الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                النظر الثاني

                                                                                                                فيما استثني من بيع الثمار وهو العرايا ، ويتجه النظر في معنى لفظها ، ووجه استثنائها ، وحقيقتها ، وقدرها ، ومحلها ، وكيفية بيعها ، وسبب الرخصة فيها ، فهذه سبعة أبحاث :

                                                                                                                البحث الأول : في معنى لفظها : والعرايا جمع عرية ، وفيها سبعة أقوال ، قيل : من تعري النخلة من تمرها بالهبة ، وقيل : من عروت الرحل أعروه : إذا طلبت معروفه وهي معروف ، ومنه قوله تعالى : ( فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ) [ ص: 196 ] وأصله : المكان المنكشف الفارغ ، لقوله تعالى : ( فنبذناه بالعراء ) أي : بالمكان المنكشف الفارغ ، ومن منح ماله فقد فرغ ملكه منه ، قال المازري : العرية النخلة يعرى ثمرها للمحتاج ، وقيل : لأنها تعرى من المساومة عند البيع ، وقيل من العارية ; لأن النخلة ترجع بعد الانتفاع بها ، ويرد عليه : أن أصل العارية عودته ، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا فصارت عارية ، من قولهم : عاورت فلانا أي : ناولته وناولني ، وفعلها : أعاره يعيره ، والفعل من عرية الثمار : أعراه يعريه فيمتنع أن يكونا من معنى واحد ، مع أنه قد قيل : العراية من العار ، قال صاحب ( الإكمال ) : العرية مشددة الياء ، وهي فعلية وفعيل ، وفعيلة تكون بمعنى فاعل وبمعنى مفعول كرحيم وعليم بمعنى راحم وعالم ، وقتيل ، وجريح بمعنى مجروح ، ومقتول ، فالعرية قيل : معناها من الطلب فتكون مفعولة أي : عطية ، وقيل : من عروت الرجل أي : أتيته ، فتكون مالية ; لأنها على هذا فاعلة لخروجها عن مال ربها وتعريه عنها ، فتكون فاعلة أي : خارجة ومعرية لربها أي : عريت من التحريم ، وقيل : معناها من الانفراد عريت النخلة إذا أفردتها بالبيع أو الهبة ، وقيل : الثمرة إذا رطبت ; لأن الناس يعرونها للالتقاط فتكون مفعولة .

                                                                                                                تمهيد : في أسماء أنواع الإحسان في اللغة : العرية : هبة الثمار في النخل والأشجار ، والعارية تمليك المنافع والإفقار : إعارة الظهر من بعير أو غيره للركوب ، مأخوذ من فقار الظهر ، وهو عظام سلسلة الظهر ، والمنحة [ ص: 197 ] والمنيحة : تمليك لبن الشاة مدة تكون عنده يحلبها ، والهبة : تمليك الأعيان طلبا للوداد ، والصدقة : تمليك الأعيان للثواب عند الله تعالى ، والسكنى : هبة منافع الدار مدة معينة ، وهو أحد العارية ، والعمرى : تمليك منافع الدار عمره ، والرقبى : تمليك منافع الدار إلى أقربهما موتا ، كأن كل واحد منهما يرتقب موت صاحبه ، والوصية : تمليك الأعيان أو المنافع بعد الموت ، والوقف والحبس : تمليك الموقوف عليه أن ينتفع بالأعيان ، لا تمليك المنافع ، وفرق بين تمليك المنفعة ، وبين ملك أن ينتفع ففي الأول : له نقل الملك في الانتفاع لغيره ، وفي الثاني : ليس له ذلك كالجلوس في المساجد للصلاة ، وفي الطرقات للمعاش ، وليس له بيع ذلك ولا تحجيره ، والنفح ، والعطاء والإحسان ، والتمليك ، والمعروف تعم هذه الأنواع الأحد عشر .

                                                                                                                البحث الثاني : في وجه استثنائها ، قال صاحب ( التنبيهات ) : هي مستثناة من أربعة أصول محرمة : المزابنة ، والطعام بالطعام إلى أجل ، وغير معلوم التماثل ، والرجوع في الهبة .

                                                                                                                البحث الثالث : في حقيقتها في المذهب ، وفي ( الجواهر ) : قال القاضي أبو الوليد : هي هبة ثمرة نخلة أو نخلات من الحائط ، قال القاضي أبو الوليد : هذا على مذهب أشهب وابن حبيب دون ابن القاسم ، بل معناها عند ابن القاسم : أن يعريه الثمرة على أن المعرى ما يلزمها إلى بدو صلاحها ، ولفظ الهبة عنده لا يقتضي هذا ; لأنه يفرق بين الهبة والعرية في السقي والزكاة فيجعلها على المعرى بخلاف الهبة ، وغيره يخالفه على ما يأتي إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                وفي ( الكتاب ) : تجوز عرية النخل والشجر قبل أن يكون فيها ثمر عاما ، ومدة العمر ، قال اللخمي : يجوز في قليل الشجر وكثيره ما لم يكن الشجر لم يبلغ [ ص: 198 ] الإطعام ; لأنه مكايسة ، لأنه يعجل ليعطى في المستقبل ، فإن نزل وفات بالعمل : فللعامل أجرة مثله في العمل حال صغرها وإثمارها ، والثمرة للمعطى إلا أن يعلم أنها تثمر تلك السنة فيجوز ، ويدخلان على أن الكلفة في السقي وغيره على المعطى .

                                                                                                                البحث الرابع في قدرها : قال اللخمي : يجوز في خمسة أوسق ، ويمتنع الأكثر ، واختلف في الخمسة ، لما في الصحاح : أرخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق ، أو في خمسة أوسق . فورد الحديث بصيغة الشك من الراوي في الخمسة ، قال : والمنع أحسن ; لأنه الأصل فيها ، وفي ( الجواهر ) : المشهور إباحة الخمسة اعتبارا بنصاب الزكاة بجامع المعروف ، وبه نجيب عن اعتبار أحد الاحتمالين ، مع أن الراوي شك فيما رواه ، ونقول : قوله وأرخص في العرايا في الحديث الآخر عام إلا ما خصه الدليل ، وعن ( ش ) : قولان في الخمسة كقولي مالك .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                في ( الجواهر ) : إذا نقد المشتري أو البائع جاز في الزائد على الخمسة ، وإن اتحد الشق الآخر ، فإن اتحد أو تعددت الحوائط وقد أعراه من كل حائط [ ص: 199 ] قدر العرية : قال الشيخ أبو محمد : هي كالحائط الواحد نظرا لاتحاد المعرى فيمتنع في الزائد ، وقال اللخمي : يجوز أن يشترى من كل واحد خمسة أو ست ; لأن كل حائط يختص بضرورته ، وقال ابن الكاتب : إن كانت بلفظ واحد ، فكالحائط الواحد ، كبيع المتعددات بلفظ واحد ، فإن العقد والحكم واحد ، وإلا امتنع .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية