الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        إذا كان لبن المرأة لرجل ، فسيأتي - إن شاء الله تعالى - أن المرتضع يصير ابنا للرجل كما يصير ابنا للمرأة ، واختار ابن بنت الشافعي أنه [ ص: 10 ] لا يصير ، والصواب الأول . فإذا كان للرجل خمس مستولدات ، أو أربع زوجات ومستولدة ، فأرضعت كل واحدة طفلا رضعة لم يصرن أمهاته ، وهل يصير الرجل أباه ؟ وجهان ، قال الأنماطي وابن سريج وابن الحداد : لا ، وأصحهما - وبه قال أبو إسحاق وابن القاص - : نعم ، لأنه لبنه ، وهن كالظروف له ، فعلى هذا تحرم المرضعات على الطفل لا بالرضاع ، بل لأنهن موطوءات أبيه ، ولو كان تحته صغيرة وله خمس مستولدات ، فأرضعتها كل واحدة رضعة بلبنه لم ينفسخ نكاح الصغيرة على الوجه الأول ، وينفسخ على الثاني ، وهو الأصح ، ولا غرم عليهن ، لأنه لا يثبت له دين على مملوكه ، ولو أرضع نسوته الثلاث ومستولدتاه زوجته الصغيرة فانفساخ نكاح الصغيرة على الوجهين ، وأما غرامة مهرها ، فإن أرضعن مرتبا ، فالانفساخ يتعلق بإرضاع الأخيرة فإن كانت مستولدة ، فلا شيء عليها ، وإن كانت زوجة ، فعليها الغرم ، وإن أرضعته معا بأن أخذت كل واحدة لبنها في مسعط ، وأوجرته معا ، فلا شيء على المستولدتين وعلى النسوة ثلاثة أخماس الغرم ، ولا ينفسخ نكاح النسوة لأنهن لم يصرن أمهات الصغيرة . ولو كان له أربع ، فأرضعت إحداهن طفلا رضعتين ، وأرضعته الباقيات رضعة رضعة ، أو كان له ثلاث مستولدات ، فأرضعت إحداهن الطفل بلبنه ثلاث رضعات ، والباقيتان رضعة رضعة ، جرى الخلاف في مصيره أبا ولا يصرن أمهات ، وعلى هذا قياس سائر نظائرها . ولو كان لرجل أو امرأة خمس بنات أو أخوات ، فأرضعت كل واحدة طفلا رضعة ، لم يصرن أمهاته ، ولا أزواجهن آباءه ، وكذا لا تثبت الحرمة بين الرضيع والرجل على المذهب ، وقيل : بطرد الوجهين ، فإن أثبتنا الحرمة ، قال البغوي : تحرم المرضعات على الرضيع لا لكونهن [ ص: 11 ] أمهات ، بل لكون البنات أخواته وكون الأخوات عماته ، ولك أن تقول إنما يصح كون البنات أخواته والأخوات عماته لو كان الرجل أبا ، والحرمة هنا إذا ثبتت إنما هي لكونه جدا لأم أو خالا ، وفيه وضع بعضهم الخلاف ، فقال : في مصيره جدا لأم أو خالا وجهان ، فينبغي أن يقال : يحرمن لكونهن كالخالات ، وذلك لأن بنت الجد للأم إذا لم تكن أما ، كانت خالة ، وكذلك أخت الخال . ولو كان لرجل أم وبنت وأخت وبنت أخ لأب ، وبنت أخت لأب ، فارتضع طفل من كل واحدة رضعة ، فإن قلنا : لا يثبت التحريم في الصورة الثانية ، فهنا أولى ، وإلا فالأصح أيضا أن لا تحريم لأن هناك يمكن نسبة الرضيع إليه بكونه ابن ابن ، ونسبته إلى الرضيع بكونه جدا ، وهنا لا يمكن لاختلاف الجهات ، ولا يجوز أن يكون بعضه أخا وبعضه ولد بنت ، وعن ابن القاص : إثبات الحرمة ، فعلى هذا تحرم المرضعات على الرضيع لا بالأمومة بل بجهات ، فأم الرجل كأنها زوجة أبيه ، لأن لبنها من أبي الرجل ، والرضيع كولده ، وبنت الرجل بنت ابن أبيه ، فتكون بنت أخيه ، وأخت الرجل بنت أبيه ، فتكون أخته ، وبنت أخي الرجل بنت ابن أبيه ، فتكون بنت أخيه ، وبنت أخت الرجل بنت أخته أيضا .

                                                                                                                                                                        ولو كان بدل إحدى هؤلاء المرضعات زوجة أو جدة كان الحكم كما ذكرنا . ولو أرضعت كل واحدة من هؤلاء زوجة الرجل رضعة ، فانفساخ نكاحه على الوجهين ، فإن قلنا : ينفسخ ، فإن أرضعن مرتبا ، غرمت الأخيرة للزوج ، وإن أرضعن معا ، اشتركن فيه ، فإن اختلف عدد الرضعات بأن كن ثلاثا فأرضعت واحدة رضعتين ، وأخرى كذلك ، والثالثة رضعة ، فهل يغرمن أثلاثا على عدد الرءوس ، أم أخماسا على عدد الرضعات ؟ وجهان ، وجميع ما ذكرناه هو فيما إذا أرضعت النسوة الخمس في أوقات متفاصلة ، فإن أرضعن متواليا ، وحكمنا بالحرمة [ ص: 12 ] في المتفاصل فهنا وجهان : قال ابن القاص : لا يثبت ، لأنهن كالمرأة الواحدة بالنسبة إلى الرجل ، وإرضاع المرأة إنما يحرم إذا تفرقت أوقاته ، وأصحهما : التحريم لتعدد المرضعات ، فعلى الأول لو أرضعن متواليا ، ثم أرضعته إحداهن أربع رضعات ، صارت أما له على الأصح ، لأنه ارتضع منها خمسا متفاصلة ، وقيل : لا ، لأن تلك الرضعة لم تكن تامة ، ويجري هذا الخلاف في انتقال الرضيع من ثدي امرأة إلى ثدي أخرى ، فعلى وجه لا يحسب لواحدة منهما رضعة ، وعلى الأصح : يحسب لكل واحدة رضعة ، لأن الاشتغال بالارتضاع من الأخرى قطع الارتضاع من الأولى ، فصار كالاشتغال بشيء آخر ، ويقرب منه خلاف فيما لو ارتضع في الحولين أربع رضعات ، وتم الحولان في خلال الرضعة الخامسة ، ففي وجه لا يثبت التحريم ، لأنها لم تتم في الحولين ، والأصح : ثبوته لأن ما يصل إلى الجوف في كل رضعة غير مقدر ، وذكر ابن كج أنه لو كان يرتضع الرضعة الخامسة ، فمات : أو ماتت المرضعة قبل أن يتمها ، وجهين في ثبوت التحريم كالوجهين فيما لو قطعت المرضعة .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لزيد ابن ، وابن ابن ، وأب ، وجد ، وأخ ، ارتضعت صغيرة من زوجة كل واحد منهم رضعة ، فلا تحرم على زيد على الأصح ، وحرمها ابن القاص على زيد ، فعلى هذا تحرم على أبيه دون الابن وابن الابن ، لأنها بارتضاع لبن أخي زيد تكون بنت عم لابن ، وبنت العم لا تحرم ، ومتى كان في الخمسة من لا يقتضي لبنه تحريما ، فلا تحريم .

                                                                                                                                                                        خمسة إخوة ارتضعت صغيرة من لبن زوجة كل واحد رضعة ، [ ص: 13 ] ففي تحريم الصغيرة على الإخوة الوجهان : الأصح : المنع . امرأة لها بنت ابن ، وبنت ابن ابن ، وبنت ابن ابن ابن ، أرضعت العليا طفلا ثلاث رضعات ، والأخريان رضعة رضعة ، ففي مصير المرأة جدة للرضيع الوجهان ، فإن قلنا : نعم ، ففي تحريم المرضعات على الطفل وجهان : أحدهما : لا لعدم العدد ، والثاني : أن الرضعات من الجهات تجمع ، إن كانت كل واحدة منها بحيث لو تم العدد منها ثبت التحريم ، فعلى هذا ينظر إن كانت الوسطى بنت أخي العليا ، والسفلى بنت أخي الوسطى ، حرمت العليا عليه ، لأن إرضاعها لو تم لكان الطفل ابنها ، وإرضاع الوسطى لو تم لكان الرضيع ابن بنت أخي العليا ، وإرضاع السفلى لو تم لكان للعليا ابن بنت ابن أخ . وهذه الجهات محرمة فتجمع ما فيها من عدد الرضعات . وإن كانت الوسطى بنت ابن عم العليا ، والسفلى بنت ابن ابن عمها ، لم تحرم العليا ، لأن إرضاع الوسطى لو تم ، لكان الرضيع للعليا ابن بنت ابن عم ، وإرضاع السفلى لو تم ، لكان لها ابن بنت ابن ابن العم ، وذلك لا يقتضي التحريم ، وأما الوسطى والسفلى ، فلا تحرمان عليه بحال ، لأن إرضاع العليا لو تم ، لكان للوسطى ابن العمة ، وللسفلى ابن عمة الأب . ولو أرضعته إحداهن خمس رضعات ، حرمت هي عليه ، وحرمت التي فوقها إذا كانت المرضعة بنت أخي التي فوقها ، لأنها تكون عمة أمه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        له زوجتان حلبت كل واحدة من لبنها دفعة ، ثم خلطا ، وشربه طفل دفعة ، ثبت لكل واحدة رضعة ، ولو شربه مرتين ، فهل يحسب لكل واحدة رضعتان اعتبارا بوصول اللبن ، أم رضعة اعتبارا بالحلب ؟ وجهان ، وهو كما سبق فيما لو حلب لبن نسوة ، وخلط ، وشربه الطفل دفعة أو دفعات . وأما بين الرضيع والزوج ، فإن لم نجمع في [ ص: 14 ] حق الزوج رضعات زوجاته ، ثبت له رضعة واحدة ، وإن جمعنا ونظرنا إلى الحلب ، ثبت له رضعتان ، وإن نظرنا إلى وصول اللبن ثبت أربع رضعات .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        كان له أربع نسوة وأمة موطوءات ، أرضعت كل واحدة طفلة بلبن غيره رضعة ، قال ابن القاص تفريعا على ثبوت الأبوة : لو أرضعته بلبنه تحرم الطفلة عليه ، لأنها ربيبته ، وإن كان فيهن من لم يدخل بها ، لم تحرم عليه ، لما سبق أنه متى كان فيهن من لو انفردت بالرضعات الخمس ، لم تثبت الحرمة ، لا يثبت التحريم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية