الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الفصل الثالث : اللبن المرضع ، قال صاحب التنبيهات : قال أهل اللغة : لا يقال : لبنات آدم لبن ، بل لبان ، قال : والأحاديث خلاف قولهم ، وفي الجواهر : لا يشترط فيه أن يكون من وطء حلال على مشهور الروايتين ، [ ص: 273 ] وضابطه : أن كل وطء يلحق به الولد ويدرأ الحد ينشر لبنه الحرمة ، وإن وجب الحد وانتفى الولد لا ينشر ، وإن انتفى الولد وسقط الحد ، فالرواية الأخيرة : نشره لظهور شبه النكاح المشروع من حيث الجملة هذا كله في حق الراضع .

                                                                                                                وأما المرضعة فالأم مطلقا ; لأن الزنا لا ينافي الأمومة ، ولو وطئت المتزوجة بشبهة ، وأتت بولد يحتمل أن يكون منهما فأرضعت صغيرة فهي ابنة من يثبت له نسب الولد ، وقال محمد : يحرم عليها ، وإذا دام لبن المطلقة سنين فهو منسوب للزوج ، وقيل : ينقطع بوطء زوج ثان وإن دام ، وإذا فرعنا على الأول : فولدت أو حملت ، فقيل : ينقطع بالحمل ، وقيل : بالولادة ، وقيل : لا ينقطع إلا بانقطاعه ، وحيث لم يحكم بانقطاعه فالولد لهما ، ومنشأ الخلاف هل يكون طرء الزوج أو الحمل مغيرا للبن حتى تكون نسبته إلى الطارئ أولى أم لا .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال اللخمي : إذا تزوجت فولدت ثم تزوجت وطلقها ثم ثالثا ، ولبن الأول باق ، وطالت المدة عن إصابة الوسط سقط حكمه ; لأنه كان سبب التكثير ، والطول يبطله ، والحرمة تقع بالإنزال بالوطء لقوله عليه السلام : ( لا يسق أحدكم ماءه زرع غيره ) ، ولو قبل أو باشر فدرت اللبن لم يكن أبا إجماعا ، وإن كان وجود سببه لبعد السبب .

                                                                                                                [ ص: 274 ] فرع

                                                                                                                ليس من شرطه عدد رضعات بل مطلق الرضاع يحرم ، وقاله ( ح ) ، واشترط ( ش ) خمس رضعات ; لقول عائشة - رضي الله عنها - في مسلم : كان فيما أنزل الله تعالى من القرآن : عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي - عليه السلام - وهو فيما يقرأ من القرآن ، ولقوله عليه السلام : ( لا تحرم الرضعة ، ولا الرضعتان ، ولا المصة ، ولا المصتان ) ، ولأنه سبب تحريم فيشترط فيه العدد كاللعان ، والجواب عن الأول : أن إحالته على القرآن الباقي بعده - عليه السلام - يقتضي عدم اعتباره ; لأنه لو كان قرآنا لتلي الآن لقوله تعالى : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ( الحجر : 9 ) ، وعن الثاني : أن في سنده طعنا ، سلمناه لكنه مروي عن عائشة رضي الله عنها فهو مستنبط من الأول ، وقد ظهر بطلانه ، وعن الثالث : أنه مغلوب بأنه سبب تحريم فلا يتوقف على الخمس كاللعان ، ومعارض بأنه سبب تحريم فلا يتوقف على العدد كالنكاح على غير الزوج كالطلاق على الزوج ، إذا ظهر ذلك بطل قول الشافعية إن القرآن مطلق والسنة مقيدة ، فيحمل المطلق على المقيد .

                                                                                                                تفريع ، في الكتاب : الوجور يحرم ، وقاله الأئمة لحصول المقصود ، وكذلك السعوط ، والحقنة الواصلة إلى محل الغذاء .

                                                                                                                فائدة : الوجور بفتح الواو : الصب في وسط الفم ، واللدود : الصب في أحد جانبيه من لديدي الوادي ، وهما جانباه ، وفي الجواهر : في السعوط [ ص: 275 ] والحقنة خلاف ، قال ابن يونس : لم يشترط ابن حبيب الوصول إلى الجوف في السعوط ، والحقنة ، وقال إذا خلط اللبن بكحل نفاد كالمر والصبر والعنزروت حرم ، وإلا فلا ، ولم يعتبر ابن القاسم القسمين ; لأن مرور اللبن في الدماغ كمروره على سطح الجسم لا يحصل غذاء ولو وصل للجوف وكان مستهلكا .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال ابن يونس : قال مالك : لا ينهى عن الغيلة ، وهي وطء المرأة المرضعة ; لقوله - عليه السلام - في الصحيح : ( لقد هممت أن أنهي عن الغيلة حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم ) ، وقيل : هي إرضاع لبن الحامل على الصبي ، والمتوقع من الفساد إضعاف المني اللبن لمشاركة الرحم الثدي في المجاري ، ولذلك تتحرك شهوة النساء بمسك الثدي ، وإن الحمل يمنع الحيض فينحصر في الجسد فيفسد اللبن ولم يشترط عبد الملك الإنزال ، ولعله اكتفى بمني المرأة .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال إذا درت ما لا يحرم ، وإنما يحرم اللبن المغذي .

                                                                                                                [ ص: 276 ] فرع

                                                                                                                في الكتاب : إذا استهلك اللبن أو صار مغلوبا بطعام أو دواء لم يحرم ، وقاله ( ش ) ; لأن الحكم في الحكم للغالب ، وقاله ( ح ) في المغلوب بالماء ، والمختلط بالطعام إن كان اللبن غالبا ; لأن الطعام أصل اللبن ، واللبن تابع ، والهواء كالماء عنده ، وإذا اختلط عنده لبن المرأتين تعلق التحريم بأغلبهما ، ويشهد لنا أن النقطة من الخمر لا يحد عليها إذا استهلكت مطلقا ، قال ابن يونس : وقال مطرف تحرم لحصول الاغتداء بتلك الأجزاء ، وإن اختلطت بغيرها ، والنقطة من الخمر إذا اختلطت لا تسكر ، ولا تصلح للإسكار مع أمثالها فظهر الفرق .

                                                                                                                قاعدة : إذا نصب الشرع سببا لاشتماله على حكمة اختلف العلماء في الاقتصار على عين السبب ; لأن الشرع لم ينصب غيره ، ويجوز اعتبار الحكمة ; لأنها أصل وضع السبب ، والأصل أقوى من الفرع كما شرع السرقة سببا في القطع لحكمة صون الأموال ، والزنا سببا للحد لحكمة صون الأنساب ، وهاهنا شرع الرضاع سببا للتحريم لحكمة كونه يغذي حتى يصير جزء المرأة الذي هو لبنها جزء المرضع ، كما يصير منيها وطمثها جزءا من الولد في النسب فإذا حصلت المشاركة حصلت البنوة ، فإذا استهلك اللبن عدم ما يسمى رضاعا ولبنا ولم يبق إلا الحكمة فهل تعتبر أم لا ؟ هذا منشأ الخلاف ، وقال ابن يونس وغيره من الأصحاب : اللبن المستهلك لا يغذي ، وليس كذلك ; لأن لبن الحيوان يحصل آخر .

                                                                                                                [ ص: 277 ] الغذاء مما خالطهما في جوفه ، وإن قلت وكثر المخالط ، وذلك معلوم عند الأطباء ، ويدل على عدم اعتباره هذه الحكمة إذا انفردت : أن الحرمة لا تقع بدمها ولا لحمها ، وإن أغذيا الولد إجماعا ، وأن الكبير يغذى باللبن ولا يحرمه ، وعلى هذه القاعدة يتخرج إرضاع الذكور ورضاع الكبير والحقنة والسعوط ، والكحل وكثير من الفروع فتأملها بفكر حسن .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                في الكتاب : كره لبن المجوسية والكتابية من غير تحريم لتولده على الخنزير والخمر ، وقد تطعمه ذلك خفية ، ونهى - عليه السلام - عن استرضاع الفاجرة ، وقال : ( اتقوا إرضاع الحمقاء فإنه يغذي ) .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية