الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون ) .

ذكر تعالى توبيخهم على إعراضهم عن اتباع الحق والقول القرآن الذي أتى به محمد - صلى الله عليه وسلم - ، أي أفلم يتفكروا فيما جاء به عن الله فيعلموا أنه المعجز الذي لا يمكن معارضته فيصدقوا به وبمن جاء به ، وبخهم ووقفهم على تدبره وأنهم بمكابرتهم ونظرهم الفاسد ، قال بعضهم : سحر ، وقال بعضهم : شعر ، وهو أعظم الدلائل الباقية على غابر الدهر قرعهم أولا بترك الانتفاع بالقرآن ثم ثانيا بأن ما جاءهم جاء آباءهم الأولين ، أي إرسال الرسل ليس بدعا ولا مستغربا بل جاءت الرسل الأمم قبلهم ، وعرفوا ذلك بالتواتر ونجاة من آمن واستئصال من كذب ، وآباؤهم إسماعيل وأعقابه من عدنان وقحطان ، وروي : لا تسبوا مضر ، ولا ربيعة ، ولا الحارث بن كعب ، ولا أسد بن خزيمة ، و لا تميم بن مرة ، ولا قسا ، وذكر أنهم كانوا مسلمين وأن تبعا كان مسلما وكان على شرطه سليمان بن داود [ ص: 414 ] وبخهم ثالثا بأنهم يعرفون محمدا - صلى الله عليه وسلم - وصحة نسبه وحلوله في سطة هاشم وأمانته وصدقه وشهامته وعقله واتسامه بأنه خير فتيان قريش ، وكفى بخطبة أبي طالب حين تزوج خديجة وأنها احتوت على صفات له طرقت آذان قريش ، فلم تنكر منها شيئا أي قد سبقت معرفتهم له جملة وتفصيلا ، فلا يمكن إنكار شيء من أوصافه .

ثم وبخهم رابعا بأنهم نسبوه إلى الجن وقد علموا أنه أرجحهم عقلا وأثقبهم ذهنا ، وأن الفرق بين الحكمة وفصل الخطاب الذي جاء به وبين كلام ذي الجنة غير خاف على من له مسكة من عقل ، وهذه التوبيخات الأربع كان يقتضي ما وبخوا به منها أن يكون سببا لانقيادهم إلى الحق ; لأن التدبير لما جاء به والنظر في سير الماضين وإرسال الرسل إليهم ومعرفة الرسول ذاتا وأوصافا وبراءته من الجنون هاد لمن وفقه الله للهداية ، ولكنه جاءهم بما حال بينهم وبين أهوائهم ولم يوافق ما نشئوا عليه من اتباع الباطل ، ولما لم يجدوا له مدفعا ; لأنه الحق عاملوا بالبهت وعولوا على الكذب من النسبة إلى الجنون والسحر والشعر .

( بل جاءهم بالحق ) أي بالقرآن المشتمل على التوحيد ، وما به النجاة في الآخرة والسؤدد في الدنيا .

( وأكثرهم للحق كارهون ) يدل على أن فيهم من لا يكره الحق وذلك من يترك الإيمان أنفة واستكبارا من توبيخ قومه أن يقولوا : صبأ وترك دين آبائه . ( ولو اتبع الحق أهواءهم ) ، قرأ ابن وثاب ( ولو اتبع ) بضم الواو ، والظاهر أنه ( الحق ) الذي ذكر قبل في قولهم : ( بل جاءهم بالحق ) أي لو كان ما جاء به الرسول من الإسلام والتوحيد متبعا أهواءهم لانقلب شرا وجاء الله بالقيامة وأهلك العالم ولم يؤخر ، قال معناه الزمخشري وبعضه بلفظه . وقال أيضا : دل بهذا على عظم شأن الحق ، فلو اتبع أهواءهم لانقلب باطلا ولذهب ما يقوم به العالم فلا يبقى له بعده قوام . وقيل : لو كان ما جاء به الرسول بحكم هوى هؤلاء من اتخاذ شريك لله وولد وكان ذلك حقا لم يكن لله الصفات العلية ولم تكن له القدرة كما هي ، وكان في ذلك فساد السماوات والأرض . وقيل : كانوا يرون الحق في اتخاذ الآلهة مع الله لكنه لو صح ذلك لوقع الفساد في السماوات والأرض على ما قرر في دليل التمانع في قوله تعالى : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) ، وقيل : كانت آراؤهم متناقضة ; فلو اتبع الحق أهواءهم لوقع التناقض واختل نظام العالم . وقال قتادة ( الحق ) هنا الله تعالى .

فقال الزمخشري : معناه ولو كان الله يتبع أهواءهم ويأمر بالشرك والمعاصي لما كان إلها ، ولما قدر على أن يمسك السماوات والأرض . وقال ابن عطية : ومن قال : إن ( الحق ) في الآية هو الله تعالى ، وكان قد حكاه عن ابن جريج وأبي صالح ، تشعب له لفظة ( اتبع ) وصعب عليه ترتيب الفساد المذكور في الآية ; لأن لفظة الاتباع إنما هي استعارة بمعنى أن يكون أهواؤهم يقررها الحق ، فنحن نجد الله تعالى قد قرر كفر أمم وأهواءهم وليس في ذلك فساد سماوات ، وأما نفسه الذي هو الصواب ، فلو كان طبق أهوائهم لفسد كل شيء فتأمله ، انتهى .

وقرأ الجمهور : بنون العظمة ، وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر ويونس ، عن أبي عمرو بياء المتكلم ، وابن أبي إسحاق وعيسى أيضا وأبو البرهسم وأبو حيوة والجحدري وابن قطيب وأبو رجاء بتاء الخطاب للرسول - عليه السلام - وأبو عمرو في رواية ( آتيناهم ) بالمد ، أي أعطيناهم ، والجمهور ( بذكرهم ) أي بوعظهم والبيان لهم ; قاله ابن عباس . وقرأ عيسى " بذكراهم " بألف التأنيث ، و قتادة " نذكرهم " بالنون مضارع ذكر ونسبة الإتيان الحقيقي إلى الله لا تصح ، وإنما هو مجاز أي بل آتاهم كتابنا أو رسولنا .

وقال الزمخشري : ( بذكرهم ) أي بالكتاب الذي هو ذكرهم أي وعظهم أو صيتهم وفخرهم أو بالذكر الذي كانوا يتمنونه ويقولون ( لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين ) .

( أم تسألهم خرجا ) هذا استفهام توبيخ [ ص: 415 ] أيضا المعنى بل أتسألهم مالا فغلبوا لذلك واستثقلوك من أجله ; قاله ابن عطية وخطب الزمخشري بأحسن كلام فقال ( أم تسألهم ) على هدايتك لهم قليلا من عطاء الخلق ، والكثير من عطاء الخالق خير ، فقد ألزمهم الحجة في هذه الآيات ، وقطع معاذيرهم وعللهم بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله مخبور سره وعلنه ، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم ، وأنه لم يعرض له حتى يدعي مثل هذه الدعوى العظيمة بباطل ، ولم يجعل ذلك سلما إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم ، ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل ، واستهتارهم بدين الآباء الضلال من غير برهان ، وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيرة وكراهتهم للحق وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر ، انتهى .

وتقدم الكلام في قوله : ( خرجا فخراج ) في قوله تعالى : ( فهل نجعل لك خرجا ) في الكهف قراءة ومدلولا . وقرأ الحسن وعيسى ( خراجا فخرج ) فكملت بهذه القراءة أربع قراءات ، وفي الحرفين ( فخراج ربك ) أي ثوابه ; لأنه الباقي وما يؤخذ من غيره فان . وقال الكلبي : فعطاؤه ; لأنه يعطي لا لحاجة وغيره يعطي لحاجة . وقيل : فرزقه ويؤيده ( خير الرازقين ) . قال الجبائي : ( خير الرازقين ) دل على أنه لا يساويه أحد في الإفضال على عباده ، ودل على أن العباد قد يرزق بعضهم بعضا ، انتهى . وهذا مدلول ( خير ) الذي هو أفعل التفضيل ، ومدلول ( الرازقين ) الذي هو جمع أضيف إليه أفعل التفضيل .

ولما زيف طريقة الكفار أتبع ذلك ببيان صحة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم ) ، وهو دين الإسلام ، ثم أخبر أن من أنكر المعاد ناكب عن هذا الصراط ; لأنه لا يسلكه إلا من كان راجيا للثواب خائفا من العقاب ، وهؤلاء غير مصدقين بالجزاء فهم مائلون عنه ، وأبعد من زعم أن الصراط الذي هم ناكبون عنه هو طريق الجنة في الآخرة ، ومن زعم أن الصراط هو في الآخرة ناكبون عنه بأخذهم يمنة ويسرة إلى النار . قال ابن عباس : ( لناكبون ) لعادلون . وقال الحسن : تاركون له . وقال قتادة : حائرون . وقال الكلبي : معرضون ، وهذه أقوال متقاربة المعنى .

( ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر ) قيل : هو الجوع . وقيل : القتل والسبي . وقيل : عذاب الآخرة ، أي بلغوا من التمرد والعناد أنهم لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لشدة لجاجهم فيما هم عليه من البعد ، وهذا القول بعيد ; بل الظاهر أن هذا التعليق كان يكون في الدنيا ويدل على ذلك قوله : ( ولقد أخذناهم بالعذاب ) إلى آخر الآية ، استشهد على شدة شكيمتهم في الكفر ولجاجهم على تقدير رحمته لهم بأنه أخذهم بالسيوف أولا ، وبما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم وأسرهم ، فما وجدت منهم بعد ذلك استكانة ولا تضرع حتى فتحنا عليهم باب الجوع الذي هو أشد من الأسر والقتل فأبلسوا وخضعت رقابهم . والظاهر من هذا أن الضمير هو القحط والجوع الذي أصابهم بدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا مروي عن ابن عباس وابن جريج .

وسبب نزول الآية دليل على ذلك ، روي أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة منع الميرة من أهل مكة ، فأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز ، فجاء أبو سفيان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له : أنشدك الله والرحم ، ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين ؟ فقال : " بلى " فقال : قتلت الآباء بالسيف ، والأبناء بالجوع ، فنزلت الآية . والمعنى لو كشف الله عنهم هذا الضر ، وهو الهزال والقحط الذي أصابهم ووجدوا الخصب ، لارتدوا إلى ما كانوا عليه من الاستكبار وعداوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين وإفراطهم فيها . وقيل : المعنى لو امتحناهم بكل محنة من القتل والجوع فما رئي فيهم استكانة ولا انقياد حتى إذا عذبوا بنار جهنم أبلسوا ، كقوله [ ص: 416 ] ( ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ) ، ( لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون ) فعلى هذا القول يكون الفتح لباب العذاب الشديد في الآخرة ، وعلى الأول كان في الدنيا .

ووزن استكان استفعل أي انتقل من كون إلى كون كما تقول : استحال انتقل من حال إلى حال ، وقول من زعم أن استكان افتعل من السكون وأن الألف إشباع ضعيف ; لأن الإشباع بابه الشعر كقوله :


أعوذ بالله من العقراب الشائلات عقد الأذناب



; ولأن الإشباع لا يكون في تصاريف الكلمة ، ألا ترى أن من أشبع في قوله :


ومن ذم الزمان بمنتزاح



لا تقول انتزاح ينتزيح فهو منتزيح ، وأنت تقول : استكان يستكين فهو مستكين ومستكان ، ومجيء مصدره استكانة يدل على أن الفعل وزنه استفعل كاستقام استقامة ، وتخالف ( استكانوا ) و ( يتضرعون ) في الصيغة فلم يكونا ماضيين ولا مضارعين . قال الزمخشري : لأن المعنى محناهم فما وجدت منهم عقيب المحنة استكانة ، وما من عادة هؤلاء أن يستكينوا ويتضرعوا حتى يفتح عليهم باب العذاب الشديد .

والمبلس : الآيس من الشر الذي ناله . وقرأ السلمي : ( مبلسون ) بفتح اللام .

التالي السابق


الخدمات العلمية