الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 317 ] النظر الثالث : فيما يترتب على الجناية

                                                                                                                وهو ثمانية آثار :

                                                                                                                الأثر الأول : القصاص ، والبحث عن : محله ، وشروطه ، وكيفيته ، ومن يتولاه ، فهذه أربعة أبحاث .

                                                                                                                البحث الأول : في المحل ، وهو أربعة : النفس ، والعضو ، والمنفعة ، والجرح .

                                                                                                                المحل الأول : في النفس ، وأصلها : قوله تعالى : ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ) . وفي الكتاب : يقتل الصحيح بالسقيم الأجذم الأبرص المقطوع اليدين والرجلين ، وإنما هي النفس ; لقوله تعالى : ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ) وشرع من قبلنا شرع لنا ، والرجل بالمرأة ، والمرأة بالرجل ، وفي الجراح بينهما القصاص . قال اللخمي : تقتل المرأة بالرجل ، وليس على أوليائها فضل دية الرجل ، ويقتل البالغ بالصغير ، والعاقل بالمجنون ، ولا يقتص منهما ; لأن القصاص عذاب لا يثبت إلا مع التكليف ; فعمدهما خطأ ، فإن جن بعد القتل ولم يفق : قال محمد : إن أيس منه فالدية في ماله ، وقال المغيرة : يقتص منه نظرا لحالة الجناية ، وإن ارتد ثم جن لم يقتل ; لأن حقوق العباد أقوى . قال : وهو بين ; لأنه يأخذ حقه ناقصا ، كما يقتل العبد بالحر ، ولا يقتل الحر بالعبد ، ولا المسلم بالنصراني في قتل ولا جرح ، ويقتص من العبد والنصراني في النفس ; لأن الدني يقتل بالأعلى بخلاف العكس . واختلف في الجرح : فعن مالك : لا يقتص منهما فيها ، وعلى القصاص قياسا على النفس ، وعنه : منع القصاص في العبد دون النصراني ; لأن العبد يسلم ، والنصراني لا يسلم ، وفي ذلك تسليط عن المسلمين ، يقلع عين المسلم ويعطيه دراهم ، ويعينه أهل جزيته ، وقال ابن نافع : يخير المسلم في القصاص والدية ، 318 [ ص: 318 ] والقصاص بين العبيد كالأحرار في النفس والجرح ، والذكران والإناث سواء ; لأن الحق للسيد في القصاص وأخذ العقل ، ومن فيه علقة رق كالقن من المكاتب والمدبر وأم الولد ، واستحسن أن يقتص من المعتق بعضه للقن ، وفي الحديث : ( يرث هذا بقدر ما أعتق منه ، ويعقل هذا بقدر ذلك ) ولا يقتص من العبد المسلم للحر النصراني ; لشرف الإسلام لقوله عليه السلام : ( ألا لا يقتل مسلم بكافر ) واختلف في القصاص له من النصراني ، أثبته أشهب بغلبة الإسلام على شائبة الرق ، ونفاه سحنون للرق ، وعلى الأول اختلف في الخيار للسيد فنفاه ابن القاسم . وقال : لا يعفو عن الدية كالحر يقتص أو يعفو على غير شيء ، وقال محمد : له أخذ الدية ; لأنه أتلف ماله ، ويقتص للنصراني من النصراني ، ومن اليهودي في النفس والجراح إذا دعا لذلك أولياء المقتول ; لأنه تظالم .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                في الكتاب : إذا قتل نفر امرأة أو صبيا ، قتلوا لاشتراكهم في السبب ، أو عبدا أو ذميا غيلة ، قتلوا به ; لأنه حق الله تعالى في درء المفاسد والحرابة ، وإن قتل مسلم كافرا عمدا ، ضرب مائة وحبس عاما ، أو خطأ ، فديته على عاقلته ، أو جماعة فالدية على عواقلهم . قال ابن يونس : يقتل النصراني بالمجوسي ، ويقتل المجوسي به وباليهودي ، وإن قتل مسلم ذميا فديته على عاقلته ، أو جماعة ، فالدية على عواقلهم ، وإن شهد عدل أن مسلما قتل نصرانيا عمدا ؟ فعن مالك : يحلف المشهود عليه خمسين يمينا ، قال أشهب : 319 [ ص: 319 ] ويضرب ويحبس حلف أم لا ، وعنه وعن ابن القاسم : يحلف ورثة الذمي يمينا ، كل واحد منهم ، ويأخذ من ديته ويضرب ويحبس . قال محمد : وهو أحب إلينا إن كان بقول النصراني حلف المدعى عليه خمسين يمينا ، ولا يضرب ولا يحبس ، فإن جرحه فمات من جرحه . قال ابن عبد الحكم : يحلف ولاته يمينا واحدة ويستحقون الدية ; لأنه لا قسامة لهم . قال مالك : إن جرح مسلم عبدا أو نصرانيا فأنفذ هذا ، وعتق هذا ، وقال : دمي عند فلان وللنصراني أولياء مسلمون وللعبد أولياء أحرار ، أقسموا مع قوله ، واستحقوا الدية في مال الجاني . قال المغيرة : إن قتل نصراني نصرانيا فخاف الجاني فأسلم قتل .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                في الكتاب : إن قتله جماعة ، فللولي قتل من أحب ، أو العفو ، أو الصلح ، وإن عفا المقتول عن أحدهم فللوارث قتل الباقي ، لأنه حقه ، كما لو أبرأ من بعض الدين ، ووافقنا ( ش ) و ( ح ) ومشهور أحمد ، وعنه وعن جماعة من التابعين والصحابة : عليهم الدية ، وعن الزهري وجماعة : يقتل منهم واحد ، وعلى الباقي حصصهم من الدية ; لأن كل واحد مكلف له ، فلا يستوفى أبدال في مبدل واحد ، كما لا تجب ديات ، ولقوله تعالى : ( الحر بالحر ) وقال تعالى : ( النفس بالنفس ) ; ولأن تفاوت الأوصاف يمنع كالحر والعبد ، فالعود أولى . لنا : إجماع الصحابة رضي الله عنهم على أن عمر رضي الله عنه قتل تسعة من أهل صنعاء برجل ، وقال : لو تمالأ عليه أهل صنعاء 320 [ ص: 320 ] لقتلتهم ، وقتل علي رضي الله عنه ثلاثة ، وهو كثير ، ولم يعرف لهم مخالف في ذلك الوقت ، ولأنها عقوبة كحد القذف ، ويفارق الدية لأنها تتبعض دون القصاص ; ولأن الشركة لو أسقطت القصاص وجدت ذريعة للقتل ، ووافقنا ( ش ) وأحمد في عدم القصاص بين المسلم والذمي ، وقال ( ح ) : يقتل المسلم بالذمي . لنا : ما في البخاري : ( لا يقتل مسلم بكافر ) احتجوا ، بقوله تعالى : ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ) وهو مظلوم ، وبقوله تعالى : ( النفس بالنفس ) وسائر العمومات . والجواب عن الجميع : بأن دليلنا خاص فيقدم على العمومات ، وخالفنا ( ح ) في قتل الحر بعبد الغير . وقال الثوري : يقتل بعبده وعبد غيره ، ووافقنا ( ش ) وأحمد . لنا : قوله تعالى ( الحر بالحر والعبد بالعبد ) ، والقصاص لغة : المماثلة ، ولا مماثلة ، وقاله الصديق وعلي رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة . وقال علي رضي الله عنه : السنة أن لا يقتل الحر بالعبد ; ولأنه مال كالبهيمة . احتجوا بالعمومات وما ذكرناه أخص فيقدم ، وعندنا يقتل الوالد بولده إذا تحققنا قصد القتل ، وقال ( ش ) و ( ح ) : لا يقتل . لنا : العمومات . احتجوا بما روي عن [ ص: 321 ] النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا يقتل والد بولده ) والجواب : منع الصحة . ووافقنا ( ش ) في القصاص في المثقل ومنع ( ح ) . لنا : العمومات ، وفي البخاري : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتص من اليهودي الذي قتل الجارية بالحجر ) ، ( وكونه اقتص بالحجر يدل ) على أن القتل لم يكن إلا قصاصا لا نقضا للعهد كما يتأوله الحنفية . احتجوا : بقوله عليه السلام : ( لا قود إلا بحديدة ) وبقوله عليه السلام في الصحيح : ( إن في قتيل العمد الخطأ ; قتيل السوط والعصا مائة من الإبل ) .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أن معناه : لا يقتص إلا بالسيف ، والنزاع في القتل الأول ، ولم يتعرض له الحديث .

                                                                                                                عن الثاني : هو محمول على مثل قتل المدعي ابنه ، فيكون فيه العمد من جهة قصد الضرب ، والخطأ من جهة شفقة الأبناء ، فيجتمع الشبهان فيكون عمدا خطأ ، ونحن نقول به وخالفنا ( ش ) و ( ح ) في قتل الممسك وقالا : يقتل القاتل وحده . لنا : العمومات المتقدمة ، وقول عمر رضي الله عنه : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم ، ولا ممالأة أتم من الإمساك ، وقياسا على الممسك للصيد على المحرم فإن عليه الجزاء ، أو على المكره .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية