الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 11 ] ثم دخلت سنة ثنتي عشرة وثلاثمائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      في المحرم منها اعترض القرمطي أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي - لعنه الله ، ولعن معه أباه - للحجيج وهم راجعون من بيت الله الحرام قد أدوا فرض الله عليهم ، فقطع عليهم الطريق ، فقاتلوه دفعا عن أموالهم وأنفسهم وحريمهم ، فقتل منهم خلقا كثيرا لا يعلمهم إلا الله ، عز وجل ، وأسر من نسائهم وأبنائهم ما اختاره ، واصطفى من أموالهم ما أراد ، فكان مبلغ ما أخذ من الأموال ما يقاوم ألف ألف دينار ، ومن الأمتعة والمتاجر نحو ذلك ، وترك بقية الناس - بعدما أخذ جمالهم وزادهم وأموالهم ونساءهم على بعد الديار في البرية - بلا زاد ولا ماء ولا محمل . وقد حاجف عن الناس نائب الكوفة أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان ، فقهره وأسره ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . وكان عدة من مع القرمطي ثمانمائة مقاتل ، وعمره إذ ذاك سبع عشرة سنة ، قصمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما انتهى خبرهم إلى بغداد قام نساؤهم وأهاليهم في النياحة ، ونشرن شعورهن ولطمن وجوههن ، وانضاف إليهن نساء الذين نكبوا على يدي [ ص: 12 ] الوزير ابن الفرات ، فكان ببغداد يوم مشهود بسبب ذلك في غاية الفظاعة والشناعة ، ولما سأل الخليفة عن الخبر ، ذكر له أن هذه نسوة الحجيج ، ومعهن نساء الذين صادرهم ابن الفرات ، وجاءت على يد الحاجب نصر القشوري المشورة على الوزير ، وقال : يا أمير المؤمنين ، إنما استولى هذا القرمطي بسبب إبعادك المظفر مؤنسا الخادم ، فطمع هؤلاء في الأطراف ، وما أشار عليك بإبعاده إلا ابن الفرات . وبعث الخليفة المقتدر إلى الوزير ابن الفرات ، يقول له : إن الناس يتكلمون فيك لنصحك إياي . وأرسل يطيب قلبه ، فركب هو وولده إلى الخليفة فدخلا عليه ، فأكرمهما وطيب قلوبهما ، وخرجا من عنده ، فناله أذى كثير من نصر الحاجب وغيره من كبار الأمراء ، وجلس الوزير في دسته ، فحكم بين الناس على عادته ، وبات ليلته تلك مفكرا في أمره ، وأصبح كذلك وهو ينشد :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فأصبح لا يدري وإن كان حازما أقدامه خير له أم وراءه

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم جاءه في ذلك اليوم أميران من جهة الخليفة المقتدر فدخلا عليه داره إلى بين حرمه ، وأخرجوه مكشوفا رأسه ، وهو في غاية المذلة والإهانة ، فأركبوه في حراقة إلى الجانب الآخر . وفهم الناس ذلك ، فرجموا ابن الفرات [ ص: 13 ] بالآجر ، وتعطلت الجوامع ، وسخمت العامة المحاريب ، ولم يصل الناس الجمعة فيها ، وأخذ خطه بألفي ألف دينار ، وأخذ خط ابنه بثلاثة آلاف ألف دينار ، وسلما إلى نازوك أمير الشرطة ، فاعتقلا حينا ، وخلص منهما الأموال ، فلما قدم مؤنس الخادم سلم إليه الوزير ابن الفرات ، فأهانه غاية الإهانة بالضرب والتقريع له ولولده المحسن المجرم الذي ليس بمحسن ، ثم قتلا بعد ذلك . فكانت وزارته هذه الثالثة ; عشرة أشهر وأياما . واستوزر أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن خاقان ، وذلك في تاسع ربيع الأول من هذه السنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان الخليفة قد أرسل إلى مؤنس الخادم ليحضر ، فدخل بغداد في تجمل عظيم ، وسلم إليه ابن الفرات كما ذكرنا ، فعاقبه ، وشفع إلى الخاقاني في أن يرسل إلى علي بن عيسى - وكان قد صار إلى صنعاء من اليمن مطرودا - فعاد إلى مكة وبعث إليه الوزير أن ينظر في أمر الشام ومصر ، وأمر الخليفة مؤنسا الخادم بالمسير إلى ناحية الكوفة لأجل القرامطة ، وأنفق على خروجه إلى هنالك ألف ألف دينار ، وأطلق القرمطي من كان أسره من الحجيج وكانوا ألفي رجل وخمسمائة امرأة ، وأطلق أبا الهيجاء نائب الكوفة معهم أيضا ، وكتب إلى الخليفة يسأل منه البصرة والأهواز ، فلم يجب إلى ذلك ، وركب المظفر مؤنس [ ص: 14 ] الخادم في جحافل إلى بلاد الكوفة فسكن أمرها ، ثم انحدر منها إلى واسط ; خوفا عليها من القرامطة ، واستناب على الكوفة ياقوت الخادم ، فتمهدت الأمور وانصلحت .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة ظهر رجل بين الكوفة وبغداد ، فادعى أنه محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وصدقه على ذلك طائفة من الأعراب والطغام ، والتفوا عليه ، وقويت شوكته في شوال ، فأرسل إليه الوزير جيشا فقاتلوه فهزموه ، وقتلوا خلقا من أصحابه ، وتفرق بقيتهم . وهذا المدعي المذكور هو رئيس الإسماعيلية وأولهم . وظفر نازوك نائب الشرطة بثلاثة من أصحاب الحلاج وهم حيدرة ، والشعراني ، وابن منصور ، فطالبهم بالرجوع ، فلم يرجعوا ، فضرب أعناقهم ، وصلبهم في الجانب الشرقي . ولم يحج في هذه السنة أحد من أهل العراق ; لكثرة خوف الناس من القرامطة ، لعنهم الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية