الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1853 - مسألة : ولا يجوز أن تجبر المرأة على أن تتجهز إليه بشيء أصلا ، لا من صداقها الذي أصدقها ، ولا من غيره من سائر مالها ، والصداق كله لها تفعل فيه كله ما شاءت ، لا إذن للزوج في ذلك ، ولا اعتراض .

                                                                                                                                                                                          وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي سليمان ، وغيرهم .

                                                                                                                                                                                          وقال مالك : إن أصدقها دنانير أو دراهم أجبرت على أن تبتاع بكل ذلك شورة من ثياب ووطاء وحلي تتجمل به له ، ولا يحل له أن تقضي منها دينا عليها إلا ثلاثة دنانير [ ص: 109 ] فأقل ، فإن أصدقها نقار ذهب أو نقار فضة فهو لها ، ولا تجبر على أن تبتاع بها شورة أصلا .

                                                                                                                                                                                          فإن أصدقها حليا أجبرت أن تتحلى به له ، فإن أصدقها ثيابا ووطاء أجبرت على أن تلبسها بحضرته ، ولم تجب لها عليه كسوة حتى تمضي مدة تخلق فيها تلك الثياب .

                                                                                                                                                                                          فإن أصدقها خادما أنثى أجبرت على أن تخدمها ولم يكن لها بيعها .

                                                                                                                                                                                          وإن أصدقها عبدا فلها أن تفعل فيه ما شاءت من بيع أو غيره . فلو أصدقها دابة ، أو ماشية ، أو ضيعة ، أو دارا ، أو طعاما لم يكن للزوج في كل ذلك رأي ، وهو لها تفعل فيه ما شاءت من بيع أو غيره وليس للزوج أن ينتفع بشيء من ذلك ، ولا أن ينظر فيه إلا بإذنها إن شاءت .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : قول مالك هذا يكفي من فساده عظيم تناقضه ، وفرقه بين ما فرق من ذلك بلا برهان من قرآن ، ولا سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قول أحد نعلمه قبله ، ولا قياس ، ولا رأي له وجه .

                                                                                                                                                                                          وأطرف شيء إباحته لها قضاء الثلاثة دنانير والدينارين في دينها فقط ، لا أكثر من ذلك ، فليت شعري إن كان صداقها ألفي دينار ، أو كان صداقها دينارا واحدا كيف العمل في ذلك إن هذا العجب ؟

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وبرهان صحة قولنا - : قول الله تعالى : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا }

                                                                                                                                                                                          فافترض الله عز وجل على الرجال أن يعطوا النساء صدقاتهن نحلة ، ولم يبح للرجال منها شيئا إلا بطيب أنفس النساء ، فأي بيان بعد هذا نرغب ؟ أم كيف تطيب نفس مسلم على مخالفة هذا الكلام لرأي فاسد متخاذل متنافر لا يعرف لقائله فيه سلف .

                                                                                                                                                                                          ووجدنا الله عز وجل قد أوجب للمرأة حقوقا في مال زوجها - أحب أم كره - وهي الصداق ، والنفقة ، والكسوة ، والإسكان ، ما دامت في عصمته والمتعة إن طلقها - ولم يجعل للزوج في مالها حقا أصلا ، لا ما قل ولا ما كثر .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 110 ] ولا شيء أطرف من إسقاطهم عن الزوج الكسوة ما دام يمكنها أن تكتسي من صداقها ولم يسقط عنه النفقة ما دام يمكنها أن تنفق على نفسها من صداقها ؟ فهل سمع بأسقط من هذا الفرق الفاسد ؟ وشغب بعضهم بقول الله عز وجل : { الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض } ؟ فقلنا : صدق الله عز وجل ، ولا يحل تحريف الكلم عن مواضعه ، ولا أن نقول عليه عز وجل ما لم يقل ، فهذا من أكبر الكبائر .

                                                                                                                                                                                          وليس في هذه الآية ذكر لقيامه على شيء من مالها ، ولا للحكم برأيه ، ولا للتصرف فيه .

                                                                                                                                                                                          وإنما فيها أنه قائم عليها يسكنها حيث يسكن ويمنعها من الخروج إلى غير الواجب ، ويرحلها حيث يرحل .

                                                                                                                                                                                          ثم لو كان في الآية لما ادعيتم لكنتم أول مخالفين لها ، لأنكم خصصتم بعض الصدقات دون بعض ، ودون سائر مالها ، كل ذلك تحكم بالباطل بلا برهان .

                                                                                                                                                                                          وشغبوا أيضا بالخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : { تنكح المرأة لأربع : لحسنها ، ومالها ، وجمالها ، ودينها - فاظفر بذات الدين تربت يداك } .

                                                                                                                                                                                          وهذا عجب جدا لا نظير له - : أول ذلك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر أن تنكح لمالها ، ولا ندب إلى ذلك ، ولا صوبه ، بل إنما أورد ذلك إخبارا عن فعل الناس فقط ، وهذه أفعال الطماعين المذموم فعلهم في ذلك بل في الخبر نفسه الإنكار لذلك بقوله عليه الصلاة والسلام { : فاظفر بذات الدين } فلم يأمر بأن تنكح بشيء من ذلك إلا للدين خاصة ، لكن الواجب أن تنكح المرأة الزوج لماله ، لأن الله تعالى أوجب لها الصداق عليه والنفقة والكسوة .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 111 ] وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان النهي عن أن تنكح المرأة لمالها - : كما حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي نا ابن مفرج القاضي نا محمد بن أيوب الرقي نا البزار نا سلمة بن شبيب نا عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تنكحوا النساء لحسنهن فلعل حسنهن يرديهن ، ولا تنكحوهن لأموالهن فلعل أموالهن يطغيهن ، وأنكحوهن للدين ، ولأمة سوداء خرماء ذات دين أفضل } .

                                                                                                                                                                                          ثم إنهم أول مخالفين لما موهوا به ; لأنه ليس في نكاح المرأة لمالها - لو أبيح ذلك أو ندب إليه - شيء مما أتوا به من التخليط في الفرق بين صداق فضة مضروبة ، وذهب مضروب ، وبين سبائك فضة وذهب غير مضروبة ، والفرق بين إصداق ثياب ، ووطاء ، وجوهر ، وخادم ، وبين إصداق حرير ، وقطن ، وكتان ، وصوف ، ودابة ، وماشية ، وعبد ، وطعام ، والفرق بين قضاء ثلاثة دنانير من دينها فأقل ، وبين قضائها أكثر من ذلك - فوضح عظيم فساد تخليط هذه الأقوال - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وربما يموهون بما نذكره مما رويناه من طريق الحجاج بن المنهال نا همام بن يحيى نا قتادة عن جلال بن أبي الجلال العتكي عن أبيه أن رجلا خطب إلى رجل ابنته من امرأة عربية فأنكحها إياه فبعث إليه بابنة له أخرى أمها أعجمية ، فلما دخل بها علم بعد ذلك فأتى معاوية فقص عليه ؟ فقال : معضلة ولا أبا حسن - وكان علي حربا لمعاوية - فقال الرجل لمعاوية فأذن لي أن آتيه ؟ فأذن له معاوية ، فأتى الرجل علي بن أبي طالب فقال : السلام عليك يا علي ، فرد عليه السلام ، فقص عليه القصة ؟ فقضى علي على أبي الجارية بأن يجهز ابنته التي أنكحها إياه بمثل الصداق الذي ساق منها لأختها بما أصاب من فرجها ، وأمره أن لا يمس امرأته حتى تنقضي عدة أختها .

                                                                                                                                                                                          قال الحجاج بن المنهال : وأخبرني هشيم قال : أخبرني المغيرة عن إبراهيم النخعي أن رجلا تزوج جارية فأدخل عليه غيرها ؟ فقال إبراهيم : للتي دخل بها الصداق الذي ساق ، وعلى الذي غره أن يزف إليه امرأته بمثل صداقها .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 112 ] قال أبو محمد : هذا كله عليهم لا لهم ، لأنه ليس في شيء من هذين الخبرين أن للزوج في ذلك حقا ولا أربا ، إنما فيهما أن يضمن للتي زوجت منه وزف إليه غيرها صداقها الذي استهلك لها وأعطي لغيرها بغير حق - وهكذا نقول .

                                                                                                                                                                                          ثم هم يخالفون هذه الرواية عن علي في موضعين - : أحدهما - أنه جعل للتي زفت إليه الصداق الذي سمي لأختها ، وهم لا يقولون بهذا ، بل إنما يقضون لها بصداق مثلها .

                                                                                                                                                                                          والموضوع الثاني - أمر علي له أن لا يطأ التي صح نكاحه معها إلا حتى تنقضي عدة الأخرى التي زفت إليه ، وهم لا يقولون بهذا .

                                                                                                                                                                                          فمن المقت والعار والإثم تمويه من يوهم أنه يحتج بأثر هو أول من يخالفه - ونعوذ بالله من الخذلان - هذا مع أن الجلال بن أبي الجلال غير مشهور .

                                                                                                                                                                                          وبما أخبرناه أحمد بن قاسم نا أبي قاسم بن محمد بن قاسم نا جدي قاسم بن أصبغ نا أحمد بن زهير نا الحسن بن حماد نا يحيى بن يعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أنس فذكر خطبة علي فاطمة رضي الله عنهما { وأن عليا باع درعه بأربعمائة وثمانين قال : فأتيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعتها في حجره فقبض منها قبضة فقال : يا بلال أبغنا بها طيبا ، وأمرهم أن يجهزوها } قال : فجعل لنا سرير مشروط بالشرط ووسادة من أدم حشوها ليف وملء البيت كثيبا .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وهذا حجة عليهم ، لأنه لا تبلغ قبضة في طيب ، وسرير مشروط بالشريط ، ووسادة من أدم حشوها ليف : عشر أربعمائة درهم وثمانين درهما - فظهر فساد قولهم - والحمد لله رب العالمين

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية