الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب شرب العصير ما لم يغل أو يأت عليه ثلاث وما طبخ قبل غليانه فذهب ثلثاه

                                                                                                                                            3739 - ( عن عائشة قالت : { كنا ننبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء يوكى أعلاه وله [ ص: 216 ] عزلاء ننبذه غدوة فيشربه عشيا ، وننبذه عشيا فيشربه غدوة } . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي )

                                                                                                                                            3740 - ( وعن ابن عباس قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبذ له أول الليل فيشربه إذا أصبح يومه ذلك ، والليلة التي تجيء والغد والليلة الأخرى والغد إلى العصر ، فإذا بقي شيء سقاه الخدام أو أمر به فصب } . رواه أحمد ومسلم .

                                                                                                                                            وفي رواية : { كان ينقع له الزبيب فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة ، ثم يأمر به فيسقى الخادم أو يهراق } . رواه أحمد ومسلم وأبو داود ، وقال : معنى يسقى الخادم يبادر به الفساد .

                                                                                                                                            وفي رواية : { كان ينبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيشربه يومه ذلك والغد واليوم الثالث ، فإن بقي شيء منه أهرقه ، أو أمر به فأهريق } . رواه النسائي وابن ماجه ) .

                                                                                                                                            3741 - ( وعن أبي هريرة قال : { علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء ، ثم أتيته به فإذا هو ينش ، فقال : اضرب بهذا الحائط ، فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر } رواه أبو داود والنسائي . وقال ابن عمر في العصير : اشربه ما لم يأخذه شيطانه ، قيل : وفي كم يأخذه شيطانه ؟ قال : في ثلاث . حكاه أحمد وغيره ) .

                                                                                                                                            3742 - ( وعن أبي موسى أنه كان يشرب من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه . رواه النسائي وله مثله عن عمر وأبي الدرداء . وقال البخاري : رأى عمر وأبو عبيدة ومعاذ شرب الطلاء على الثلث ، وشرب البراء وأبو جحيفة على النصف ، وقال أبو داود : سألت أحمد عن شرب الطلاء إذا ذهب ثلثاه وبقي ثلثه ؟ فقال : لا بأس به ، فقلت : إنهم يقولون يسكر ؟ قال : لا يسكر ، لو كان يسكر ما أحله عمر رضي الله عنه ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث عائشة تقدم في باب ما جاء في الخليطين وأخرج أبو داود أيضا { عن عائشة أنها كانت تنتبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم غدوة ، فإذا كان من العشاء فتعشى شرب على عشائه ، وإن فضل شيء صبته أو فرغته ثم تنبذ له بالليل ، فإذا أصبح تغدى فشرب على غدائه قالت : نغسل السقاء غدوة وعشية ، فقال لها : أي مرتين في يوم ؟ قالت : نعم } .

                                                                                                                                            [ ص: 217 ] وحديث أبي هريرة أخرجه ابن ماجه وسكت عنه أبو داود والمنذري : ورجال إسناده ثقات . وقد اختلف في هشام بن عمار ولكنه قد أخرج له البخاري . وأما قوله : وله مثله عن عمر فهو ما أخرجه النسائي من طريق عبد الله بن يزيد الخطمي قال : " كتب عمر اطبخوا شرابكم حتى يذهب نصيب الشيطان اثنين ولكم واحد " وصحح هذا الحافظ في الفتح . وأخرج مالك في الموطأ من طريق محمود بن لبيد الأنصاري أن عمر بن الخطاب حين قدم الشام شكا إليه أهل الشام وباء الأرض وثقلها وقالوا : لا يصلحنا إلا هذا الشراب فقال عمر : اشربوا العسل ، قالوا : ما يصلحنا العسل ، قال رجل من أهل الأرض : هل لك أن تجعل من هذا الشراب شيئا لا يسكر ؟ فقال : نعم ، فطبخوا حتى ذهب منه الثلثان وبقي الثلث فأتوا به عمر فأدخل فيه أصبعه ثم رفع يده فتبعها يتمطط ، فقال : هذا الطلاء مثل طلاء الإبل . فأمرهم عمر أن يشربوه وقال : اللهم إني لا أحل لهم شيئا حرمته عليهم . وأخرج سعيد بن منصور من طريق أبي مجلز عن عامر بن عبد الله قال " كتب عمر إلى عمار : أما بعد فإنه جاءني عير تحمل شرابا أسود كأنه طلاء الإبل ، فذكروا أنهم يطبخونه حتى يذهب ثلثاه الأخبثان ثلث بريحه وثلث ببغيه ، فمر من قبلك أن يشربوه " . ومن طريق سعيد بن المسيب أن عمر أحل من الشراب ما يطبخ فذهب ثلثاه وبقي ثلثه ، وأثر أبي عبيدة ومعاذ أخرجه أبو مسلم الكجي وسعيد بن منصور بلفظ يشربون من الطلاء ما يطبخ على الثلث وذهب ثلثاه " قال في الفتح : وقد وافق عمر ومن ذكر معه على الحكم المذكور أبو موسى وأبو الدرداء . أخرجه النسائي عنهما وعلي وأبو أمامة وخالد بن الوليد وغيرهم ، أخرجها ابن أبي شيبة وغيره من التابعين ابن المسيب والحسن وعكرمة ، ومن الفقهاء الثوري والليث ومالك وأحمد والجمهور وشرط تناوله عندهم ما لم يسكر ، وكرهه طائفة تورعا . وأثر البراء أخرجه ابن أبي شيبة من رواية عدي بن ثابت عنه أنه كان يشرب الطلاء على النصف : أي إذا طبخ فصار على النصف .

                                                                                                                                            وأثر أبي جحيفة أخرجه أيضا ابن أبي شيبة ووافق البراء وأبا جحيفة جرير . ومن التابعين ابن الحنفية وشريح . وأطلق الجميع على أنه إن كان يسكر حرم . قال أبو عبيدة : بلغني أن النصف يسكر فإن كان كذلك فهو حرام ، والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف أعناب البلاد فقد قال ابن حزم : إنه شاهد من العصير ما إذا طبخ إلى الثلث ينعقد ولا يصير مسكرا أصلا ، ومنه ما إذا طبخ إلى النصف كذلك ، ومنه ما إذا طبخ إلى الربع كذلك ، بل قال : إنه شاهد منه ما لو طبخ حتى لا يبقى غير ربعه لا ينفك عنه السكر ، قال : فوجب أن يحمل ما ورد عن الصحابة من أمر الطلاء على ما لا يسكر بعد الطبخ .

                                                                                                                                            وأخرج النسائي من طريق عطاء عن ابن عباس بسند صحيح [ ص: 218 ] أنه قال : " إن النار لا تحل شيئا ولا تحرمه " وأخرج النسائي أيضا من طريق أبي ثابت قال الثعلبي : كنت عند ابن عباس فجاءه رجل يسأله عن العصير ، فقال : اشربه ما كان طريا ، قال : إني طبخت شرابا وفي نفسي ، قال : كنت شاربه قبل أن تطبخه ؟ قال : لا ، قال : فإن النار لا تحل شيئا قد حرم . قال الحافظ : وهذا يقيد ما أطلق في الآثار الماضية ، وهو أن الذي يطبخ إنما هو العصير الطري قبل أن يتخمر ، أما لو صار خمرا فطبخ فإن الطبخ لا يحله ولا يطهره إلا على رأي من يجيز تخليل الخمر ، والجمهور على خلافه . وأخرج ابن أبي شيبة والنسائي من طريق سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي " اشربوا العصير ما لم يغل " وعن الحسن البصري : ما لم يتغير ، وهذا قول كثير من السلف أنه إذا بدا فيه التغير يمتنع .

                                                                                                                                            وعلامة ذلك أن يأخذ في الغليان ، وبهذا قال أبو يوسف ، وقيل إذا انتهى غليانه وابتدأ في الهدو بعد الغليان ، وقيل : إذا سكن غليانه . وقال أبو حنيفة : لا يحرم عصير العنب إلى أن يغلي ويقذف بالزبد ، فإذا غلى وقذف بالزبد حرم . وأما المطبوخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه فلا يمتنع مطلقا ولو غلى وقذف بالزبد بعد الطبخ . وقال مالك والشافعي والجمهور : يمتنع إذا صار مسكرا شرب قليله وكثيره سواء غلى أم لا ; لأنه لا يجوز أن يبلغ حد الإسكار بأن يغلي ثم يسكن غليانه بعد ذلك وهو مراد من قال : حد منع شربه أن يتغير .

                                                                                                                                            وأخرج مالك بإسناد صحيح أن عمر قال : إني وجدت من فلان ريح شراب فزعم أنه شرب الطلاء وإني سائل عما شرب فإن كان يسكر جلدته ، فجلده عمر الحد تاما .

                                                                                                                                            وفي السياق حذف والتقدير فسأل عنه فوجده يسكر فجلده . وأخرج سعيد بن منصور عنه نحوه ، وفي هذا رد على من احتج بعمر في جواز المطبوخ إذا ذهب منه الثلثان ولو أسكر بأن عمر أذن في شربه ولم يفصل . وتعقب بأن الجمع بين الأثرين ممكن بأن يقال : سأل ابنه فاعترف بأنه شرب كذا ، فسأل غيره عنه فأخبره أنه يسكر ، أو سأل ابنه فاعترف أنه يسكر .

                                                                                                                                            وقال أبو الليث السمرقندي : شارب المطبوخ إذا كان يسكر أعظم ذنبا من شارب الخمر ; لأن شارب الخمر يشربها وهو عالم أنه عاص بشربها ، وشارب المطبوخ يشرب المسكر ويراه حلالا . وقد قام الإجماع على أن قليل الخمر وكثيره حرام . وثبت قوله صلى الله عليه وسلم : { كل مسكر حرام } ومن استحل ما هو حرام بالإجماع كفر قوله : ( يوكى ) أي يشد بالوكاء وهو غير مهموز قوله : ( وله عزلاء ) بفتح العين المهملة وإسكان الزاي وبالمد : وهو الثقب الذي يكون في أسفل المزادة والقربة قوله : ( فيشربه عشاء ) قال النووي : هو بكسر العين وفتح الشين ، وضبطه بعضهم بفتح العين وكسر الشين وزيادة ياء مشددة .

                                                                                                                                            قال القرطبي : هذا يدل على أن أقصى زمان الشراب ذلك المقدار فإنه لا تخرج حلاوة التمر أو الزبيب في أقل من ليلة أو يوم . [ ص: 219 ] والحاصل أنه يجوز شرب النبيذ ما دام حلوا غير أنه إذا اشتد الحر أسرع إليه التغير في زمان الحر دون زمان البرد . قوله : ( إلى مساء الثالثة ) قال النووي : مساء الثالثة يقال بضم الميم وكسرها لغتان مشهورتان ، والضم أرجح . قوله : ( فيسقي الخادم ) هذا محمول على أنه لم يكن قد بلغ إلى حد السكر ; لأن الخادم لا يجوز أن يسقي المسكر كما لا يجوز له شربه ، بل تتوجه إراقته .

                                                                                                                                            قوله : ( أو يهراق ) بضم أوله ، لأنه إذا صار مسكرا حرم شربه وكان نجسا فيراق . قوله : ( فتحينت فطره ) أي طلبت حين فطره . قوله : ( صنعته في دباء ) أي قرع . قوله : ( ينش ) بفتح الياء التحتية وكسر النون : أي إذا غلى يقال : نشت الخمر تنش نشيشا إذا غلت قوله : ( اضرب بهذا الحائط ) أي اصببه وأرقه في البستان وهو الحائط قوله : ( في ثلاث ) فيه دليل على أن النبيذ بعد الثلاث قد صار مظنة لكونه مسكرا فيتوجه اجتنابه قوله : ( من الطلاء ) بكسر المهملة والمد شبه بطلاء الإبل وهو في تلك الحال غالبا لا يسكر .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية