون .

        وقد تتابعت الروايات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهات كثيرة بنقل الثقات أنه كان يتعوذ بالله من عذاب القبر ، ومن ذلك حديث مالك عن أبي الزبير ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : اللهم إني أعوذ بك من فتنة الدجال ، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات وعذاب القبر .

        ومن ذلك حديث شعبة عن بديل بن ميسرة ، عن عبد الله بن شقيق ، عن أبي هريرة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول اللهم إني أعوذ بك من فتنة القبر وعذابه وفتنة الدجال ، ومن ذلك حديث هشام عن قتادة ، عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : اللهم إني أعوذ بك من فتنة المحيا ، ومن فتنة الممات وعذاب القبر ، هذا مع أخبار كثيرة في منكر ونكير ومسألتهما .

        منها حديث حماد بن سلمة ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله بن عباس قال : إن أحدكم ليجلس في قبره إجلاسا فيقال له من أنت فيقول أنا عبد الله حيا وميتا وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . فيقال له : صدقت . فيفسح له في قبره ما شاء الله ، ويرى مكانه من الجنة ، وأما الآخر فيقال له : من أنت ؟ فيقول : لا أدري . فيقال له : لا [ ص: 362 ] دريت . فيضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه ، وهذا مما لا يعلمه إلا نبي ، ولم يكن عبد الله ليحكيه إلا وقد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

        وروى عباد بن راشد عن داود بن أبي هند ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر أن الملك يأتي العبد إذا وضع في قبره قال : فإن كان كافرا أو منافقا فيقال له : ما تقول في هذا الرجل ؟ يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، فيقول : لا أدري ، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته . فيقول : لا دريت ، ولا ائتليت ، ولا اهتديت ، ، وهذه الأخبار تدل على أن عذاب القبر للكافر .

        وأما قولهم : كيف يعذب الميت ببكاء الحي والله تعالى يقول : ولا تزر وازرة وزر أخرى ، فإنا أيضا نظن أن التعذيب للكافر ببكاء أهله عليه ، وكذلك قال ابن عباس : إنه مر بقبر يهودي فقال : إنه يعذب ، وإن أهله ليبكون عليه . فإن كان كذلك فهذا ما لا يوحش ؛ لأن الكافر يعذب على كل حال .

        وإن كان أراد المسلم المقصر كما قال في المعذب بالغيبة والبول ، فإن قول الله - عز وجل - : ولا تزر وازرة وزر أخرى إنما هو في أحكام الدنيا .

        [ ص: 363 ] وكان أهل الجاهلية يطلبون بثأر القتيل فيقتل أحدهم أخاه أو أباه أو ذا رحم به ، فإذا لم يقدر على أحد من عصبته ولا ذوي الرحم به قتل رجلا من عشيرته ، فأنزل الله - تبارك وتعالى - : ولا تزر وازرة وزر أخرى .

        وأخبرنا أيضا أنه مما أنزل على إبراهيم صلى الله عليه وسلم .

        ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل رأى معه ابنه : لا تجني عليه ولا يجني عليك ، فأما عقاب الله تعالى إذا هو أتى فيعم وينال المسيء والمحسن قال الله تعالى : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ، يريد أنها تعم فتصيب الظالم وغيره .

        وقال - عز وجل - : ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا ، وقالت أم سلمة : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ، فقال : نعم إذا كثر الخبث .

        وقد تبين لهم أن الله تعالى غرق أمة نوح - عليه السلام - كلها وفيهم الأطفال والبهائم بذنوب البالغين ، [ ص: 364 ] وأهلك قوم عاد بالريح العقيم ، وثمود بالصاعقة ، وقوم لوط بالحجارة ، ومسخ أصحاب السبت قردة وخنازير ، وعذب بعذابهم الأطفال .

        وأخبرني رجل من الكوفيين قرأ في الكتب المتقدمة من كتب الله تعالى فوجد في كتاب منها : أنا الله الحقود آخذ الأبناء بذنوب الآباء .

        [ ص: 365 ] وروى ابن عباس أن دانيال - عليه السلام - قال : يحق لكم يا بني إسرائيل أني بذنوبكم أعذب .

        وقال أنس بن مالك : إن الضب في جحره ليموت هزلا بذنب ابن آدم .

        وقد دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مضر فقال : اللهم اشدد وطأتك على مضر وابعث عليهم سنين كسني يوسف .

        فتتابعت عليهم الجدوبة والقحط سبع سنين حتى أكلوا القد والعظام [ ص: 366 ] والعلهز ، فنال ذلك الجدب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وبدعائه عوقبوا حتى شد وشد المسلمون على بطونهم الحجارة من الجوع .

        قال أبو محمد : وقد رأينا بعيوننا ما أغنى عن الأخبار ، فكم من بلد فيه الصالحون والأبرار والأطفال والصغار ، أصابته الرجفة ، فهلك به البر والفاجر والمسيء والمحسن والطفل والكبير كـ " قومس " ، ومهرجان ، وقذق ، والري ، ومدن كثيرة من مدن الشام واليمن ، وهذا شيء يعرفه كل من عرف الله - عز وجل - من أهل الديانات وإن اختلفوا .

        قال أبو محمد : وحدثني رجل من أصحاب الأخبار أن المنصور سمر ذات ليلة فذكر خلفاء بني أمية وسيرتهم ، وأنهم لم يزالوا على استقامة حتى أفضى أمرهم إلى أبنائهم المترفين ، فكان همهم من عظيم شأن الملك وجلالة قدره قصد الشهوات وإيثار اللذات والدخول في معاصي الله - عز وجل - ومساخطه ، جهلا منهم باستدراج الله تعالى وأمنا من مكره تعالى ، فسلبهم الله تعالى الملك والعز ونقل عنهم النعمة .

        فقال له صالح بن علي : يا أمير المؤمنين ، إن عبيد الله بن مروان لما دخل أرض النوبة هاربا فيمن اتبعه سأل ملك النوبة عنهم ، فأخبر فركب إلى عبيد الله فكلمه بكلام عجيب في هذا النحو لا أحفظه وأزعجه عن بلده ، [ ص: 367 ] فإن رأى أمير المؤمنين أن يدعو به من الحبس بحضرتنا في هذه الليلة ويسأله عن ذلك ، فأمر المنصور بإحضاره وسأله عن القصة . فقال : يا أمير المؤمنين ، قدمت أرض النوبة بأثاث سلم لي فافترشته بها وأقمت ثلاثا ، فأتاني ملك النوبة وقد خبر أمرنا ، فدخل علي رجل طوال أقنى حسن الوجه فقعد على الأرض ولم يقرب الثياب ، فقلت ما يمنعك أن تقعد على ثيابنا ، فقال : إني ملك وحق على كل ملك أن يتواضع لعظمة الله - جل وعز - إذ رفعه الله ، ثم أقبل علي فقال لي : لم تشربون الخمور وهي محرمة عليكم في كتابكم ؟ فقلت : اجترأ على ذلك عبيدنا وسفهاؤنا . قال : فلم تطئون الزرع بدوابكم والفساد محرم عليكم في كتابكم ؟ قلت : يفعل ذلك جهالنا ، قال : فلم تلبسون الديباج والحرير وتستعملون الذهب والفضة وهو محرم عليكم ؟ فقلت : زال عنا الملك وقل أنصارنا فانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منا .

        فأطرق مليا وجعل يقلب يده وينكت في الأرض ، [ ص: 368 ] ثم قال : ليس ذلك كما ذكرت ، بل أنتم قوم استحللتم ما حرم عليكم ، وركبتم ما عنه نهيتم ، وظلمتم فيما ملكتم فسلبكم الله تعالى العز وألبسكم الذل بذنوبكم ، ولله تعالى فيكم نقمة لم تبلغ نهايتها ، وأخاف أن يحل بكم العذاب وأنتم ببلدي فيصيبني معكم ، وإنما الضيافة ثلاث ، فتزودوا ما احتجتم إليه وارتحلوا عن بلدي . ففعلت ذلك .

        وقد أخبرنا الله تعالى في كتابه أنه يحفظ الأبناء في الآباء فقال - عز وجل - : وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك .

        وقال عمر - رضي الله عنه - في خطبته يوم استسقى بالعباس : اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك - صلى الله عليه وسلم - وبقية آبائه وكبراء رجاله ، فإنك تقول وقولك الحق : وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما ، فحفظتهما لصلاح أبيهما ، فاحفظ اللهم نبيك في عمه ، فقد دلونا به إليك مستشفعين ومستغفرين .

        وقد يجوز كما حفظ أبناء أوليائه لآبائهم أن لا يحفظ أبناء أعدائه لآبائهم وهو الفعال لما يشاء ، [ ص: 369 ] وقد كانت عائشة - رضي الله عنها - تنكر هذا الحديث وتقول : من قال به فقد فجر ، وهذا ظن من عائشة وتأويل ، ولا يجوز رد حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لظنها ، ولو كانت حكت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا في مخالفته كان قولها مقبولا ، ولو كان عبد الله بن عمر نقله وحده توهم عليه - كما قالت - الغلط ، ولكن قد نقله جماعة من الصحابة فيهم عمر وعمران بن حصين وابن عمر وأبو موسى الأشعري ، فإن قالوا : فإن هذا ظلم وقد تبرأ الله - عز وجل - من الظلم إذ يقول : وما أنا بظلام للعبيد ، أجبناهم بقول إياس بن معاوية ، فإنه قال : قلت لبعضهم : ما الظلم في كلام العرب ؟ فقال : أن يأخذ الرجل ما ليس له . قلت : فإن الله تعالى له كل شيء .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية