الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 462 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      سورة النجم

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى .

                                                                                                                                                                                                                                      اختلف العلماء في المراد بهذا النجم الذي أقسم الله به في هذه الآية الكريمة ، فقال بعضهم : المراد به النجم إذا رجمت به الشياطين ، وقال بعضهم : إن المراد به الثريا ، وهو مروي عن ابن عباس وغيره ، ولفظة النجم علم للثريا بالغلبة ، فلا تكاد العرب تطلق لفظ النجم مجردا إلا عليها ، ومنه قول نابغة ذبيان :


                                                                                                                                                                                                                                      أقول والنجم قد مالت أواخره إلى المغيب تثبت نظرة حار

                                                                                                                                                                                                                                      فقوله : والنجم : يعني الثريا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : إذا هوى : أي سقط مع الصبح ، وهذا اختيار ابن جرير . وقيل : النجم الزهرة ، وقيل : المراد بالنجم نجوم السماء ، وعليه فهو من إطلاق المفرد وإرادة الجمع كقوله : ويولون الدبر [ 54 \ 45 ] ، يعني الأدبار . وقوله : وجاء ربك والملك صفا صفا [ 89 \ 22 ] ، أي : الملائكة ، وقوله : أولئك يجزون الغرفة بما صبروا [ 25 \ 75 ] ، أي الغرف .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قدمنا أمثلة كثيرة لهذا في القرآن ، وفي كلام العرب في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : ثم نخرجكم طفلا [ 22 \ 5 ] ، وإطلاق النجم مرادا به النجوم معروف في اللغة ، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :


                                                                                                                                                                                                                                      ثم قالوا تحبها قلت بهرا     عدد النجم والحصى والتراب

                                                                                                                                                                                                                                      وقول الراعي :


                                                                                                                                                                                                                                      فباتت تعد النجم في مستحيرة     سريع بأيدي الآكلين جمودها

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 463 ] وعلى هذا القول ، فمعنى هوي النجوم سقوطها إذا غربت أو انتثارها يوم القيامة . وقيل : النجم النبات الذي لا ساق له . وقال بعض أهل العلم : المراد بالنجم الجملة النازلة من القرآن ، فإنه نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنجما منجما في ثلاث وعشرين سنة ، وكل جملة منه وقت نزولها يصدق عليها اسم النجم صدقا عربيا صحيحا كما يطلق على ما حان وقته من الدية المنجمة على العاقلة ، والكتابة المنجمة على العبد المكاتب .

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى هذا فقوله : إذا هوى أي نزل به الملك من السماء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم . وقوله : هوى يهوي هويا إذا اخترق الهوا نازلا من أعلى إلى أسفل .

                                                                                                                                                                                                                                      اعلم أولا أن القول بأنه الثريا وأن المراد بالنجم خصوصها ، وإن اختاره ابن جرير وروي عن ابن عباس وغير واحد - ليس بوجيه عندي .

                                                                                                                                                                                                                                      والأظهر أن النجم يراد به النجوم . وإن قال ابن جرير بأنه لا يصح ، والدليل على ذلك جمعه تعالى للنجوم في القسم في قوله تعالى : فلا أقسم بمواقع النجوم [ 56 \ 75 ] ، لأن الظاهر أن المراد بالنجم إذا هوى هنا كالمراد بمواقع النجوم في الواقعة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد اختلف العلماء أيضا في المراد بمواقع النجوم فقال بعضهم : هي مساقطها إذا غابت . وقال بعضهم : انتثارها يوم القيامة . وقال بعضهم : منازلها في السماء ، لأن النازل في محل واقع فيه . وقال بعضهم : هي مواقع نجوم القرآن النازل بها الملك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر الأقوال عندي وأقربها للصواب في نظري - أن المراد بالنجم إذا هوى هنا في هذه السورة ، وبمواقع النجوم في الواقعة هو نجوم القرآن التي نزل بها الملك نجما فنجما ، وذلك لأمرين :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أن هذا الذي أقسم الله عليه بالنجم إذا هوى الذي هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - على حق وأنه ما ضل وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى - موافق في المعنى لما أقسم عليه بمواقع النجوم ، وهو قوله : إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون إلى قوله : تنزيل من رب العالمين [ 56 \ 77 - 80 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 464 ] والإقسام بالقرآن على صحة رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى صدق القرآن العظيم وأنه منزل من الله جاء موضحا في آيات من كتاب الله كقوله تعالى : يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم [ 36 \ 1 - 5 ] . وقوله تعالى : حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم [ 43 \ 1 - 4 ] ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أن كون المقسم به المعبر بالنجوم هو القرآن العظيم - أنسب لقوله بعده : وإنه لقسم لو تعلمون عظيم [ 56 \ 76 ] ، لأن هذا التعظيم من الله يدل على أن هذا المقسم به في غاية العظمة .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا شك أن القرآن الذي هو كلام الله أنسب لذلك من نجوم السماء ونجم الأرض . والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ما ضل صاحبكم وما غوى ، قال بعض العلماء : الضلال يقع من الجهل بالحق ، والغي هو العدول عن الحق مع معرفته ، أي ما جهل الحق وما عدل عنه ، بل هو عالم بالحق متبع له .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قدمنا إطلاقات الضلال في القرآن بشواهدها العربية في سورة الشعراء في الكلام على قوله تعالى : قال فعلتها إذا وأنا من الضالين [ 26 \ 20 ] ، وفي سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى : قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم الآية [ 18 \ 103 - 104 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كونه - صلى الله عليه وسلم - على هدى مستقيم - جاء موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى : فتوكل على الله إنك على الحق المبين [ 27 \ 79 ] ، وقوله تعالى : فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم [ 22 \ 67 ] ، وقوله تعالى : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ 42 \ 52 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى : فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم [ 43 \ 43 ] . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة إن هو إلا وحي يوحى استدل به علماء [ ص: 465 ] الأصول على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يجتهد ، والذين قالوا إنه قد يقع منه الاجتهاد ، استدلوا بقوله تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم الآية [ 9 \ 43 ] وقوله تعالى : ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض الآية [ 8 \ 67 ] . وقوله تعالى : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية [ 9 \ 113 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : فلو لم يكن هذا عن اجتهاد ، لما قال : عفا الله عنك لم أذنت لهم الآية . ولما قال : ما كان لنبي أن يكون له أسرى ، ولا منافاة بين الآيات ، لأن قوله : إن هو إلا وحي يوحى معناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يبلغ عن الله إلا شيئا أوحى الله إليه أن يبلغه ، فمن يقول : إنه شعر أو سحر أو كهانة أو أساطير الأولين - هو أكذب خلق الله وأكفرهم ، ولا ينافي ذلك أنه أذن للمتخلفين عن غزوة تبوك ، وأسر الأسارى يوم بدر ، واستغفر لعمه أبي طالب من غير أن ينزل عليه وحي خاص في ذلك ، وقد أوضحنا هذا في غير هذا الموضع .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية