الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
فصل في تنزيه الله القرآن عن أن يكون شعرا .

مع أن الموزون في الكلام رتبته فوق رتبة المنظوم غير الموزون ; فإن كل موزون منظوم ، ولا عكس ، وقال تعالى : وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ( يس : 69 ) فأعلم سبحانه وتعالى أنه نزه القرآن عن نظم الشعر والوزن ; لأن القرآن مجمع الحق ، ومنبع الصدق ، وقصارى أمر الشاعر التحصيل بتصوير الباطل في صورة الحق ، والإفراط في الإطراء ، والمبالغة في الذم والإيذاء دون إظهار الحق ، وإثبات الصدق منه كان بالعرض ، ولهذا قال تعالى : وما هو بقول شاعر ( الحاقة : 41 ) أي كاذب ولم يعن أنه ليس بشعر ; فإن وزن الشعر أظهر من أن يشتبه عليهم حتى يحتاج إلى أن ينفى عنه ، ولأجل شهرة الشعر بالكذب سمى المنطقيون القياسات المؤدية في أكثر الأمر إلى البطلان والكذب شعرية .

فإن قيل : فقد وجد في القرآن ما وافق شعرا موزونا ، إما بيت تام ، أو أبيات ، أو مصراع ، كقول القائل :


وقلت لما حاولوا سلوتي هيهات هيهات لما توعدون

وقوله : وجفان كالجواب وقدور راسيات ( سبأ : 13 ) قالوا : هذا من الرمل .

وكقوله : ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه ( فاطر : 18 ) قالوا : هو من الخفيف .

[ ص: 243 ] وقوله : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب قالوا : هو من المتقارب ، أي بإسقاط ( مخرجا ) .

وقوله : ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا .

ويشبعون حركة الميم فيبقى من الرجز ، وحكي أن أبا نواس ضمنه فقال :


وفتية في مجلس وجوههم     ريحانهم قد عدموا التثقيلا
( دانية عليهمو ظلالها     وذللت قطوفها تذليلا )

وقوله تعالى : ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين قالوا : هو من الوافر .

وقوله تعالى : أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم قالوا : هو من الخفيف .

وقوله تعالى : والعاديات ضبحا فالموريات قدحا ( العاديات : 1 و 2 ) ونحو قوله : والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا ( الذاريات : 1 - 3 ) وهو عندهم شعر من بحر البسيط .

وقوله تعالى : ومن الليل فسبحه وأدبار السجود ( ق : 40 ) .

وقوله تعالى : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ( آل عمران : 92 ) .

وقوله تعالى : فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ( الكهف : 22 ) .

وقوله تعالى : لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ( هود : 43 ) .

وقوله تعالى : تبت يدا أبي لهب ( المسد : 1 ) .

[ ص: 244 ] وقوله تعالى : نصر من الله وفتح قريب ( الصف : 13 ) وقوله تعالى : إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ( الأنفال : 38 ) وقوله تعالى : إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم ( القصص : 76 ) .

ويحكى أنه سمع أعرابي قارئا يقرأ : ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ( الحج : 1 ) قال : كسرت ; إنما قال :


يا أيها الناس اتقوا ربكم     زلزلة الساعة شيء عظيم

فقيل له : هذا القرآن وليس بشعر .

فالجواب ; قال القاضي أبو بكر : إن الفصحاء منهم لما أورد عليهم القرآن لو اعتقدوه شعرا لبادروا إلى معارضته ; لأن الشعر منقاد إليهم ، فلما لم يعمدوا إلى ذلك دل على أنهم لم يعتقدوا فيه ذلك ، فمن استدرك فيه شعرا زعم أنه خفي على أولئك النفر ، وهم ملوك الكلام مع شدة حاجتهم إلى الطعن في القرآن ، والغض منه والتوصل إلى تكذيبه بكل ما قدروا عليه ، فلن يجوز أن يخفى على أولئك وأن يجهلوه ويعرفه من جاء الآن ، فهو بالجهل حقيق .

وحينئذ فالذي أجاب به العلماء عن هذا أن البيت الواحد وما كان على وزنه لا يكون شعرا ، وأقل الشعر بيتان فصاعدا ، وإلى ذلك ذهب أكثر أهل صناعة العربية من أهل الإسلام .

وقالوا أيضا : إن ما كان على وزن بيتين إلا أنه يختلف وزنهما وقافيتهما فليس بشعر أصلا .

ثم منهم من قال : إن الرجز ليس بشعر أصلا ، لا سيما إذا كان مشطورا أو منهوكا .

[ ص: 245 ] وكذا ما يقاربه في قلة الأجزاء ، وعلى هذا يسقط السؤال .

ثم نقول : إن الشعر إنما ينطلق متى قصد إليه على الطريق التي تعمد وتسلك ، ولا يصح أن يتفق مثله إلا من الشعراء دون ما يستوي فيه العامي والجاهل ، وما يتفق من كل واحد ، فليس بشعر ; فلا يسمى صاحبه شاعرا ، وإلا لكان الناس كلهم شعراء ; لأن كل متكلم لا ينفك أن يعرض في جملة كلامه ما يتزن بوزن الشعر وينتظم بانتظامه .

وقيل : أقل ما يكون من الرجز شعرا أربعة أبيات ، وليس ذلك في القرآن بحال .

قال القاضي : وهذه الطريق التي سلكوها في الجواب معتمدة ، أو أكثرها . ولو كان ذلك شعرا لكانت النفوس تتشوق إلى معارضته ، لأن طريق الشعر غير مستصعب على أهل الزمان .

التالي السابق


الخدمات العلمية