الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        كتاب التهجد باب التهجد بالليل وقوله عز وجل ومن الليل فتهجد به نافلة لك

                                                                                                                                                                                                        1069 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال حدثنا سليمان بن أبي مسلم عن طاوس سمع ابن عباس رضي الله عنهما قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد لك ملك السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق وقولك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد صلى الله عليه وسلم حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت أو لا إله غيرك قال سفيان وزاد عبد الكريم أبو أمية ولا حول ولا قوة إلا بالله قال سفيان قال سليمان بن أبي مسلم سمعه من طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 5 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 5 ] قوله : ( باب التهجد بالليل ) في رواية الكشميهني : " من الليل " . وهو أوفق للفظ الآية ، وسقطت البسملة من رواية أبي ذر . وقصد البخاري إثبات مشروعية قيام الليل مع عدم التعرض لحكمه ، وقد أجمعوا - إلا شذوذا من القدماء - على أن صلاة الليل ليست مفروضة على الأمة ، واختلفوا في كونها من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ، وسيأتي تصريح المصنف بعدم وجوبه على الأمة قريبا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقوله عز وجل : ومن الليل فتهجد به زاد أبو ذر في روايته " اسهر به " وحكاه الطبري أيضا ، وفي المجاز لأبي عبيدة : قوله : فتهجد به أي اسهر بصلاة . وتفسير التهجد بالسهر معروف في اللغة ، وهو من الأضداد . يقال تهجد إذا سهر ، وتهجد إذا نام ، حكاه الجوهري وغيره . ومنهم من فرق [ ص: 6 ] بينهما فقال : هجدت نمت ، وتهجدت سهرت ، حكاه أبو عبيدة وصاحب العين ، فعلى هذا أصل الهجود : النوم ، ومعنى تهجدت : طرحت عني النوم . وقال الطبري : التهجد السهر بعد نومة ، ثم ساقه عن جماعة من السلف . وقال ابن فارس : المتهجد المصلي ليلا . وقال كراع : التهجد صلاة الليل خاصة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : نافلة لك النافلة في اللغة الزيادة ، فقيل : معناه عبادة زائدة في فرائضك . وروى الطبري عن ابن عباس : " أن النافلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، لأنه أمر بقيام الليل وكتب عليه دون أمته " . وإسناده ضعيف . وقيل : معناه زيادة لك خالصة ، لأن تطوع غيره يكفر ما على صاحبه من ذنب ، وتطوعه هو صلى الله عليه وسلم يقع خالصا له لكونه لا ذنب عليه ، وروى معنى ذلك الطبري وابن أبي حاتم ، عن مجاهد بإسناد حسن ، وعن قتادة كذلك ، ورجح الطبري الأول وليس الثاني ببعيد من الصواب .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إذا قام من الليل يتهجد ) في رواية مالك ، عن أبي الزبير ، عن طاوس : إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل . وظاهر السياق أنه كان يقوله أول ما يقوم إلى الصلاة ، وترجم عليه ابن خزيمة ؛ الدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول هذا التحميد بعد أن يكبر ، ثم ساقه من طريق قيس بن سعد ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام للتهجد قال بعد ما يكبر : اللهم لك الحمد وسيأتي هذا في الدعوات من طريق كريب ، عن ابن عباس في حديث مبيته عند النبي صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة ، وفي آخره : وكان في دعائه : اللهم اجعل في قلبي نورا الحديث . وهذا قاله لما أراد أن يخرج إلى صلاة الصبح كما بينه مسلم من رواية علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قيم السموات ) في رواية أبي الزبير المذكورة " قيام السموات " وسيأتي الكلام عليه في التوحيد ، قال قتادة : القيام : القائم بنفسه بتدبير خلقه المقيم لغيره .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أنت نور السموات والأرض ) أي منورهما ، وبك يهتدي من فيهما . وقيل : المعنى أنت المنزه عن كل عيب ، يقال : فلان منور ؛ أي مبرأ من كل عيب ، ويقال : هو اسم مدح ؛ تقول : فلان نور البلد ؛ أي مزينه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أنت ملك السموات ) كذا للأكثر ، وللكشميهني ( لك ملك السموات ) والأول أشبه بالسياق . قوله : ( أنت الحق ) ؛ أي المتحقق الوجود ، الثابت بلا شك فيه ، قال القرطبي . هذا الوصف له سبحانه وتعالى بالحقيقة خاص به لا ينبغي لغيره ، إذ وجوده لنفسه ، فلم يسبقه عدم ، ولا يلحقه عدم ، بخلاف غيره . وقال ابن التين : يحتمل أن يكون معناه أنت الحق بالنسبة إلى من يدعى فيه أنه إله ، أو بمعنى أن من سماك إلها فقد قال الحق .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ووعدك الحق ) أي الثابت ، وعرفه ونكر ما بعده ؛ لأن وعده مختص بالإنجاز دون وعد غيره ، والتنكير في البواقي للتعظيم ، قاله الطيبي . [1] . واللقاء وما ذكر بعده داخل تحت الوعد ، لكن الوعد مصدر ، وما ذكر بعده هو الموعود به ، ويحتمل أن يكون من الخاص بعد العام كما أن ذكر القول بعد الوعد من العام بعد الخاص ، قاله الكرماني .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 7 ] . قوله : ( ولقاؤك حق ) فيه الإقرار بالبعث بعد الموت ، وهو عبارة عن مآل الخلق في الدار الآخرة بالنسبة إلى الجزاء على الأعمال . وقيل : معنى ( لقاؤك حق ) أي الموت ، وأبطله النووي .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقولك حق ) تقدم ما فيه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( والجنة حق والنار حق ) فيه إشارة إلى أنهما موجودتان ، وسيأتي البحث فيه في بدء الخلق .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ومحمد صلى الله عليه وسلم حق ) خصه بالذكر تعظيما له ، وعطفه على النبيين إيذانا بالتغاير بأنه فائق عليهم بأوصاف مختصة ، وجرده عن ذاته كأنه غيره ، ووجب عليه الإيمان به وتصديقه مبالغة في إثبات نبوته كما في التشهد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( والساعة حق ) أي يوم القيامة ، وأصل الساعة : القطعة من الزمان ، وإطلاق اسم الحق على ما ذكر من الأمور معناه أنه لا بد من كونها ، وأنها مما يجب أن يصدق بها . وتكرار لفظ " حق " للمبالغة في التأكيد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( اللهم لك أسلمت ) أي انقدت وخضعت ( وبك آمنت ) أي صدقت ( وعليك توكلت ) أي فوضت الأمر إليك تاركا للنظر في الأسباب العادية [2] ( وإليك أنبت ) ؛ أي رجعت إليك في تدبير أمري .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وبك خاصمت ) أي بما أعطيتني من البرهان ، وبما لقنتني من الحجة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وإليك حاكمت ) أي كل من جحد الحق حاكمته إليك ، وجعلتك الحكم بيننا ، لا من كانت الجاهلية تتحاكم إليه من كاهن ونحوه . وقدم مجموع صلات هذه الأفعال عليها إشعارا بالتخصيص ، وإفادة للحصر ، وكذا قوله : ( ولك الحمد ) وقوله : ( فاغفر لي ) قال ذلك مع كونه مغفورا له ، إما على سبيل التواضع والهضم لنفسه وإجلالا وتعظيما لربه ، أو على سبيل التعليم لأمته لتقتدي به ، كذا قيل ، والأولى أنه لمجموع ذلك ، وإلا لو كان للتعليم فقط لكفى فيه أمرهم بأن يقولوا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وما قدمت ) أي قبل هذا الوقت ( وما أخرت ) عنه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وما أسررت وما أعلنت ) أي أخفيت وأظهرت ، أو ما حدثت به نفسي ، وما تحرك به لساني . زاد في التوحيد من طريق ابن جريج ، عن سليمان ( وما أنت أعلم به مني ) وهو من العام بعد الخاص أيضا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أنت المقدم وأنت المؤخر ) قال المهلب : أشار بذلك إلى نفسه ؛ لأنه المقدم في البعث في الآخرة ، والمؤخر في البعث في الدنيا . زاد في رواية ابن جريج أيضا في الدعوات : ( أنت إلهي لا إله لي غيرك ) . قال الكرماني : هذا الحديث من جوامع الكلم ؛ لأن لفظ القيم إشارة إلى أن وجود الجواهر وقوامها منه ، والنور إلى أن الأعراض أيضا منه ، والملك إلى أنه حاكم عليها إيجادا وإعداما يفعل ما يشاء ، وكل ذلك [ ص: 8 ] من نعم الله على عباده ، فلهذا قرن كلا منها بالحمد ، وخصص الحمد به . ثم قوله : ( أنت الحق ) إشارة إلى المبدأ ، والقول ونحوه إلى المعاش ، والساعة ونحوها إشارة إلى المعاد ، وفيه الإشارة إلى النبوة وإلى الجزاء ثوابا وعقابا ، ووجوب الإيمان والإسلام ، والتوكل والإنابة ، والتضرع إلى الله والخضوع له ، انتهى . وفيه زيادة معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بعظمة ربه ، وعظيم قدرته ، ومواظبته على الذكر والدعاء والثناء على ربه ، والاعتراف له بحقوقه ، والإقرار بصدق وعده ووعيده ، وفيه استحباب تقديم الثناء على المسألة عند كل مطلوب اقتداء به صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال سفيان ، وزاد عبد الكريم أبو أمية ) هذا موصول بالإسناد الأول ، ووهم من زعم أنه معلق ، وقد بين ذلك الحميدي في مسنده عن سفيان قال : " حدثنا سليمان الأحول خال ابن أبي نجيح سمعت طاوسا " ، فذكر الحديث . وقال في آخره : " قال سفيان : وزاد فيه عبد الكريم : ولا حول ولا قوة إلا بك " ولم يقلها سليمان . وأخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق إسماعيل القاضي ، عن علي بن عبد الله بن المديني شيخ البخاري فيه ، فقال في آخره : قال سفيان : وكنت إذا قلت لعبد الكريم آخر حديث سليمان : " ولا إله غيرك " ، قال : " ولا حول ولا قوة إلا بالله " قال سفيان : وليس هو في حديث سليمان ، انتهى . ومقتضى ذلك أن عبد الكريم لم يذكر إسناده في هذه الزيادة ، لكنه على الاحتمال . ولا يلزم من عدم سماع سفيان لها من سليمان أن لا يكون سليمان حدث بها ، وقد وهم بعض أصحاب سفيان فأدرجها في حديث سليمان ، أخرجه الإسماعيلي ، عن الحسن بن سفيان ، عن محمد بن عبد الله بن نمير ، عن سفيان ، فذكرها في آخر الخبر بغير تفصيل ، وليس لعبد الكريم أبي أمية - وهو ابن أبي المخارق - في صحيح البخاري إلا هذا الموضع ، ولم يقصد البخاري التخريج له ، فلأجل ذلك لا يعدونه في رجاله ، وإنما وقعت عنه زيادة في الخبر غير مقصودة لذاتها كما تقدم مثله للمسعودي في الاستسقاء ، وسيأتي نحوه للحسن بن عمارة في البيوع ، وعلم المزي على هؤلاء علامة التعليق ، وليس بجيد ؛ لأن الرواية عنهم موصولة ، إلا أن البخاري لم يقصد التخريج عنهم ، ومن هنا يعلم أن قول المنذري : قد استشهد البخاري بعبد الكريم أبي أمية في كتاب التهجد ليس بجيد ؛ لأنه لم يستشهد به إلا إن أراد بالاستشهاد مقابل الاحتجاج فله وجه ، وأما قول ابن طاهر : إن البخاري ومسلما أخرجا لعبد الكريم هذا في الحج حديثا واحدا عن مجاهد ، عن ابن أبي ليلى ، عن علي في القيام على البدن ، من رواية ابن عيينة ، عن عبد الكريم فهو غلط منه ، فإن عبد الكريم المذكور هو الجزري . والله المستعان .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال سفيان ) هو موصول أيضا ، وإنما أراد سفيان بذلك بيان سماع سليمان له من طاوس لإيراده له أولا بالعنعنة . ووقع في رواية الحميدي التصريح بالسماع كما تقدم . ولأبي ذر وحده هنا ، قال علي بن خشرم ، قال سفيان إلخ . ولعل هذه الزيادة عن الفربري ، فإن علي بن خشرم لم يذكروه في شيوخ البخاري ، وأما الفربري فقد سمع من علي بن خشرم كما سيأتي في أحاديث الأنبياء في قصة موسى والخضر ، فكأن هذا الحديث أيضا كان عنده عاليا ، عن علي بن خشرم ، عن سفيان فذكره لأجل العلو . والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية