الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 5 ] وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم .

ظاهر ترتيب الكلام أن هذا من كلام امرأة العزيز ، مضت في بقية إقرارها فقالت وما أبرئ نفسي ، وذلك كالاحتراس مما يقتضيه قولها ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب من أن تبرئة نفسها من هذا الذنب العظيم ادعاء بأن نفسها بريئة براءة عامة فقالت وما أبرئ نفسي أي ما أبرئ نفسي من محاولة هذا الإثم ; لأن النفس أمارة بالسوء وقد أمرتني بالسوء ، ولكنه لم يقع .

فالواو التي في الجملة استئنافية ، والجملة ابتدائية .

وجملة إن النفس لأمارة بالسوء تعليل لجملة وما أبرئ نفسي ، أي لا أدعي براءة نفسي من ارتكاب الذنب ; لأن النفوس كثيرة الأمر بالسوء .

والاستثناء في إلا ما رحم ربي استثناء من عموم الأزمان ، أي أزمان وقوع السوء ، بناء على أن أمر النفس به يبعث على ارتكابه في كل الأوقات إلا وقت رحمة الله عبده ، أي رحمته بأن يقيض له ما يصرفه عن فعل السوء ، أو يقيض حائلا بينه وبين فعل السوء ، كما جعل إباية يوسف عليه السلام من إجابتها إلى ما دعته إليه حائلا بينها وبين التورط في هذا الإثم ، وذلك لطف من الله بهما .

ولذلك ذيلته بجملة إن ربي غفور رحيم ثناء على الله بأنه شديد المغفرة لمن أذنب ، وشديد الرحمة لعبده إذا أراد صرفه عن الذنب .

[ ص: 6 ] وهذا يقتضي أن قومها يؤمنون بالله ويحرمون الحرام ، وذلك لا ينافي أنهم كانوا مشركين فإن المشركين من العرب كانوا يؤمنون بالله أيضا . قال تعالى ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله وكانوا يعرفون البر والذنب .

وفي اعتراف امرأة العزيز بحضرة الملك عبرة بفضيلة الاعتراف بالحق ، وتبرئة البريء مما ألصق به ، ومن خشية عقاب الله الخائنين .

وقيل : هذا الكلام كلام يوسف عليه السلام متصل بقوله ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن الآية .

وقوله قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف إلى قوله وأن الله لا يهدي كيد الخائنين اعتراض في خلال كلام يوسف عليه السلام ، وبذلك فسرها مجاهد وقتادة وأبو صالح وابن جريج والحسن والضحاك والسدي وابن جبير ، واقتصر عليه الطبري . قال في الكشاف : وكفى بالمعنى دليلا قائدا إلى أن يجعل من كلام يوسف عليه السلام ، ونحوه قوله قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم ثم قال فماذا تأمرون وهو من كلام فرعون يخاطبهم ويستشيرهم اهـ .

يريد أن معنى هذه الجملة أليق بأن يكون من كلام يوسف عليه السلام ; لأن من شأنه أن يصدر عن قلب مليء بالمعرفة .

وعلى هذا الوجه يكون ضمير الغيبة في قوله لم أخنه عائدا إلى معلوم من مقام القضية وهو العزيز ، أي لم أخن سيدي في حرمته حال مغيبه .

ويكون معنى وما أبرئ نفسي إلخ . . مثل ما تقدم قصد به التواضع ، أي لست أقول هذا ادعاء بأن نفسي بريئة من ارتكاب الذنوب إلا مدة رحمة الله النفس بتوفيقها لأكف عن السوء ، أي أني لم أفعل ما اتهمت به وأنا لست بمعصوم

التالي السابق


الخدمات العلمية